أما ابن حجاج حاكم إشبيلية فإنه اضطر الأمير إلى مصالحته ومصادقته وحمل أعباء الحكم كريما نبيلا، وأخذ رعيته بالرفق، فرفرف فوقها علم السلام والطمأنينة، وعاقب المجرمين بعدل وصرامة، وأقام مراسم الملك في جلال وعظمة، وبلغ حرسه خمسمائة فارس، وكان رداؤه الملكي من الحرير المنسوج بخيوط الذهب والفضة، كتب عليه اسمه وألقابه بالذهب الخالص، وذاعت شهرته فراسله الملوك من وراء البحر وبعثوا إليه بهداياهم، وتوافد عليه العلماء والفقهاء من المدينة المنورة، وازدان قصره بأشهر المغنين من بغداد، وكانت جاريته «قمر» البغدادية شاعرة رائعة الحسن، بديعة الصوت، فصيحة اللسان، مرهفة الحس، وهي التي تقول فيه:
ما في المغارب من كريم يرتجى
إلا حليف الجود إبراهيم
أنى حللت لديه منزل نعمة
كل المنازل ما عداه ذميم
وقد اجتذب إلى قصره الشعراء، فأمه جميعهم، حتى شعراء قرطبة الذين وثقوا من كرمه وتكريمه، وأعرض مرة عن شاعر وأنبه لأنه أراد أن يسره بهجاء منافسيه من أشراف قرطبة، وكان من قوله له: لقد كذبتك نفسك يا هذا إن ظننت أن رجلا مثلى يهش لسماع هذا الهجاء الدنيء.
ولكن كل هذه الأشعة اللامعة من الحياة الأدبية والثقافية لم تخفف إلا قليلا من اضطراب الفوضى العامة التي شملت ربوع الأندلس وصيرتها فريسة للكوارث التي منها ضعف حكومة قرطبة، وخروج كثير من حكام الأقاليم عن الطاعة، وانتشار عصابات اللصوص وقطاع الطرق بالبلاد، حتى صارت المملكة إلى حال تستنزف الدمع من الشئون، وأصبحت قرطبة نفسها - وقد توالت عليها غارات ابن حفصون ورجال عصائبه - في حزن مقعد مقيم، وكانت وإن لم تحاصر بالفعل تقاسي ما هو شر من الغزو وأشد من الحصار، ويقول مؤرخو العرب:
كانت حال قرطبة تشبه حال ثغر تعرض لهجمات الأعداء، فكثيرا ما فزع سكانها من نومهم في جوف الليل لصياح الزراع على شاطئ النهر وقد وثب عليهم لصوص الطرق يغمدون سيوفهم في رقابهم.
وكتب بعض من حضر هذا العهد يقول: «لقد أصيبت المملكة بانحلال شامل؛ فقد تلت المصائب المصائب فهي لا تنقطع، واستمر النهب والسرقات، وجرت زوجاتنا وأولادنا قسرا إلى الأسر والعبودية.»
وعمت الشكاية من تهاون الأمير وضعفه وضعته، وتذمر الجنود لمنع أعطياتهم، وضنت الولايات بإرسال حاصلاتها، وخلت خزائن الدولة من المال فأصبحت قفرا يبابا، وكل ما استطاع الأمير أن يقترضه من المال رشا به بعض العرب الذين كانوا يراءونه ويصطنعون له الإخلاص، وأظهر خلاء الأسواق من الأقوات ما أصاب التجارة من الضرر الفادح والبوار، وأصبح ثمن الخبز فوق متناول الخيال، وعاد الناس - وقد ملكهم اليأس - لا يفكرون إلا في يومهم، أما الفقهاء والمتزمتون فقد عدوا ذلك من سخط السماء، وأن ابن حفصون لم يكن إلا آلة لنقمة الله وغضبه، ثم أخذوا ينشرون بين الناس تكهنات مفجعة محزنة، وكم صاحوا يقولون:
अज्ञात पृष्ठ