فهاجت لذلك الحكومة الرومانية في مصر ورومية وهاجت الطبقات الغنية، فقد كان لا يمضي يوم إلا ويسمع الأغنياء بأن المسيحيين سيذبحونهم ويوزعون أموالهم على السواء بينهم ويعيشون في شبه شيوعية كما كان يعيش حواريو المسيح.
فأخذ نيرون ودقلديانوس في الضرب على أيدي النصارى ومكافحة هذا الدين الجديد، وصارت الحكومات الرومانية تضطهد المسحيين وتقبض عليهم في كل مكان، وتأمر بقتلهم أو رجوعهم إلى ديانة الأوثان، فكان ضعاف القلوب والإيمان وذوو المسئوليات العائلية ينكرون إيمانهم جهرا ويؤمنون به سرا، وهم في كل ذلك ينتظرون الزمن السعيد الذي يزول فيه عن الناس حكم الناس ولا يبقى سوى حكم الله.
وكان في إحدى مدن الصعيد شاب يدعى جورجي، وكان من أسرة غنية إذ كان أبوه قاضيا في المدينة، وكان الأغنياء يشبهون بالرومانيين في التسمي بأسمائهم دون الأسماء المصرية، ونشأ جرجي معبدا يغشى المعابد ويصلي أمام الآلهة وكثيرا ما كان يقضي طول نهاره وهو قائم يتعبد وكان يتهجد أيضا بعض الليل.
وكان يكره المسيحيين ويعتبرهم كفرة طغاة يجب أن يتقرب الإنسان إلى الآلهة بذبحهم، وكان يلاحظ أحوال الخدم في بيت أبيه ويحذرهم من الانضمام إلى تلك الشيعة الجديدة التي تدعي أنها مؤمنة بإله لا يرى ولا يحس.
وكان الخدم يعرفون تعصبه للأوثان فيتظاهرون بالطاعة ويضمرون بالمسيحية، ولكن كان من بينهم خادم حصيف رأى من حرارته الدينية وشدة إيمانه مادة غفلا يمكن استعمالها في نشر المسيحية، فصار يتقرب إليه ويتلطف له في الحوار، يراجعه بالحسنى ويداوره بالمكر حتى استطاع أن يأخذه إلى أحد أندية المسيحيين بعد أن استوثق منه ألا يفشي سرهم.
وذهب جرجي مع الخادم إلى حيث يجتمع المسيحيون، وكانوا يجتمعون في جبانة قديمة مهجورة، وكان أكثر قبورها مكشوفا محطما، فرأى هناك شيئا غريبا لم ير مثله قط بين عبدة الأوثان.
فقد اعتاد أن يرى كهنة الأوثان يضعون أفخر الحلل ويأكلون أشهى الأطعمة ويعيشون أنعم عيشة يتقلبون في الترف واللذة، عليهم الديباج والذهب ولهم الخدم والحشم والضياع الواسعة العامرة تأتيهم بالريع الكثير والخير العميم، أما هؤلاء المسيحيون فكانوا في خرق بالية قد خرجوا من كل ما يملكون إلا إيمانهم بربهم وحبهم للناس ورغبتهم في خدمة الفقير، وكانوا إذا وقفوا للصلاة أداموا الوقوف والسجود ساعات متوالية فإذا وعظهم واحد منهم خروا على وجوههم وبكوا أحر البكاء، يفعلون ذلك حتى يطلع الفجر فيعودون إلى أعمالهم بالنهار.
فأخذ جرجي في محاجة شيوخهم عن الإيمان الحقيقي فلم يدم الحال طويلا حتى آمن إيمانهم.
ولكنه لم يكن خائر النفس ضعيف الإيمان حتى يضمره ويظهر الوثنية، فإنه جهر بدينه الجديد وصار يتصدى للأغنياء ويدعوهم إلى ترك أموالهم للفقراء والإيمان بالمسيحية، وينذرهم بالعقاب العاجل الذي سينزل من السماء ويحل بهم إذا هم أصروا على عبادة الأوثان، ولو كانت الدعوة إلى المسيحية في تلك الأيام مقصورة على الإيمان فقط لما وجد المسيحيون عناء في هدم الأصنام وتعميم المسيحية، ولكنهم كانوا يطلبون من الأغنياء ترك أموالهم وتوزيعها بين الفقراء.
فهاج الأغنياء لهذه الدعوة الجديدة، وعقدوا محفلا أوضح فيه خطباؤهم أن جرجي قد أثار الفقراء علي الأغنياء وأنه كسر بعض الأصنام، وأنه يعتز بوجود أبيه في كرسي قضاة المدينة فهو لا يقبض عليه ولا يحكم عليه بالموت مع أن غيره ممن جهر بهذه الدعوة قد حكم عليه بالموت.
अज्ञात पृष्ठ