وخلا إلى زوجه ذات يوم وقال لها: اسمعي يا سمية. إن إجازتنا قاربت نهايتها، ويخيل إلي أن أباك لن يجد لي عملا بمصر، لتظلي أنت معه ومع أمك بها. وإني لشاكر له عنايته بي، لكنني أشعر بأنني لا طاقة لي بالمقام هنا؛ لأنني أحسب أن ما سأناله من أجر عن عملي، سيعطى إلي وكأنه صدقة إكراما لخاطر أبيك. كما أنني سأحس دائما بالوحشة التي أحسست أنت بها يوم دعوتك لنذهب إلى روسيا. فإذا رأيت أنت المقام بين أهلك هنا زمنا أطول مما قضينا، فلا اعتراض لي. أما أنا فأريد العود إلى باريس، لاستئناف عملي بها، بعد الذي كسبت من ثقة أرباب العمل بي، ثقة أطمع معها في مركز خير من مركزي الحاضر. ويوم تهفو نفسك للحضور إلى عشنا، ألفيتني في انتظارك على لظى الجمر!
ونظرت إليه سمية بعينين ملئتا عتابا، وقالت: أوتظنني أوثر عليك أحدا، أو أوثر في الدنيا مكانا لست أنت فيه؟ أنت يا سليم أهلي ووطني، وإذا استطعت أنت أن تبتعد عني، فلا طاقة لي بالبعد عنك. أوحسبت رخاء العيش هنا يغريني إذا لم تكن أنت في هذا الرخاء شريكي؟ إن كسرة خبز نأكلها معا في عشنا الصغير بباريس، أحب إلي وأشهى عندي من أشهى الأطعمة وأفخر الموائد إذا جلست عليها من غيرك، ولن أناقشك فيما تحدثني الآن فيه. وسأذكر لوالدي أننا عائدان لتسلم عملنا بباريس بانتهاء الإجازة التي سمح لنا بها!
وامتلأت عينا سليم بالدمع، فقبلها وقال لها: شكرا لك ألف شكر يا عزيزتي! لقد رددت الآن إلي روحي، وقد أوشكت أن تبلغ التراقي. وقد جمع الله قلبينا فلن يفرق بيننا شيء في الحياة!
وعاد الزوجان وطفلهما إلى باريس، واستأنفا عملهما بها. وبعد أشهر دعا رب العمل سليما، وقال له: إن لشركتنا بالأرجنتين أعمالا واسعة، وقد رأيت أن أجزيك عن أمانتك وكفايتك، بنقلك إلى هناك ومضاعفة مرتبك، وأنا أعلم أن زوجتك تعمل في مؤسسة على مقربة منا، وطبيعي أن تصحبك، وستتقاضى هناك من شركتنا ضعف مرتبها كذلك. وللشركة مدرسة يتعلم فيها أبناء موظفيها، فإن راقك ما أعرضه الآن عليك، فأبلغني موافقتك وموافقة زوجك غدا، لأنفذه من أول الشهر!
وحدث سليم سمية فيما عرضه مدير الشركة عليه، وهو يخشى عدم ارتياحها له، لما يعرف من شدة حبها لباريس. وأدهشه أنها لم تتردد، بل قالت له: نعم. هيا بنا إلى أمريكا الجنوبية، إن بها أبوابا واسعة للثراء، وليس يعنيني ذلك من أجلنا، بل من أجل ولدنا، ضمانا لمستقبله!
وسافر ثلاثتهم أول الشهر، وبعد أن أقاموا بالأرجنتين عاما وبعض العام، تعرفت سمية إلى لبناني عرض عليها الاشتراك معه في عمل يدر أرباحا ضخمة، مع بقائهما بالشركة التي يعملان فيها. وقبل مدير الشركة أن تظل سمية في عملها وأن ينقطع سليم لمزاولة العمل الجديد.
وكذلك استطاعا في أعوام معدودة أن يصبحا من أصحاب الثروة والإيراد الضخم!
وكبر ولدهما، فعهدا إليه في عملهما الخاص بوظيفة يجني منها ربحا لنفسه.
وإن سمية لتعود من عملها ذات مساء، إذ ألفت في بيتها برقية تنبئها بأن أباها مريض اشتدت به العلة، وأنه يريد أن يراها، فطارت إلى مصر وبقيت إلى جانبه حتى قضى نحبه، ثم عادت إلى زوجها وولدها واستأنفت نشاطها في عملها، وكانت بلغت به مقاما محمودا.
وتعاقبت السنون، ومرضت سمية يوما مرضا طال بها، وأشفق منه زوجها على حياتها. وفيما هو جالس ذات مساء إلى جانبها يواسيها قالت له: إن لي يا سليم مشيئة أخيرة، أحسبك لا تأباها علي، إنني أشعر بدنو الأجل، وقد هفت نفسي إلى ثرى الوطن أستقر فيه إلى جانب أبي وأمي، فإذا اختارني ربي فانقلني إلى هناك، أرقد في صحراء القاهرة رقدة الأبد!
अज्ञात पृष्ठ