جعلت سمية تقلب هذه الحجج في دخيلة نفسها طول ليلها، فجفاها النوم إلى مطلع الفجر. وفي الظهيرة التقى بها سليم في المطعم الذي يتناولان الغداء فيه، فنظر إليها بعين فيها الاستفهام، كأنما يريد أن يعرف رأيها فيما عرضه عليها. وأمسكت هي عن الجواب، فصرف الحديث إلى موضوع آخر.
وتحدث إليها صبح الغد بالتليفون، ليلتقيا في حديقة اللوكسمورج. فلما تقابلا وبادلته التحية، لم يمهلها أن قال لها: لقد قضيت الليلتين الماضيتين لا أذوق طعم النوم في انتظار جوابك، فهل أطمع في أن أسمعه اليوم؟
وأجابته: «لقد كان شأني مع النوم شأنك ... والآن أنت وما تريد. ولندع الله أن يسعدنا بهذا الزواج!»
وتزوجا. وبعد سنتين أنجبا غلاما، ولم يمنع ذلك سمية من متابعة دراستها والحصول على الدكتوراه التي التحقت بالسوربون لتحصل عليها. ووضعت الحرب بعد ذلك أوزارها، واستعادت فرنسا حريتها، وعادت المراسلات بين مصر وباريس، وكتبت سمية إلى أمها تزف إليها البشرى بنجاحها، وتخبرها كذلك بزواجها، وبالغلام الذي رزقها الله ثمرة لهذا الزواج.
وكررت سمية في خطابها مرات عدة أن زوجها مسلم من آباء وأجداد مسلمين، وأن الإسلام وطن للمؤمنين به جميعا، وأن ذلك هو الذي أقنعها بالزواج منه، بعد الذي رأته من كمال صفاته، واستيقنته من كريم حسبه!
مع ذلك ريع أبواها لنبأ زواجها، فلم ينبئا به أحدا، وبلغ من روع أمها أن قدرت أنها فقدت سمية إلى الأبد، ولولا مخافتها أن يفتضح الأمر - وهي حريصة على إخفائه - للبست السواد على هذه البنت، كما لبسته على أخت لها ماتت من قبل ودفنت في صحراء القاهرة!
وكتبت الأم إلى سمية كتابا قاسيا، ذكرتها فيه بالعهد الذي نكثته، وبالعار الذي جلبته على أهلها، وذكرت لها أنها لم تعد ابنتها، وأنها لا تريد قط أن تراها، وأن قلبها، قلب الأم، ساخط عليها وعلى فعلتها النكراء.
ولم تخف سمية عن زوجها غضب أمها، فقال سليم: «فلنذهب إلى روسيا، وستجدين في بلادي وبين أهلي ما يهون عليك غضب أهلك.»
قالت: «أوتراك تريد أن نترك ما نستمتع به من حرية في باريس، لنعيش في جو الإرهاب الشيوعي، لا يعرف الإنسان فيه ما مصيره إذا أبدى رأيا لا يعجب الحاكمين! كلا يا صديقي! إن شئت أنت فاذهب إلى أهلك، ودعني هنا مع ولدي، فإني أوثر الحرية ولا أرضى بها بديلا! وكيف تحسب أهلك يستطيعون أن يهونوا علي غضب أهلي، وهم لا يعرفون لغتي، وأنا لا أعرف لغتهم، ولا أخالني قادرة في هذا السن على أن أتعلمها؟!»
والحق أن سليما لم يكن يؤمن بالشيوعية، وكان يرى فيها الكثير مما يخالف الإسلام دينا ونظاما. وهو لم ينس أن ابن عم له حوكم منذ بضع سنوات وحكم عليه بالنفي، لغير شيء إلا اتهامه بأنه لا يتلاءم مع العهد. لكن مرتب سمية المدرسي كان قد قطع لأول ما انتهت الحرب وعرفت الحكومة أنها تزوجت من غير مصري. وهي لم تكن تطمع في معونة من أهلها، وقد أغضبهم تصرفها، ولم يكن ما يتناوله سليم من أهله، يكفيهم للعيش في باريس، عيشا معقولا. وليس من السهل أن يجد هو، أو تجد هي، عملا كريما في فرنسا، برغم درجاتها العلمية العليا؛ لأن أبناء فرنسا كانوا بحاجة - بعد السنوات الخمس التي احتل الألمان وطنهم في أثنائها - إلى كل عمل فيها، وكل وظيفة من وظائف الشركات أو الأعمال الحرة، التي بدأت نشاطها أو عادت إليه. فكيف السبيل مع ذلك كله إلى البقاء في باريس، ومواجهة هذه الظروف جميعا؟
अज्ञात पृष्ठ