بعد أيام من هذا الحديث، أقبل فريد إلى المصحة، ودخل عند عزة، وعيناه تفيضان سرورا. فلما رأته أيقنت أن خطبتها تم فصمها، فغلبها الفرح الذي غلب محبها، ونطقت بذلك أساريرها. لكنها أرادت أن تداعب فريدا، فقالت: أراك اليوم مسرورا بحل خطبتي شماتة! أوذلك هو الحب الذي كنت تحدثني من قبل عنه؟!
وأخذ فريد حين سمع هذا الكلام، فنظر إليها وكله الإشفاق والمحبة، وقال: أوترضى شفتاك أن تنطقا بمثل هذا الكلام ولو على سبيل الدعابة؟ أنا يا عزة أشمت بك أنت، وأنت حياتي وأعز من حياتي؟! إنما سررت لحل خطبتك لأجدد لك عهدا قطعناه أن يتوج الزواج حبنا، وإنني لعلى ثقة اليوم بأن الشفاء قريب منا، وأن الله أراد أن يبلو حالي بما أصابنا، ليعلم أن للحب قدسية واجبة الاحترام. وهأنذا أقطع لك العهد من جديد، على أن نتزوج، أفتقطعين لي أنت مثل هذا العهد صادقة؟
وارتبكت الفتاة لما سمعت، وتولتها الحيرة دون الجواب. أفمن حقها أن تقطع مثل هذا العهد، والمرض العضال يعبث بصدرها، وفريد في صحة وفتوة شبابه؟ وبدا عليها من الوجوم ما أدهش فريدا، فقال: ما كنت أحسب عواطفك نحوي تغيرت بهذا القدر، بل حسبتك اغتبطت بحل خطبتك اغتباطي أنا بذلك، لنعود إلى عهدنا الأول.
ونظرت إليه عزة بعينين ترقرقت فيهما دمعة لم تنحدر، وقالت: أفمن حق مثلي أن يقطع اليوم مثل هذا العهد؟ أنت لا تعلم، وأنا لا أعلم، كم يطول مقامي هنا، وما يكون مصيري بعد هذا المقام، فكيف تطلب إلي أن أقطع عهدا قد أعجز عن الوفاء به؟ ولولا هذا الشعور، لكنت أسرع منك إلى قطع هذا العهد. وكل ما أستطيع أن أقوله: «إنني أحببتك، وإنني أحبك، وإنني سأحبك ما بقيت في هذه الدنيا، وستحبك روحي حتى نلتقي في رحاب الآخرة، وفي رحمة الغفور الرحيم!»
وصاح فريد: «حسبي منك ذلك العهد. والغفور الرحيم رءوف بعباده، وأنا موقن بأنه سيشفيك لي، فيتوج الزواج عهدنا غدا، كما كنا نرجو أن يتوجه بالأمس. لقد عاهدني قلبي يوم خطبتك لابن أسعد بك ألا يحب غيرك، وألا تشركني في حياتي امرأة سواك. وقد وفى قلبي بعهده، وفتح الله أمامنا اليوم صفحة جديدة من صفحات الأمل في دوام الوفاء!»
وانصرف فريد من زيارته سعيدا بها كل السعادة. ولم تلبث عزة حين خرج أن قامت إلى نضد زينتها، ونظرت إلى وجهها في المرآة، فاطمأنت إلى أن المرض لم يعبث بملامحها، وأن نظراتها أشد جاذبية مما كانت. فلما جن الليل، استراحت إلى أحلام لم تعرف مثلها حلاوة منذ أشهر. ودخل الطبيب حجرتها صبح الغد، فألفاها تغني، وألفى خديها قد خالطهما تورد كأنه تورد العافية. ورأى على ثغرها ابتسامة ناضرة، فكأنما عاودتها صحتها كاملة. وسر بذلك وأخذ يحادثها. ولم تستطع هذه المرة أن تكتمه سرها، بل قالت له إن خطبتها حلت، وأشارت في خفر إلى حديث فريد معها أمس!
وخرج الطبيب من عندها يتردد بين الأمل في شفائها واليأس منه، فهو يعلم أن لا شيء أخطر على حياة المصدور من الانفعالات العنيفة، سواء أكان الحزن أم كان السرور مبعثها؟!
وكان الطبيب يرى انفعالها بالسرور يزداد عنفا كلما جاء فريد لزيارتها، وفكر في منعه اتقاء الخطر، ثم لم يفعل مخافة أن يؤدي انقطاعه عنها إلى نكسة تصيبها، تكون أسوأ في صحتها!
لكن انفعال عزة بالسرور كان يزداد على الأيام عنفا، ذلك أنها لم تكن تفكر في أمر صحتها، بل كان ابتهاجها بالعهد الذي قطعه فريد لها أجل قدرا عندها من شفائها، بل من حياتها.
وأصبحت يوما فإذا صدرها يدفق دما، فيلزمها الطبيب سريرها، ويبالغ في العناية بعلاجها، لكن الأمر كان قد خرج من يده، فلم ينجح العلاج. وفي الغد من ذلك اليوم أسلمت عزة روحها، في حضرة أبيها وأمها، وفي حضرة فريد الذي سبقهما إليها لأول ما بلغه نبأ ما أصابها، وقبل أن يحم قضاء الله فيها!
अज्ञात पृष्ठ