كلمة وإهداء
أناتول فرانس
عنقود العنب
ذات الثوب الأبيض
هدية موت
الإيمان أو «مهرج نوتردام»
كلمة وإهداء
أناتول فرانس
عنقود العنب
ذات الثوب الأبيض
هدية موت
الإيمان أو «مهرج نوتردام»
قصص عن أناتول فرانس
قصص عن أناتول فرانس
جمع وترجمة
فرج جبران
أناتول فرانس.
كلمة وإهداء
لما وجدت ما يقاسيه إخواني في تفهم معاني الكلمات والتراكيب التي يصادفونها في «أناتول فرانس»؛ رأيت - تسهيلا لهم في دراسته - أن أقوم بهذا التعريب الذي تعمدت أن يكون حرفيا دقيقا جدا ما دام الغرض منه هو الدراسة، وتأتي القصة في المرتبة الثانية، وكل رجائي أن أكون وفقت!
فإلى زملائي، بل إخواني،
أقدم هذا التعريب.
فرج جبران
أناتول فرانس
لا تتسع هذه الصفحات للكلام عن «أناتول فرانس» بإسهاب، بل إن كتبا عنه لا تكفي لإيفائه حقه؛ ولذلك سيكون كلامنا مختصرا لضيق المقام.
حياته ومؤلفاته
ولد أناتول فرانس في شهر أبريل سنة 1844، فقضى من تلك السنة حياة ملؤها الجد والعمل، أخرج فيها للعالم نحو خمسين كتابا. وقد ولد فرانس وسط الكتب؛ إذ كان أبوه صاحب مكتبة؛ ولذلك نشأ محبا للكتب، يعنى بها جل العناية غير مفرق بين القديم والجديد.
أما أمه فهي التي جعلته يشعر منذ أيامه الأولى بنعيم الحياة في روح شخص آخر، هو روح الأم نفسها؛ ولذلك فهو لا يفتأ يذكر الأم بالخير في كل مناسبة. وإن الأم التي تشعر ابنها بمثل هذا النعيم ليكونن ابنها عاقا إذا لم يشب شاعرا كما شب فرانس.
ولما كان عمره 35 عاما قال الشعر، ونشر قصائده على صفحات الجرائد والمجلات، فكانت تنال الاستحسان والإعجاب.
ثم أخذ ينشر الكتب، فنشر لراسين وموليير وشاتوبريان وغيرهم، وعلق على ما نشر بشروح وافية.
ولما بلغ الثالثة والأربعين من عمره هجر الشعر وأخذ ينقد الكتب من قديمة وجديدة في جريدة «الطان»، وبدأ مؤلفاته من ذلك العهد.
ونذكر في مقدمة مؤلفاته: تاييس - الزنبقة الحمراء - الآلهة ظمآي - جريمة سلفستر بونار - كرنكبيل - كتاب صديقي «الذي نقص فيه قصصا عن طفولته» - حديقة أبيقور ...
أسلوبه وفلسفته
الأسلوب الجميل كذلك الشعاع الذي يدخل من نافذتي وأنا أكتب هذه الكلمات.
في حديقة أبيقور
قبل كل شيء يجب أن نقول: إن أناتول فرانس كتب عن كل شيء في الحياة، وكذلك سخر من كل شيء في الحياة! بل قد نظلم الرجل إذا قلنا إنه سخر فقط، الحق أنه أشفق على كل شيء، ثم سخر من كل شيء.
ولكي ندلك على حبه للشيء ثم سخريته منه، نذكر لك أنه كان يحب الاشتراكية ويراها محققة لآمال السعادة، ولو إلى درجة ما، ولكنه ما يلبث أن يسخر منها لأنه يعتقد أنها ككل نظام آخر قد تتلاعب بها الشهوات الإنسانية!
بل إنه هزأ من الثورة الفرنسية، وتمثل في أبطالها جماعة قد غطت شهواتهم وأطماعهم على مبادئهم التي أذاعوها، وكثر ما تشدقوا بها!
أحب فرانس العالم، وأحب وطنه، وأحب الحرية، ثم ابتسم لكل هذه الأشياء سخرية! وبقدر ما أحب الإنسانية بقدر ما كان غير مغرض في الهزء منها. ولسنا هنا لنعدد مآثره على الإنسانية.
وكان يعتقد أن الحياة أبدا مضطربة لا تثبت على حال؛ ولذلك تجمع كتابته إلى جانب القصة، إذا كانت ثمت قصة، فلسفة وحكمة وشعرا أكثر ما يكون منثورا!
وكما يقول الدكتور طه حسين: إن فلسفة أناتول فرانس تلخص في كلمتين «الشك والرحمة».
عنقود العنب
كنت سعيدا، بل كنت سعيدا جدا، كنت أتمثل في والدي وفي والدتي وفي خادمتي مخلوقات عظيمة خارقة للعادة، كثيرة الرقة، شاهدة على أيام الحياة الأولى، وخالدة وحيدة في نوعها. وكنت على ثقة أن في مقدورهم حفظي بعيدا عن كل أذى، وكنت أشعر لقربهم مني بأمن تام. كانت الثقة التي تبعثها والدتي في نفسي لا حد لها، وعندما أذكر تلك الثقة المقدسة - بل المعبودة - أشعر برغبة عظيمة في أن أرسل قبلات لذلك الطفل الصغير الذي كنته. وهؤلاء الذين يدركون صعوبة الاحتفاظ بتذكار على كماله في هذا العالم يفهمون السبب في هذا الاندفاع نحو مثل تلك الذكريات.
كنت سعيدا، كانت آلاف الأفكار من عادية وغامضة تشغل خيالي، آلاف الأشياء التي لم تكن شيئا في حد ذاتها، ولكنها كانت تكون جزءا من حياتي. كانت حياتي صغيرة الدائرة إلى حد كبير، ولكني كنت أتخيلها حياة خاصة، ومركزا لجملة أشياء، مركزا لعالم خاص. لكم أن تبتسموا سخرية مما أقول، ولكم أن تبتسموا عن حب وصداقة وتفكروا فيه؛ إذ الحق أن كل من يحيا، ولو كان كلبا، يظن في حياته أنها أهم حياة، لو كان يملك قوة تفكير.
كنت سعيدا بأن أرى وأسمع، كانت أمي لا تفتح خزانتها ذات المرآة قبل أن تبعث في نفسي روحا رقيقة مملوءة شعرا بدافع حب الاستطلاع، فماذا كانت تحوي تلك الخزانة؟ يا رباه! لقد كانت تحوي ما يجب أن تحوي من ملابس بيضاء، وصناديق صغيرة ذات رائحة، وعلبا مصنوعة من الورق المقوى وصناديق.
إنني أتبين في أمي المسكينة تعلقا بجمع العلب التي كان لديها منها مقادير هائلة، ومن كل نوع. كانت هذه العلب، التي كان محرما علي أن ألمسها، تبعث في نفسي تفكيرا عميقا، كذلك لعبي كانت تشغل رأسي الصغير، على الأقل تلك اللعب التي كانوا يعدونني إياها وأنتظرها عبثا، فإن اللعب التي كنت أملكها لم أكن أعتبرها غريبة غامضة بعد، فكانت لا تسرني في شيء.
أما اللعب التي كنت أحلم بها فكم كانت جميلة! ومعجزة أخرى كانت عدد الرسوم والوجوه التي يمكن استخراجها بجرة قلم أو ريشة. كنت أرسم جنودا بأن أصور رأسا أبيضي الشكل أضع فوقه القبعة العسكرية الخاصة ... ولم أتعلم أن أدخل الرأس في تلك القبعة إلى حد الحاجبين إلا بعد ملاحظات عدة. كنت مغرما بالزهور، وبالروائح العطرية، وبأدوات المائدة الفاخرة، وبالملابس الجميلة.
كنت أشعر بالغرور حين أضع على رأسي قبعتي ذات الريش، أو ألبس جواربي الحريرية ذات الألوان. أما ما كنت أحبه أكثر من كل شيء آخر، فقد كان مجموعة الأشياء من المنزل إلى الهواء إلى الضوء ... وماذا؟ الحياة أخيرا! كانت تحوطني رقة وسلام، ولم يكن هناك طير صغير أسعد مني في حياتي وسط عشه المملتئ بالزغب الذي يحتك به.
كنت سعيدا، كنت سعيدا جدا، ومع ذلك كنت أحسد ولدا آخر اسمه «ألفونس»، ولا أعرف له اسما آخر، ومن المحتمل كثيرا ألا يكون له غيره. كانت أمه غاسلة ملابس تشتغل بالمدينة. كان ألفونس يتجول طول اليوم، دون أن يصنع شيئا، في الحوش أو على الرصيف، وكنت ألحظ من نافذتي وجهه القذر، وشعره الأصفر القذر غير المرتب، وسراويله القصيرة الممزقة، وحذاءه البالي الذي كان يسير به في الماء. ولقد كنت أود أنا أيضا أن أسير في الماء مطلق الحرية.
كان ألفونس يتصل بالطاهيات فينال منهن ضربات قوية على وجهه، وقطعا صغيرة جدا من اللحم، وكان «سواس» الخيل يرسلونه أحيانا ليملأ دلوا من الماء، فكان يرجع به فخورا محمر الوجه وقد خرج لسانه من فمه إعياء ... وكنت أحسده! لم تكن لديه مثلي خرافات لافونتين وعليه واجب حفظها، ولم يكن يخاف مثلي أن يناله التعنيف لقليل من القذارة يصيب ملابسه، ولم يكن واجبا عليه أن يقول مثلي: «عم صباحا يا سيدي! عمي صباحا يا سيدتي!» لأشخاص ما كان ليهمني أمرهم البتة في يوم من الأيام، سواء كانوا من الصالحين أو الطالحين!
وإذا لم تكن لديه مثلي سفينة نوح
1
والحصان الميكانيكي
2
فلقد كان يلعب كما يريد مع الطيور الصغيرة التي يمسكها، ومع الكلاب الضالة مثله، بل ومع جياد الإصطبل إلى أن يطرده السائق أمام مكنسته التي يهدده بها! وكان ينظر إلي من الحوش، مملكته الصغيرة، كما ينظر الإنسان إلى عصفور في قفص!
كان الحوش عليه مسحة من السرور بسبب الحيوانات المختلفة الأنواع، وبسبب رجال الأعمال المختلفين الذين كانوا يترددون عليه، وكان كبيرا، وكان البناء الذي يحده من الجنوب مغطى بشجرة كرم متقدمة في السن معوجة رفيعة. وكان فوقها ساعة شمسية محت الشمس والأمطار أرقامها، وكنت أستغرب لظل العقرب وهو يقع على تلك الأحجار دون أن أراه! ومن بين كل هذه الأشباح التي أستثيرها أظن أن شبح هذا الحوش العتيق هو واحد مما يشتد استغراب الباريسيين له اليوم؛ فإن أحواشهم الحاضرة عبارة عن أربعة أمتار مربعة يمكن منها رؤية قطعة من السماء توازي المنديل حجما! ومن الأعلى ترى منزلا مكونا من خمس طبقات؛ لا تزيد كل طبقة في الاتساع عن «نملية» صغيرة، وكلها بارزة إلى الأمام. وهذا ارتقاء، ولكنه غير صحي على كل حال.
وحدث يوما ما أن هذا الحوش السعيد الذي تحضر إليه ربات المنازل كل صباح لملء قدورهن من مضخة الماء، وحيث كانت الطاهيات ينشفن حوالي الساعة السادسة من كل يوم السلطة، بهزها من خلال سلة مصنوعة من السلك الرفيع، وهن يتحادثن في تلك الأثناء مع «سواس» الخيل، حدث أن خلعوا بلاط هذا الحوش وأرادوا تبليطه من جديد.
ولما كان المطر قد انهمر مدة العمل، فقد امتلأت الأرض بالأوحال، وأصبح ألفونس، الذي كان يعيش هناك كما يعيش الجن
3
في الغاب، قذرا تملؤه الأوحال من رأسه إلى قدميه. وكان يشتغل بنقل الأحجار بنشاط المنشرح، وتبع ذلك أن رفع رأسه إلى الأعلى فرآني سجينا بين أربعة جدران في غرفتي، فأشار إلي بالنزول عنده. لقد كنت متشوقا جدا لأن أنقل معه الأحجار، لم تكن لدي أحجار كي أنقلها في غرفتي! وحدث أن كان باب المنزل مفتوحا، فنزلت إلى الحوش وقلت لألفونس: ها أنا ذا!
فقال لي: احمل هذه البلاطة ...
لقد كان وحشي الهيئة، أجش الصوت؛ فأطعته، وفجأة شعرت بالبلاطة تنزع من يدي، وشعرت بمن يحملني عن الأرض. لقد كانت خادمتي هي التي تحتملني وهي غضبى، وغسلت لي جسمي بقطع صابون مرسيليا الكبير، وأخذت توبخني على اللعب مع ولد غير مؤدب يجول في الشوارع طول يومه ولا يساوي شيئا.
وزادت أمي على ذلك بقولها: إن ألفونس يا بني لم يرب تربية حسنة. في الحق أن هذه ليست غلطته، بل هي شقوته، ولكن الأولاد الذين ربوا تربية حسنة لا يجب أن يعاشروا الأولاد الذين لم تحسن تربيتهم.
كنت طفلا نبيها مفكرا، فحفظت في نفسي كلمات أمي، ولا أعرف كيف استعادت ذاكرتي ما كنت قد عرفته عن الأولاد الملاعين أثناء استماعي لتفسير إنجيلي ذي الصور والنقوش القديمة.
وتغيرت عواطفي نحو ألفونس كلية، فصرت لا أحسده . كلا! لقد بث في نفسي شعورا هو خليط من الفزع والرثاء: «إن هذه ليست غلطته، بل هي شقوته!» لقد كانت هذه الجملة التي ذكرتها أمي تزعجني من أجله. أماه! لقد أحسنت إذ ذكرت لي هذه الكلمات، لقد أحسنت إذ كشفت لي وأنا لا أزال في أكثر أعوام الحياة رقة عاطفة وإحساس عن سذاجة البائسين وطهرهم وعدم تمييزهم. لقد أحسنت في التعبير، وعلي أنا أن أذكر دائما هذا الكلام في مستقبل حياتي.
لقد أثر في الكلام، ولو في الحادثة التالية على الأقل، وشعرت بشفقة نحو ذلك الولد اللعين؛ ففي ذات يوم، بينما كان يعاكس ببغاء في الحوش، تملكها إحدى الساكنات المسنات، تخيلت هذا ال «قابيل»
4
القوي السيئ الطباع، تخيلته على طيبة «هابيل» الصغير الوديع ... وا أسفاه! إنها السعادة هي التي تجعل من كل إنسان «هابيل»!
وحاولت أن أرسل إلى هذا ال «قابيل» دليلا على عطفي. فكرت أن أرسل إليه بقبلة، غير أن وجهه القذر ظهر لي أقل نظافة من أن يستقبلها، ورفض قلبي أن يسمح بهذه الهبة! وفكرت طويلا فيما يمكنني أن أعطيه، وكانت حيرتي كبيرة. فكرت أن أعطي ألفونس حصاني الميكانيكي - وكان إذ ذاك قد فقد ذيله ومعرفته! - ولكن هل هبة حصان تدل على العطف والشفقة؟ بل كان يجب أن تكون الهدية موافقة لولد لعين. وردة مثلا؟ لقد كانت هناك باقات كثيرة من الورد في غرفة الاستقبال، ولكن الوردة تشبه القبلة، وكنت أشك في أن ألفونس يحب الورد! وعلى ذلك أخذت أدور في غرفة الطعام وأنا في حيرة شديدة، وفجأة! صفقت بيدي بفرح: لقد عرفت ما يجب أن أهديه!
في غرفة الطعام، على مائدة إلى جانب الحائط وفي طبق خاص، رأيت عنبا من أجود الأصناف التي تأتي من «فونتنبلو»، فاستعنت بكرسي صعدت عليه حتى حصلت على عنقود طويل ثقيل الوزن من هذا العنب، وكاد يملأ ثلاثة أرباع الطبق، وكانت عنب هذا العنقود تميل في لونها إلى الاصفرار، وذهبية من ناحية منها، فكان يخيل للرائي أنها تذوب في الفم ذوبانا بمجرد وصولها إليه، ومع ذلك لم أذقها!
وجريت أبحث عن لفة من الخيط على مائدة حياكة والدتي - ولقد كان محرما علي أن أمس شيئا يوجد على تلك المائدة، إلا أنه يجب على الإنسان أن يتعلم عصيان الأوامر في بعض الأحيان - وربطت عنقود العنب في أحد طرفي الخيط، وانحنيت على حافة الشباك وناديت ألفونس، وأخذت في إنزال عنقود العنب إليه في الحوش بواسطة الخيط.
ولكي يراه الولد اللعين بوضوح أزاح خصلات من شعره الأصفر كانت منسدلة على وجهه، ولما أصبح العنقود في متناول يده شده بخيطه بقوة، ثم رفع رأسه إلي وأخرج لي لسانه ورفع أصابعه إلى أنفه سخرية بي، وهرب بالعنقود وقد أولاني ظهره فقط!
لم أكن معتادا على هذه الحركات من أصدقائي الصغار؛ ولذلك اضطربت في مبدأ الأمر، إلا أن فكرة واحدة هدأتني؛ وهي «أنني أحسنت صنعا إذ لم أرسل له لا بوردة ولا بقبلة».
وزال حقدي بهذه الفكرة؛ إذ الحقيقة أن الإنسان يكون مرتاحا طالما أرضى شهوات نفسه، أما الباقي فلا يهم كثيرا.
وكنت كلما فكرت أنه يجب علي أن أقص مغامرتي لوالدتي أقع في حيرة شديدة. لقد أخطأت، ولقد عنفتني والدتي، ولكنها عنفتني وهي مسرورة، وقد تبينت ذلك في عينيها اللامعتين، وقالت لي: يجب أن يعطي الإنسان الحسن مما يملك هو، لا مما يملك الغير، ويجب أن يتعلم كذلك كيف يعطي ...
فزاد والدي على ذلك: إن هذا هو سر السعادة! وقليلون هم الذين يعرفونه.
ولقد كان يعرفه هو.
ذات الثوب الأبيض
في ذلك الوقت كانت تسكن معنا في نفس المنزل سيدتان تتشح إحداهما بالأبيض والأخرى بالأسود.
ولا تسألوني، أي قرائي، عما إذا كانتا صغيرتي السن؛ فقد كان ذلك فوق ما أعرف، ولكني أعلم أن رائحتهما كانت ذكية، وأنهما كانتا في غاية الرقة. ولما كانت والدتي كثيرة المشاغل لا تحب الجيرة؛ فقد كانت لا تزورهما البتة. أما أنا فكنت أذهب مرارا، وخاصة في ساعة الأصيل؛
1
وذلك لأن ذات الثوب الأسود كانت تعطيني قطعا من الحلوى، ولذا فكنت أزورهما بمفردي ، وكان يجب أن أجتاز البراح
2
في ذهابي إليهما؛ ولذا كانت والدتي تطل علي من النافذة حين ذهابي، وكانت تطرق الزجاج إذا ما نسيت نفسي مدة طويلة وأنا أتفرج على السائق وهو يعنى بالجياد وينظفها.
ولقد كان صعود السلم ذي «الدرابزين» الحديدي عملا شاقا متعبا، وكانت الدرجات الأخيرة من هذا السلم عالية لم تصنع لقدمي الصغيرتين، وكنت أكافأ على تعبي بمجرد دخولي إلى حجرة السيدتين؛ إذ كانت هذه الغرفة تحوي آلاف أشياء تلقي بي إلى غمرة من السرور والانشراح، ولكن لم يكن هناك شيء يوازي الدميتين المصنوعتين من «الصيني» اللتين كانتا موضوعتين على المدفأة، كل واحدة من إحدى ناحيتي الساعة، فكانتا تحركان رأسيهما بنفسهما.
وقد علمت أنهما أتتا من الصين فوعدت أن أذهب إليها، وكانت الصعوبة في أن تقودني خادمتي إلى هناك، وقد كنت تأكدت أن الصين تقع خلف قوس النصر
3
ولكن مع ذلك لم أجد طريقة للذهاب إليها.
وكان في غرفة السيدتين كذلك سجادة عليها أزهار، فكنت أتقلب عليها بسعادة، و«كنبة» ناعمة وثيرة كنت أستعملها سفينة في بعض الأحيان، أو حصانا، أو عربة في أحيان أخرى. وكانت ذات الثوب الأسود سمينة - على ما أظن - لطيفة جدا، وكانت لا تعنفني البتة. أما ذات الثوب الأبيض فكان من معائبها نفاد صبرها وغلظتها، ولكنها كانت تضحك بلطف متناه!
وكنا نعيش في نعيم الحياة الزوجية نحن الثلاثة، وكنت قد قررت في رأسي أنه لن يحضر غيري البتة إلى غرفة الدميتين، ولكن ذات الثوب الأبيض هزأت مني على ما يظهر مدة طويلة حين أخبرتها جزءا من هذا القرار، ولكني صممت فوعدتني بكل ما أطلب.
لقد وعدت، ومع ذلك ففي ذات يوم وجدت رجلا جالسا على «كنبتي» وواضعا رجليه على سجادتي، ومحادثا سيدتي بهيئة المغرور، بل لقد أعطاهما خطابا ردتاه إليه بعد قراءته، ولم يرضني ذلك فطلبت ماء مذابا فيه السكر؛ لأني كنت ظمآنا، ولأني كنت أريد أن ينتبهوا إلى وجودي، ولقد تم هذا فنظر إلي الرجل، وقالت ذات الثوب الأسود: إنه جار صغير.
فرد الرجل: ليس لأمه ابن غيره، أليس صحيحا؟
فقالت السيدة ذات الثوب الأبيض: نعم، إنه صحيح، ولكن ما الذي جعلك تعتقد ذلك؟
فقال الرجل: ذلك لأن عليه هيئة ولد مدلل جدا، فهو فضولي ومحب لاستطلاع كل شيء.
وفي هذه اللحظة فتح عينيه كما تفتح البوابات لتسمح العربات بالمرور، وكان ذلك لإجادة النظر، ولا أريد أن أمدح نفسي، ولكنني فهمت بكل جلاء بعد المحادثة أن لذات الثوب الأبيض زوجا له مركز سام في قارة بعيدة، وأن الزائر كان يحمل خطابا من هذا الزوج، وأنهما شكرتاه على خدمته، وأنهما هنأتاه على تعيينه سكرتيرا أول. ولم يرضني كل ذلك؛ ولذلك رفضت حين مغادرتي المنزل أن أقبل ذات الثوب الأبيض عقابا لها.
وفي ذلك اليوم سألت والدي وقت الغذاء عما يكون السكرتير، ولم يرد علي والدي، وأخبرتني والدتي أن السكرتير عبارة عن قطعة من الأثاث ينظمون فيها الورق، ولكن هل أوافق على ذلك؟ وأناموني فأخذت الأشباح
4
ذات العين التي تتوسط الخد تمر حول فراشي وهي تعبث عبثا لم تعبثه قبل ذلك.
وإنكم لتخطئون، أي قرائي، إذا ظننتم أنني في الغد فكرت في الرجل الذي وجدته عند ذات الثوب الأبيض في اليوم السابق؛ إذ كنت نسيته من كل قلبي - وكان هو المسئول عن كونه محي عن ذاكرتي إلى الأبد - ولكن بلغت قحته أن يعود ثانية إلى صديقتي بعد عشرة أو عشرين يوما - لست أعرف - من زيارتي الأولى، وأميل اليوم إلى الاعتقاد أنها عشرة أيام. لقد كان مستغربا حقا من هذا السيد أن يحتل مكاني، وفي هذه المرة امتحنته فوجدت أن ليس به شيء حسن.
كان شعره لامعا جدا، أسود الشاربين والعارضين،
5
حليق اللحية مع دائرة صغيرة تتوسطها، نحيل القوام، جميل الملبس، وفوق كل ذلك عليه هيئة الرضا، وكان يتحدث عن مكتب وزير الخارجية، وعن الروايات التمثيلية، وعن الأزياء والكتب الجديدة، وعن الليالي الساهرة التي بحث فيها عبثا عن السيدتين، وكانتا تصغيان له؛ هل كانت هذه محادثة؟ أولم يكن في مقدوره أن يتكلم كما كانت تحادثني ذات الثوب الأسود، عن البلاد ذات الجبال المكونة من الحلوى،
6
والأنهار من عصير الليمون؟
ولما رحل ذكرت ذات الثوب الأسود أنه شاب فتان، فأجبتها أنه رجل عجوز دميم الخلقة، فضحكت ذات الثوب الأبيض كثيرا. وعلى كل حال فلم يكن في هذا ما يضحك، ولكنها كانت كذلك دائما؛ إما أن تضحك مما أقول، وإما لا تصغي لحديثي. كان هذان الشيئان يضايقانني في ذات الثوب الأبيض، فوق شيء ثالث كان يبعث اليأس إلى قلبي؛ وهو البكاء، والبكاء باستمرار.
كانت والدتي قد أخبرتني أن الأشخاص الكبار لا يبكون مطلقا. آه؛ إنها لم تر مثلي ذات الثوب الأبيض - وقد ارتمت إلى جانب مقعد من المقاعد وعلى ركبتها خطاب مفتوح - وقد ارتخى رأسها ومنديلها فوق عينيها، وكان الخطاب - وإنني لأراهن اليوم أنه كان غفلا من الإمضاء - يؤلمها جد الألم. يا للخسارة! إنها كانت تجيد الضحك!
وبعد هاتين الزيارتين فكرت أن أطلب يدها للزواج، فأخبرتني أن لها زوجا كبيرا بالصين، وكذلك سيكون لها زوج صغير في حي ملكيه،
7
وتم الاتفاق فأعطتني قطعة من الحلوى.
ولكن السيد ذا العارضين كان يعود مرارا، وبينما كانت ذات الثوب الأبيض تقص علي في يوم من الأيام أنها ستحضر لي من الصين سمكا أزرق مع شبكة لصيده، حضر الخادم وأعلن حضور ذلك السيد فاستقبل. ولقد كان جليا من النظرات التي تبادلناها أننا نكره بعضنا، وأخبرته ذات الثوب الأبيض أن عمتها - وكانت تقصد ذات الثوب الأسود - ذهبت إلى السوق لتشتري شيئا للدميتين.
لقد رأيت الدميتين على المدفأة، ولم أكن أعرف أنه يجب الخروج لأجل شراء شيء لهما، مهما كان هذا الشيء، ولكن يصادف الإنسان في كل يوم أشياء يعسر عليه فهمها! ولم يظهر على الرجل أي تأثير من غياب ذات الثوب الأسود، وقال لذات الثوب الأبيض: إنه يريد أن يحادثها في أمر جدي، فاعتدلت على مقعدها بدلال، وأشارت إليه أنها تصغي له. وفي تلك الأثناء كان ينظر إلي وكأنه متضجر من وجودي، وقال أخيرا وهو يمر بيده على رأسي: إن هذا الولد الصغير لطيف جدا ...
فقالت ذات الثوب الأبيض: إنه زوجي الصغير.
فقال السيد: حسنا! ألا يمكنك إرجاعه إلى أمه؟ إذ إن ما أريد أن أقوله لك لا يجب أن يسمعه غيرك.
فوافقت، وقالت لي: اذهب يا عزيزي والعب في غرفة الطعام، ولا تعد إلا إذا ناديتك، اذهب يا عزيزي!
فذهبت إلى غرفة الطعام وأنا حزين، ومع ذلك فقد كانت غرفة الطعام غريبة جدا، بسبب صورة تحمل ساعة كانت تمثل جبلا على ساحل البحر، وإلى جانبه كنيسة تحت سماء زرقاء، وإذا ما دقت الساعة تحركت سفينة فوق الأمواج، وخرجت قاطرة تجر عرباتها من النفق، وارتفعت طيارة في الجو،
8
ولكن إذا كانت النفس حزينة لا يبتسم لها شيء مطلقا، بل فوق ذلك كان يهيأ لي أن الصورة والساعة عديمتا الحركة.
ويظهر أن القاطرة والسفينة والطيارة كانت لا تتحرك إلا كل ساعة - وإن ساعة لمدة طويلة حقا، وكانت كذلك إذ ذاك على الأقل! - ومن حسن الحظ أن حضرت الخادمة لتأخذ شيئا من غرفة الطعام، فلما وجدتني حزينا جدا أعطتني شيئا من الحلوى
9
خففت من آلام قلبي، ولكن لما نفدت الحلوى عادت إلي الأحزان.
ومع أن الساعة لم تكن دقت بعد، فقد خيل إلي أن ساعات طويلة ستمر على وحدتي الأليمة، وكان يصل إلى أذني من حين إلى آخر رنين أصوات السيد، وكان يستعطف ذات الثوب الأبيض، ثم يحتد عليها على ما يظهر. حسنا، ولكن ألن ينتهوا من حديثهم إلى الأبد؟ كنت ألصق أنفي على زجاج النوافذ وأنتزع القش
10
من الكراسي، وأكبر من خروق الورق الملصق على الحائط، وأنزع أهداب الستائر، وماذا غير ذلك؟ فالسأم شيء فظيع، وأخيرا لم أتمكن من الاحتمال، فتقدمت دون حس أو حركة نحو الباب الموصل إلى غرفة الدميتين، ورفعت ذراعي حتى أمسك بالمقبض، وكنت أعلم جيدا أني أعمل عملا فضوليا مشينا، ولكن ذلك أكسبني نوعا من الغرور.
وفتحت الباب، فوجدت ذات الثوب الأبيض واقفة أمام المدفأة، والرجل راكعا عند قدميها فاتحا ذراعيه كأنه يريد أخذها، وكان وجهه أشد احمرارا من عرف الديك، وتكاد عيناه تخرجان عن رأسه. هل يمكن أن يكون الإنسان في مثل هذا الحال؟
وقالت ذات الثوب الأبيض وكانت موردة أكثر من العادة ومضطربة جدا: كفى يا سيدي ... كفى ... ما دمت تدعي أنك تحبني كفى ... ولا تدعني آسف بعد ذلك على استقبالك.
وكانت كأنها تخشاه وقد كادت تخذلها قواها.
وعندما رآني قام للحال، وأظن أنه فكر لحظة في قذفي من الشباك. أما هي فبدلا من أن تنتهرني - كما كنت أنتظر - ضمتني بين ذراعيها وهي تدعوني بعزيزها.
ولما حملتني إلى المقعد بكت طويلا بكاء هادئا على خدي، وكنا وحيدين في الغرفة فأخبرتها - كي أعزيها - أن الرجل الأسود العارضين كان رجلا سافلا، وأنها ما كانت لتحزن لو أنها ظلت معي، كما كان متفقا من قبل، ولكن ذلك لم يجد شيئا، وتبين لي أن الأشخاص الكبار يكونون أحيانا غريبي الأطوار.
وما كدنا نهدأ حتى دخلت ذات الثوب الأسود ومعها جملة أشياء ملفوفة في الورق، وسألت عما إذا كان قد زارهم أحد، فأجابت ذات الثوب الأبيض بهدوء: لقد حضر المسيو أرنول، ولكنه لم يمكث غير ثانية واحدة.
أما هذه فقد كنت أعلم جيدا أنها كذبة، ولكن المهارة التي اصطنعتها ذات الثوب الأبيض وقعت تحت تأثيرها منذ بضع لحظات دون شك، فوضعت إصبعها الخفي على فمي فمنعتني من الاعتراض وذكر الحقيقة.
ولم أر مسيو أرنول بعد ذلك، ولم يصادف غرامي بذات الثوب الأبيض أي عقبة بعد ذلك، وهذا هو السبب بلا ريب في أنني لم أحتفظ بتذكاره، ولغاية الأمس؛ أي بعد مرور أكثر من ثلاثين عاما، كنت لا أعرف ماذا حدث لها.
بالأمس كنت ذاهبا إلى الحفلة الراقصة التي أقامها وزير الخارجية، رغم أنني أوافق اللورد بالمرستون على أن الحياة كانت تطاق لولا المسرات. كان عملي اليومي لا يفوق قواي ولا ذكائي؛ ولذا فقد توصلت إلى أن أهتم به. أما المقابلات والحفلات الرسمية فهي التي تثقل كاهلي، وكنت أعلم أنه من السخف
11
والعبث أن أذهب إلى الحفلة الراقصة التي يقيمها الوزير. كنت أعلم ذلك ولكني ذهبت؛ لأن الطبيعة الإنسانية تفكر دائما تفكيرا صائبا، ثم تتصرف عمليا بعد ذلك تصرفا مخطئا مخالفا للصواب.
ولم أكد أدخل في البهو الأكبر حتى أعلن قدوم سفير ... والسيدة ... وكنت قد قابلت السفير عدة مرات، وكان وجهه يحمل آثار المتاعب التي لا ترجع كلها إلى أعمال السلك السياسي. ويذكرون أن صباه حوى كثيرا من التقلبات، وكذلك تروى عنه في مجتمعات الرجال عدة حكايات ظريفة، وأن أيامه التي قضاها بالصين منذ ثلاثين عاما لغنية بالمغامرات التي يميلون إلى سردها سرا حين تناول القهوة.
وظهر لي أن زوجته التي لم أتشرف بمعرفتها تعدت سن الخمسين عاما، وكانت تتشح بالسواد، وكذلك كانت على ملابسها قطع جميلة من الوشي
12
تضم جمالها الماضي الذي كان يمكن للمرء أن يتبين شبحه إلى اليوم. وقد شعرت بالسعادة حين قدمت إليها؛ فإنني أقدر محادثة النساء المسنات حق قدرها، وتحادثنا عن آلاف الأشياء على أنغام الموسيقى التي كانت تدفع صغيرات السيدات إلى الرقص، ووصل بها الكلام إلى أن حدثتني صدفة عن الزمن الذي كانت تسكن فيه منزلا قديما في حي ملكيه؛ فصحت: إذن فقد كنت ذات الثوب الأبيض!
قالت: حقا يا سيدي، لقد كنت أتشح بالبياض. - وأنا يا سيدتي كنت زوجك الصغير! - ماذا تقول يا سيدي؟ هل أنت ابن الدكتور نوزيير؟ لقد كنت تحب الحلوى كثيرا، هل تحبها إلى الآن؟ هل لك أن تحضر لتأكل شيئا منها في منزلنا؟ إننا نجتمع اجتماعا حبيا كل يوم سبت لتناول الشاي. إن الإنسان ليقابل من فرقتهم عنه الأيام الطويلة دون سابق تحذير. - وأين السيدة ذات الثوب الأسود؟ - إنني أنا اليوم ذات الثوب الأسود؛ فقد ماتت عمتي سنة الحرب، وفي أواخر أيامها كانت تتكلم عنك مرارا.
وبينما كنا نتحادث هكذا مر رجل أبيض الشاربين والشعر وحيا السفيرة باحترام، وبكل ظرف يملكه عجوز جميل. وكان يهيأ لي أنني أعرف ذقنه، وقالت لي: أقدم لك المسيو أرنول، صديق قديم.
هدية موت
قصة من الثورة الفرنسية
بعد أن تجول «أندريه» مدة في الشوارع الخاوية، جلس إلى شاطئ السين يراقب الماء وهو يصادم التلال، حيث عاشت حبيبته لوسي أيام السعادة والأمل.
وجلس مدة طويلة في حالة قلق، وعند الساعة الثامنة استحم، ثم دخل إلى مطعم بالقرب من «الباليه رويال»، وبينما كان ينتظر الطعام تصفح الجرائد. قرأ في «بريد المساواة» كشفا بأسماء الأشخاص الذين سيعدمون في «ميدان الثورة» يوم 24 فلوريال.
وتناول الطعام بشهية، ثم قام ونظر في المرآة ليرى إذا كان مرتب الملابس منبسط الأسارير، ومن ثم سار بخطى متثاقلة ناحية النهر إلى منزل في زاوية السين وشارع مزارين. وهناك كان يعيش المواطن «لرديون»، النائب العام في محكمة الثورة. وهو رجل كريم عرف بخدمة أصدقائه، وعرفه أندريه في إنجرز كراهب من رهبان الكبوشان، أما الآن فهو جمهوري متطرف في باريس.
دق الجرس، وبعد بضع دقائق ظهر وجه خلف الباب، وأطل من كوة في الحائط، وبعد أن تأكد المواطن لرديون من وجه واسم ضيفه فتح الباب أخيرا - وكان له وجه سمين أحمر اللون، وعينان لامعتان، وفم كبير، وأذنان حمراوان، وكان له وجه الرجل الضحوك ولكن هيئة الجامد - وقد أدخل أندريه إلى أولى غرف المنزل.
وكان موضوعا فوق مائدة مستديرة طعام قد أعد لشخصين، ورأى أندريه دجاجة وفطيرة وفخذة لحم، وطبقا من الكبد، وأصنافا من اللحوم الباردة، وعلى أرض الغرفة كانت هناك ست زجاجات خمر موضوعة داخل دلو كي تبرد، وعلى المدفأة كان هناك التفاح والجبن والفاكهة المحفوظة، وعلى أحد الأدراج وضعت زجاجات من المشروبات فوق أكوام الورق، وكان باب الغرفة المقابلة مفتوحا، وفيها فراش غير مرتب، قال أندريه: أيها المواطن لرديون، قد أتيتك أسألك معروفا. - أيها المواطن، إنني على استعداد لإجابته إذا لم يكن على حساب سلامة الجمهورية.
فقال أندريه مبتسما: إن ما أطلبه من المعروف ليتفق تماما مع سلامة الجمهورية وسلامتك أيضا. وجلس أندريه بإشارة من لرديون وقال: أيها المواطن النائب، أنت تعرف أني منذ سنتين أتآمر على أصدقائك، وتعرف أنني مؤلف «مذبح الخوف»؛ ولذلك لن تخدمني إذا قبضت علي، بل إنك تؤدي واجبك فقط؛ ولذا ليس هذا هو المعروف الذي أطلبه منك، ولكن أصغ إلي: إنني أحب، وحبيبتي في السجن.
وأحنى لرديون رأسه دلالة على أنه يقدر تلك العاطفة. - إنني أعرف أنك رجل عواطف، أيها المواطن لرديون، وإنني أرجوك أن تجمع شملي بمن أحب، فترسل بي إلى سجن ألبورت ليبر.
فقال لرديون وقد ظهرت على شفتيه ابتسامة دهاء وثبات: ها! ها! إنك تطلب ما هو أثمن من الحياة، أيها المواطن، أنت تطلب السعادة!
ثم أشار بذراعه إلى ناحية غرفة النوم ونادى: «ابيكاريس! ابيكاريس!»
وظهرت امرأة طويلة القامة، شعرها حالك السواد، عارية الرقبة والذراعين، تلبس قميصا، وقد وضعت زهرة على رأسها، قال لرديون وهو يجذبها إليه: أي حوريتي! انظري إلى وجه هذا المواطن ولا تنسيه أبدا، هو مثلنا، أي ابيكاريس، له عواطف نبيلة، هو مثلنا يرى أن الفراق هو أروع أنواع العذاب والشرور، هو يرغب أن يذهب إلى السجن، بل إلى المقصلة أيضا، ولكن مع حبيبته! ابيكاريس، هل لنا أن نرفض أن نؤدي له هذا المعروف؟
فقالت الفتاة وهي تداعب خد قسيس الثورة: لا! - لقد أصبت الجواب، يا إلهتي، يجب أن نساعد هذين المحبين المخلصين ... أيها المواطن أندريه جرمان، اترك لي عنوانك، وستقضي الليلة بالسجن ...
فقال أندريه: لقد اتفقنا إذن؟!
فأجابه لرديون وهو يمد إليه يده: نعم، قد اتفقنا. اذهب وقابل حبيبتك، وأخبرها أنك رأيت ابيكاريس بين يدي لرديون ... ولتحدث هذه الصورة اضطراما في قلبيكما، ولتبعث بكما نحو أفكار لامعة براقة!
فأجاب أندريه أنهما ربما رأيا صورة أشد تأثيرا من هذه، ولكنه مبتهج على أي حال، ويأسف إذ ليس له أن يأمل أن سيؤدي للمواطن لرديون أي خدمة ردا على هذه الخدمة الجليلة التي أداها له هو.
فقال لرديون: إن الإنسانية لا تطلب جزاء ولا شكورا.
ثم قام وأردف وقد ضم ابيكاريس إلى قلبه: والآن، أي ابيكاريس، من يعلم متى يأتي دورنا ...؟ ولكن الآن فلنشرب! أيها المواطن، هل لك أن تشاركنا الطعام؟
وقد حبذت ابيكاريس الفكرة وأمسكت أندريه من ذراعه، ولكنه مرق منها وهو مكتف بوعد النائب العام .
الإيمان أو «مهرج نوتردام»
1
كان يعيش بفرنسا أيام الملك لويس مهرج فقير يدعى «برنابا» يقطن بلدة كومبين، وكان يمر بالبلاد ويلعب ألعابا كثيرة تدل على القوة والمهارة، وفي أيام الأسواق كان يفرش في الطريق العام سجادة عتيقة بالية، وبعد أن يجذب إليه عددا من الأطفال والكسالى ببضع جمل خلابة - كان قد تعلمها من مهرج آخر، ولم يكن يغيرها البتة - يبدأ بعرض ألعابه غير الطبعية، فكان يضع طبقا من القصدير فوق أنفه ويحركه هناك حركات كثيرة متوازنة، فكان الجمهور ينظر إليه بغير استغراب أو إعجاب.
ولكن عندما كان يقذف في الجو ست كرات نحاسية تتألق في ضوء الشمس ويلتقطها بقدميه ثانية، بينما تكون رأسه ويداه على الأرض، أو عندما كان يرتمي بجسمه إلى الوراء حتى تصل رقبته إلى رجليه ويكون شكل دائرة تماما، ويلعب وهو في ذلك الموقف باثنتي عشرة سكينا ... كانت همسات الإعجاب تتصاعد من المتفرجين، وقطع النقود تتناثر على السجادة.
ومع ذلك، فمثل كل هؤلاء الذين لا يجدون تقديرا لمواهبهم كان «برنابا» الكومبيني يلاقي مصاعب كثيرة في سبيل العيش.
نعم كان يكسب عيشه من عرق جبينه، ولكنه في الحق كان يحتمل أكثر من نصيبه في الآلام والمتاعب التي تسببت من خطيئة آدم، أبينا الأول.
وفوق ذلك لم يكن في مقدوره أن يعمل قدر ما يريد، فلأجل أن يعرض علمه البديع كان يحتاج مثل الأشجار، التي تثمر الأزهار والفاكهة، إلى حرارة الشمس وضوء النهار؛ ففي الشتاء لم يكن «برنابا» غير شجرة مجردة من الثمر تكاد تشرف على الموت والفناء، فالأرض المتجمدة كانت قاسية صلبة على المهرج، فهو مثل ذلك النوع من الشجر الذي تكتب عنه «ماري فرانس» كان يقاسي البرد والجوع في الفصل السيئ؛ فصل الشتاء. ولما كان طيب القلب؛ فإنه كان يقاسي آلامه ومتاعبه في صبر وسكون.
لم يفكر البتة في أصل الغنى والثروة، ولا في عدم مساواة الطوائف الإنسانية، وكان يعتقد اعتقادا جازما أنه إذا كانت هذه الدنيا رديئة؛ فإن الدنيا الأخرى لا بد أن تكون حسنة، وكان ذلك الأمل سنده في حياته. لم يقلد أولئك الأدنياء الذين باعوا نفوسهم للشيطان، فلم يعبث أبدا باسم الله، وكان يحيا حياة الأمانة، ومع أنه لم يكن متزوجا فإنه لم يشته لنفسه امرأة جاره في يوم من الأيام، أو طمع في نوالها؛ فإن المرأة عدوة الرجل كما يظهر في قصة شمشون التي تروى في الكتب المقدسة.
والحق أن عقله لم يكن متجها لناحية الرغائب المادية، فلا ريب أنه كان يكلف بإبريق شرابه أكثر من كلفه بالنساء، وأنه كان يتكلف في الإجحاد بالأول أكثر مما يتكلف من الإجحاد بالآخر؛ فإنه رغم احتفاظه الدائم برزانته كان يحب الشراب في أوقات الدفء.
لقد كان رجلا طيب القلب، يخاف الله، ويخلص كل الإخلاص للعذراء المقدسة، ولم يغفل أبدا عند ذهابه إلى الكنيسة أن يركع أمام صورة والدة الإله «العذراء»، وأن يوجه إليها الصلاة الآتية: «سيدتي، احرسي حيائي إلى أن يحلو للرب أن أموت، وعندما أموت دعيني أمتع بمسرات جنة النعيم.»
2
وفي ليلة ما بعد يوم ممطر، بينما كان يسير في طريقه محني الظهر يحمل تحت إبطه كراته وسكاكينه - وقد لفها في سجادته العتيقة - يبحث عن مخزن ينام فيه ليلته بدون عشاء؛ إذ لمح كاهنا يسير في نفس طريقه، فأحنى له رأسه باحترام. وإذ كانا يسيران معا تبادلا الحديث، قال الكاهن: لماذا تلبس رداء أخضر اللون؟ لعلك تلعب دور المضحك في رواية ما؟!
فقال برنابا: لا، يا سيدي الأب، إن هذا لباسي العادي؛ فأنا برنابا، وأنا أشغل وظيفة «مهرج»، وإنها لتكون حقا أحسن وظيفة في العالم لو أن الإنسان يمكنه أن يحصل منها على طعامه كل يوم!
فقال الكاهن: أيها الصديق برنابا، حاذر مما تقول؛ فليست هناك وظيفة تفوق وظيفة الكهنوت حسنا! فبها تنشر مدائح الإله والسيدة العذراء والقديسين. وحياة الكاهن ما هي إلا حياة مدح وتسبيح دائم للرب.
فأجاب برنابا: إنني أعترف أني تكلمت كلام رجل جاهل، يا سيدي الأب؛ فإن وظيفتك لا تقارن إلى وظيفتي. ومع أنه من البراعة أن يرقص الإنسان وهو يلعب بقطعة متحركة من النقود فوق عصا موضوعة على أنفه، إلا أن هذه البراعة لا تتعالى فتصل إلى مقام براعتكم! إنني أود أن أنشد مثلكم كل يوم يا سيدي الأب، وأمدح السيدة العذراء المقدسة التي أعنى بعبادتها عناية خاصة. إنني لعلى استعداد أن أهجر هذه الحرفة، التي اشتهرت بها من سواسون إلى بوفيه في أكثر من ستمائة مدينة وقرية؛ كي أحيا حياة الكهنة!
ولقد تأثر الكاهن من بساطة المهرج، ولم تكن تنقصه الفطنة، فميز في برنابا رجلا من الذين تميل نفوسهم إلى الخير، ومن الذين قال عنهم الرب: «فليرافقهم السلام على الأرض.»
وأجابه: أيها الصديق برنابا، تعال معي وأنا أدخلك الدير الذي أشرف على رئاسته. إن الذي قاد مريم إلى أرض مصر قد وضعني في طريقك كي أقودك إلى طريق الخلاص!
وهكذا أصبح برنابا كاهنا. وكان رهبان الدير الذي دخله قد خصصوا أنفسهم لعبادة العذراء المقدسة، فكان كل واحد منهم يستعمل في خدمتها كل علم ومهارة منحهما الله إياه.
فكان الرئيس يؤلف كتبا تعالج أحكام المدرسة الأولى وحكمة الأولين وفضائل أم الإله.
وكان الراهب موريس ينقل هذه الرسائل على صحائف من الجلد بخط ينبئ عن فن وعلم صحيح.
وكان الراهب إسكندر يرسم صورا صغيرة يمكن للناظر إليها أن يرى صورة «ملكة السماء» تجلس على عرش سليمان، يحرسها أربعة أسود رابضة عند رجليها، ويوجد عند رأسها - الذي تحيط به هالة من الضوء - سبع حمامات، هي عدد الهدايا التي قدمها «الشيطان المقدس»؛ وهي: الخوف والتقوى والعلم والقوة والنصيحة والذكاء والحكمة، وبرفقتها ست عذارى ذهبيات الشعر يمثلن التواضع والرشاد والاعتكاف والاحترام والطهارة والطاعة. ويقف باحترام عند قدميها شخصان صغيران عاريان، وكانا روحين يطلبان الخلاص بواسطة شفاعتها العظيمة القوة.
وفي صورة أخرى يرسم الراهب إسكندر حواء وهي تتجه بنظرها إلى مريم، فكان ممكنا للإنسان أن يرى في وقت واحد الخطيئة والفداء، المرأة المتواضعة الصغيرة والعذراء العالية الرفيعة المركز. ولقد كان يعجب الإنسان في نفسه الكتاب بصور «بئر المياه الحية»، و«الينبوع»، و«الزنبقة»، و«القمر »، و«الشمس»، و«الحديقة» التي تذكر في الأناشيد، و«باب السماء» و«مدينة الرب»، وكل هذه صور تمثل العذراء.
وكان الراهب «مريود» هو الآخر من أكثر أبناء مريم رقة عاطفة، وكان ينقش تماثيل حجرية بلا انقطاع حتى ابيضت لحيته وحاجباه وشعره من التراب، وأصبحت عيناه دائمتي الانتفاخ والانهمار، ولكنه كان ممتلئا قوة وفرحا وهو في ذلك السن الهرم.
ولا ريب أن «ملكة الجنة» كانت تبارك لطفلها سنينه التي تكر إلى عالم الفناء، وكان مريود يمثلها وهي جالسة على منبر وحول جبهتها هالة كلها من اللؤلؤ، وكان يحرص على أن يجعل ثنيات الرداء الذي تلبسه يغطي أقدام تلك التي قال عنها الرسول: «إن حبيبتي مثل حديقة مغلقة.»
وكان يمثلها أيضا في شكل طفل ملؤه الرشاقة وكأنها تقول: «إلهي أنت إلهي ...»
وكان في الدير غير هؤلاء شعراء ينظمون أناشيد لاتينية تكريما للعذراء مريم، وكان هناك أحد البيكارديين يروي عجائب سيدتنا نثرا وشعرا.
3
ولما رأى برنابا تلك المباراة في المدائح وذلك المحصول العملي؛ تحسر وندم على جهله وبساطته، وكان يتأوه وهو يتنزه منفردا في حديقة الدير: «وا أسفاه! لكم أنا سيئ الحظ لا يمكنني مثل إخوتي أن أمدح أم الإله؛ تلك التي قدمت لها قلبي مديحا يستحق تقديرا ما، وا أسفاه! وا أسفاه! لست إلا رجلا فظا لا صنعة بيدي ولا فن، وليس في يدي يا سيدتي العذراء لا مواعظ مهذبة أفيد بها الناس، ولا رسائل منمقة مقسمة بالنسبة إلى القوانين، ولا صور رائعة الجمال، ولا تماثيل صحيحة النحت، ولا أبيات من الشعر مستقيمة الوزن. ليس لدي شيء، وا أسفاه!»
وهكذا كان لا يني عن الشكوى، وترك نفسه للحزن ينتهبها كما يشاء.
وفي ليلة ما، سمع أحد الرهبان يقص قصة راهب آخر كان لا يعرف صلاة غير «السلام لك يا ماريا»؛ ولذا كان محتقرا لجهله وسذاجته، ولكنه لما مات صعدت من فمه خمس زهرات تمجيدا لكل حرف من حروف «ماريا»، وبذلك ظهرت قداسته.
ولما سمع برنابا هذه القصة بارك وأعجب مرة أخرى بطيبة العذراء، ولكنه لم يغتر بمثل ذلك الموت؛ فقد كان ممتلئ القلب بالغيرة والحماسة، وكان يود من كل قلبه أن يخدم مجد ملكته السمائية.
وفكر في الوسائل التي يمكن أن يستخدمها لإدراك ذلك الغرض، ولكنه لم ينته إلى شيء، فكانت آلامه تزداد يوما بعد يوم. وحدث في صباح يوم من الأيام أن استيقظ مسرورا وجرى مسرعا إلى الكنيسة، ومكث هناك منفردا أكثر من ساعة، ولم يرجع إلا بعد انتهاء زمن تناول الطعام.
ومن تلك اللحظة استمر على الذهاب إلى الكنيسة في الوقت الذي تكون مقفرة فيه من المصلين ليس بها أحد، وكان يمضي هناك وقتا طويلا من الزمن الذي خصصه الرهبان الآخرون لمزاولة فنونهم العلمية والصناعية؛ وبذلك ذهب الحزن عن نفسه، ولم يعد يشكو البتة.
وكان ذلك الشذوذ الغريب مثارا لشوق الرهبان ورغبتهم في استطلاع ما ورائه، فكانوا يتساءلون عند اجتماعهم عن السبب الذي كان يدعو الراهب برنابا لأن يكثر من الانفراد في الكنيسة.
ولما كان من واجب الرئيس أن يطلع على كل ما يأتونه من الأعمال؛ فإنه عزم على مراقبة برنابا عند انفراده.
ففي يوم من الأيام إذ كان برنابا منفردا في الكنيسة، حضر الأب الرئيس بصحبة راهبين من أكبر الرهبان سنا، وأخذوا يراقبون من شقوق الباب ما كان يحدث داخل الكنيسة.
رأوا برنابا أمام مذبح السيدة العذراء، رأوه ورأسه على الأرض ورجلاه في الهواء، وكان يلعب وهو في هذا الموقف بست كرات نحاسية واثنتي عشرة سكينا! واستمر في القيام بعمل تلك الألعاب التي كان قد اتخذها صنعة، والتي صادفت أعظم استحسان في الماضي! ولكنه كان الآن يقوم بتلك الألعاب تكريما لأم الإله المقدسة.
ولم يفهم الراهبان الكبيران أن ذلك الرجل البسيط قد وضع مواهبه وعلمه في خدمة العذراء المقدسة، فصاحا واحتجا بأن ما يصنعه هذا الرجل يعد تدنيسا محرما واستباحة لحرمة المعبد.
وكان الرئيس يعلم أن برنابا طاهر القلب، لكنه رجح أنه لا بد أن يكون قد أصيب بمس في عقله، وكانوا يستعدون للدخول والإسراع بإخراجه من الكنيسة، ولكنهم رأوا فجأة العذراء المقدسة تنزل درجات المذبح كي تجفف العرق الذي كان يتساقط من جبهة المهرج بثنية من ثنيات طرحتها الزرقاء.
وقال الرئيس وقد ركع على الأرض وأحنى رأسه حتى واجهت السلم الرخامي: «طوبى لأتقياء القلوب؛ لأنهم سيرون الله.»
وردد الراهبان وهما يقبلان الأرض: «آمين.»
अज्ञात पृष्ठ