مختار المنثور
مختار المنظوم
مختار المنثور
مختار المنظوم
قطرتان
قطرتان
من النثر والنظم
تأليف
أحمد زكي أبو شادي
مختار المنثور
قانون الطبيعة
قانون الطبيعة قانون نافذ لا يهاب سطوة الأمير ولا يترك الضعيف لضعفه، وهو عبارة عن عدة نتائج لأسباب كثيرة تقع تحت حسنا، وكلما تشابهت تلك النتائج كانت أسبابها متماثلة، وليس ذلك بمدون في كتب خاصة به وإن كانت الكتب السماوية قد جمعت مواده، وشرح شيئا منها الفلاسفة والحكماء بقدر استطاعتهم، وإنما يرجع المستفسر عنه إلى صدور كثرت خبرة أصحابها بالحوادث التي تمر بهم، ففيها يجد الإنسان الحقائق الكثيرة ومنها يعرف تلك الأسرار الخفية الغامضة على الجاهلين.
هؤلاء الشيوخ الذين يوافون هذا العالم دائما بنصائحهم الذهبية التي لا يلتفت إليها إلا القوم العاقلون يبسطون للملأ قضية لا نزاع فيها، ويقولون إن هذه القضية ولو أنها بسيطة يسهل على ذوي العقول الصغيرة فهمها، إلا أنها من أهم الأمور وأكبر القضايا التي يترتب عليها نهوض البشر وثبات الأشياء لأمد طويل ويقولون كذلك إنها مع صدق ما تتضمنه وإقرار النفوس به فكثيرا ما تهمل ولا يحفل بها!
تلك النظرية القوية البرهان لا تتعدى معنى الجملة الآتية: «تأكد أن الأساس ثابت قبل أن تهم بالبناء»، وإني إذا ذكرت للقارئ - وأنا أخص بالذكر غالبا هذا البلد - أن في كل مائة نفر من الناس تسعين أو أكثر ينبذونها فلا أكون مبالغا، وإلا فأي معنى لتلاشي الأعمال وتهدمها إذا كانت مشيدة على دعائم قوية، تضمن لها النجاح، وتحافظ على بقائها؟
مسرح الحياة
قال وليم شكسبير: إنما العالم مسرح والناس من رجال ونساء ليسوا سوى ممثلين يظهر كل عليه ويختفي، والمرء في حياته يمثل سبعة أدوار: فالدور الأول وهو زمن الطفولة إذ يكون رضيعا يصرخ ويقيء بين ذراعي مرضعه، والثاني حين يصبح تلميذا يحمل قمطره ووجهه يفيض بشرا وسناء في الصباح، يقفز كطير البجع ويتظلم من الذهاب إلى المدرسة، والثالث دور الحب وهو الزمن الذي يكون فيه عاشقا يتنهد تنهدات حارة تحكي «زفرات الأفران» وهو ينشد أغاني مطربة يخاطب بها لحاظ مالكة فؤاده، والدور الرابع وهو دور الشجاعة والإقدام حين يكون جنديا يغلظ في أيمانه ولحيته تشبه لحية النمر، يغار على الشرف ويقتحم الغارات بخفة باحثا عما يجديه فخارا ولو في فوهات المدافع، هذا الفخار الذي أراه كحبب الماء لا يدوم ولا يلبث، والخامس وهو الدور الذي يجلس فيه على سرير الأحكام ويقضي بين الناس وبطنه ممتلئ مستدير وبصره حاد ولحيته مقصوصة قصا مخصوصا، عقله راجح وفكره ملم بكثير من الحوادث، واع لما صدر فيها من الأحكام، والسادس يبدأ باكتسائه الأردية الرفيعة القماش الواسعة الحجم ووضعه المنظار أمام عينيه وتعليقه كيسا بجانبه، وقد غدت جواربه التي كان يلبسها وقت الصغر غير ملائمة لرجليه «لكبر حجمها» وصوته ضئيلا متلعثما يحاكي صوت الأطفال.
أما المنظر الأخير الذي ينتهي به هذا التاريخ المحزن الغريب فهو الطفولة الثانية «يعني الشيخوخة» والخبل المتناهي يتبعه فقد الأسنان والبصر والذوق بل وتضعضع جميع الجسد.
ماهية الشعر والأدب والفلسفة
إذا آمنا بأن العالم بأسره أنشودة حية متألقة من الأجرام المتحركة في نظامها الموسيقي البديع، فليس من الصعب علينا أن نؤمن بأن الشعر هو المعبر بلغتنا عن هذه الأنشودة العلوية والموسيقى السحرية، فمهمة الشعر هي الترجمة عن روح الوجود في أسلوب فني جذاب يشعرنا بعظمة هذا الوجود وجماله، وليس معنى ذلك أن يحصر الشاعر عنايته في الكليات ويترك الجزئيات، فكل ما في الكون مادة للشاعر ما دامت لديه الشاعرية المتفاعلة مع ما يراه، وإن لم أرد بهذا أن كل شاعر لديه هذا الاستعداد، ولكن يكفي الشاعر أن يكون متأثرا مخلصا في ما ينظمه، فالإخلاص من أهم عناصر الشعر بل الأدب عامة.
وكما أننا نستمتع غاية الاستمتاع بالصور الفنية الجميلة فضلا عن الجمال الحي ذاته وكما تطربنا الموسيقى الرائعة وتشجينا، وكما تشوقنا الآثار الفنية الدقيقة، يسحرنا الشعر العبقري؛ لأننا نهتدي بواسطته إلى أسرار الكائنات ومظاهر الحياة، كما نحاول أن نراها أو نرى بعض صورها في الآثار الفنية الصامتة كالصور، أو في الآثار الرمزية كالموسيقى، أو في تعابير الجمال المختلفة في الحرف والفنون من نتائج إحساسنا الواضح أو المبهم بجمال العالم ونظامه البديع.
ونحن نحس بهذا الجمال العالمي إذا ما كان الشاعر عالمي الروح ولو تناول الأشياء المألوفة، فهذا المتنبي مثلا يصف لنا شأنه مع جواده ويصف جواده في هذا الشعر الرائع:
ويوم كلون المدنفين كمنته
أراقب فيه الشمس أيان تغرب
وعيني إلى أذني أغر كأنه
من الليل باق بين عينيه كوكب
له فضلة من جسمه في إهابه
تجيء على صدر رحيب وتذهب
شققت به الظلماء أدني عنانه
فيطغى، وأرخيه مرارا فيلعب
وأصرع أي الوحش قفيته به
وأنزل عنه مثله حين أركب
وما الخيل إلا كالصديق قليلة
وإن كثرت في عين من لا يجرب
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها
وأعضائها فالحسن عنك مغيب
ولن يقول مثل هذا الشعر إلا الشاعر المتعمق الذي لا يقنع بالمظاهر وحدها بل يتغلغل بروح متصوفة إلى ما خلفها ولو وصف أحقر الأشياء، والمتنبي هنا يندمج في نفسية جواده حينما يصفه هذا الوصف المدهش ويجعلك تشعر أنك في حضرة نبي للشعر نافذ ببصيرته إلى كل شيء، ومن كان هذا أمره كان الترجمان الصادق للحياة وكان المفسر النابه للوجود.
وإذا تمعنا في قول أبي العلاء المعري في لزومياته:
يا شهب إنك في السماء قديمة
وأشرت للحكماء كل مشار
أخبرت عن موت يكون منجما
أفتخبرين بحادث الإنشار؟
من للمملك تبع أو قيصر
لو كان مثل مليكك العشار؟
والدهر مفتن الغوائل مهلك
رب الحسام وحامل المئشار!
إلى آخر هذه القصيدة المشبعة بالتأمل الفلسفي، إذا تمعنا فيها شعرنا برجاحة فوق رجاحتنا الإنسانية وتنبهنا إلى غرور الحياة.
كذلك حال شعورنا حينما نقرأ في «الفردوس المفقود» لملتون أو نتذوق أنشودة شيللي «إلى الجمال الذكي» أو «الوقت والحب» لشكسبير أو «أنشودة الراعي إلى حبيبته» لكريستوفر مارلو وأمثالها من روائع الشعر العالمي على اختلاف موضوعاته، فإنه شعور لا يقاس بالمتعة الأدبية بل كذلك وقبل ذلك بمبلغ تسامينا أو تعمقنا في الشعور.
ولا مشاحة في أن للشعر ضروبا شتى وأشهرها الشعر الغنائي بفروعه المختلفة، ولكنه في الواقع موسيقى كلامية قبل أن يكون تصوفا وتعبيرا وجدانيا منظوما، والموسيقى عنصر ضروري في معظم الشعر ولكن لا شأن لها بماهية الشعر، بل قد تفسد ماهيته التي هي أعظم بكثير من الإطراب والتسلية بأنغام رتيبة، وصفوة القول أن ماهية الشعر التعبير عن الحياة وتفسير الوجود تفسيرا تصوفيا في لغة موسيقية أو شبيهة بالموسيقية.
أما عن الأدب عامة فماهيته التعبير عن شخصياتنا وعن الحياة والمجتمع كذلك تعبير الأصالة لا التقليد، وبذلك يشترك الأديب مع بقية الفنانين في تفسير الوجود وتقديس الحق والجمال، وعن الأديب يتفرع الشاعر وإن استقل الشاعر فيما بعد بفنه الخاص في مظهره وروحه المجنحة، فليس كل أديب شاعرا ولكن كل شاعر أديب.
يقول الأدب الفرنسي: «إن الفن هو الحياة كما يراها مزاج الفنان»، وهو مرآته التي تنعكس عليها الكائنات، فالمزاج أو الشخصية هو أساس التعبير الأدبي، وهذا ما يوجد التباين الذي يزيد من ثروة الأدب، إذ يصبح الأدب مرائي شتى للحياة ممثلا شخصيات عديدة ووجهات نظر متنوعة خلافا للعلم الذي له قواعد معينة محدودة، وهكذا تعيش المؤلفات الأدبية والآراء الأدبية تبعا لما خلفها من شخصيات قوية، سواء أكانت هذه الآثار قصة أم شعرا أم رواية تمثيلية أم دراسة أدبية أم غير ذلك.
وليس من موجب للإشارة إلى الأدب بصفة عامة بعد الإشارة إلى الشعر خاصة سوى الرغبة في التوكيد بأن الشاعر الحي القوي يستطيع أن يستوعب في شعره جميع فنون الأدب ما دامت عنده القابلية لذلك، ولا أعني بالشاعر الحي القوي فردا بالذات بل مجموع الطاقة الشعرية العالمية (ما دامت أذواق الشعراء تختلف) فإذا جمعنا من هومر وشكسبير وملتون ودانتي وجيته وكولردج وبيرون وشيللي وكيتس وهيني وشيللر وهوجو ولامارتين ودي موسيه والفردوسي وتنيسون وابن الرومي وبشار والشريف الرضي وأضرابهم الطاقة الشعرية الإنسانية العامة استطعنا أن نقول في غير مبالغة إن ميادين الشعر لا حدود لها وإن الشعر قادر كل القدرة على أن يغير على جميع ميادين الأدب متى وجدت المناسبات القوية والملاءمة القوية مع الشاعر.
وأما الفلسفة فغايتها معرفة قوانين الحياة وعلل كل شيء؛ ولذلك اختلف تعريفها وتطبيقها في شتى العصور، أي منذ عدها فيثاغورس الرغبة الخالصة في المعرفة إلى زمننا هذا حيث أصبحت الفلسفة رسول التوفيق بين شتى العلوم مع فحص الفكر الإنساني والذاتية الإنسانية، وهكذا أخذت الفلسفة تشمل علوما كثيرة في أبحاثها وانتهت إلى صميم الإنسان، ولما كان من أظهر خصائص الشعر العالمي أن لا يفرق ما بين العاطفة والفكر في استيعابه فلا عجب إذا وجدنا شأن الفلسفة مع هذا الشعر شأن الأدب العام، حتى ذهب بروننج إلى القول بأن الفلسفة تأتي قبل الشعر الذي يعده أسمى خلاصة لها، ونلمح مثل هذا الرأي حتى من وردزورث شاعر الطبيعة المشهور وقد أجمع أكبر النقاد على أن الغاية الفلسفية العظمى هي حلية أسمى الأدب وأسمى الشعر.
حياة اللغة
بماذا تحيا اللغة العربية بل أية لغة؟ هذا هو السؤال المعقول الذي يجب أن يوجهه كل غيور على لغة الضاد إلى نفسه وإلى زملائه الحريصين على حياتها حياة كريمة، ثم يتعاون على تحقيق الجواب الطبيعي على سؤاله.
إن حياة اللغة تترتب بلا جدال على انتشار استعمالها كما تترتب على ثروتها المتنوعة التي تضمن لها الكرامة وزيادة الانتشار والنفوذ، فاللغة الهيروغليفية مثلا لغة ميتة لأنها الآن غير مستعملة ولأن ثروتها محدودة ومقصورة على جانب من التاريخ بعد أن اندثر حماتها فانقطعت عن مجاراة الحضارة والثقافة، واللغة الإنجليزية لغة حية في وقتنا الحاضر لأنها لسان من ألسنة الحضارة الحديثة ولأنها واسعة الثقافة المتنوعة وقد رعتها السياسة والعلاقات الاقتصادية والأممية في الإمبراطورية الإنجليزية وفي البلاد الموالية للتاج البريطاني وفي الولايات المتحدة فأصبحت لغة عالمية.
وإذا نظرنا إلى لغتنا العربية لغة القرآن الكريم فهي لغة مقدسة في نظر الملايين من المسلمين، ولها تبعا لذلك كرامة بل قداسة مضمونة البقاء ما دام علم الإسلام مرفوعا، ولكنها بالرغم من ذلك لا يمكن أن تصبح لسانا من الألسنة العالمية بالمعنى الصحيح ولا يمكن أن تكون نابضة بالحياة القوية بدل الحياة الطويلة فقط ما لم تتنوع ثروتها بحيث تشمل جميع مرافق الحياة المشتبكة، يجب أن تكون اللغة العربية لغة علم وأدب وفن وفلسفة وسياسة واقتصاد وثقافة شاملة، غير مقصورة على مصالح قطر دون قطر، وأن يتوفر على التأليف بها أعلام، وأن تنقل إليها أشهر التصانيف العالمية في كل باب، بهذه الخطة وحدها تجمع اللغة بين الكرامة الصحيحة وبين الحياة القوية المستمرة، لأن أبناءها لن يشعروا في أي وقت بعجزها وضعفها ولا بفقرها، وإنما يحسون دائما أنها ذات ثروة مزدادة وتاريخ مجيد ومرونة حميدة فيعتزون بها ويتطوعون لنشرها ولا يرتضون عنها بديلا.
فمع إجلالي للغة الإنجليزية المتمكنة في مصر ومع محبتي لها أرى أنه واجب حتم علينا تنفيذا لخطتنا في حماية لغتنا الوطنية وضمان حياتها أن نجعلها - بغير قيد ولا شرط - لغة التعليم في جميع المدارس، وأن نتوفر على الترجمة إليها دون انقطاع، فإننا الآن في دور يجب أن تقدم فيه الترجمة على التأليف ما لم يكن التأليف أصيلا بالمعنى الصحيح، وهذا لا ينافي العناية بتدريس اللغة الإنجليزية وتمكين الطلاب منها لينتفعوا بها في زيادة معارفهم من المصنفات الإنجليزية.
وبديهي مما تقدم أني أنتصر للغة الفصحى فإن قواعدها ومعاجمها وذخائرها تجعلها قابلة للتوحيد في العالم العربي، أقول هذا في صراحة تامة لأني أومن بإمكان تهذيب لغة التخاطب تدريجيا حتى تتلاقى واللغة الفصحى - لغة الكتابة - تبعا لانتشار التعليم وازدياد الصحف والمجلات الشعبية، كذلك أصرح بأني أومن بواجب الحرص على خير تقاليد لغتنا الشريفة، بشرط أن لا يكون حرصا غبيا يقف في سبيل الاجتهاد والإبداع، فلولا الاجتهاد والإبداع في العصور الماضية لما بلغت اللغة العربية ما بلغته من عزة سابقة، وليس الوقوف إلا مرادفا للفناء.
يجب علينا التبحر في دراسة لساننا المبين، ثم علينا بعد ذلك أن نكون محسنين إليه بإنتاجنا الصالح من ترجمة وتأليف، واضعين نصب أعيننا أن نزكي باستمرار عن معارفنا وأن نحسن استعمال أدواتنا اللغوية التي أتقناها في خدمة الثقافة العامة، يجب على الأهالي وعلى الحكومة معا التساند في وضع المعاجم الحديثة الكبرى ودوائر المعارف المنوعة وتنظيم الترجمة الشاملة إلى اللغة العربية حتى يحمد لنا الجيل التالي هذا الصنيع الجبار، وحتى يتابعه هو بهمة أجل وأسد، وهكذا تنتقل هذه الرسالة الثقافية العظيمة من جيل إلى جيل، وتمتد شعلتها إلى الأقطار العربية الأخرى، وبذلك نمهد للغة العربية مستقبلا نيرا باهرا.
أما واجب المثقفين من أبناء الضاد الكاتبين نثرا أم نظما فواضح صريح، ألا وهو الإنتاج في جراءة وحسن اختيار متطلعين إلى الغرب الذي سبقنا بمراحل تطلع الغيور على قوميته ولغته، إن الإنجليز يفرحون ويعتزون بكل ما ينقل إلى لغتهم من تراث العرب والصينيين واليابانيين وشتى الأمم الأخرى لأنهم يعتبرون هذا النقل بمثابة دليل جديد على عالميتها، فيجب على متنورينا أن لا يصغوا إلى فقهائنا الجامدين الذين يأبون أن يشحذوا أذهانهم، وكل حظهم أن يعيشوا على إحسان الأموات! وإلا فبأي منطق يستصغرون ترجمة آثار شكسبير بينما الإنجليز لا يستصغرون ترجمة الشعر العربي القديم ورباعيات الخيام ونحوها، بل يعدونها - متى ترجمت إلى لغتهم - جزءا من آدابهم؟!
إننا أحوج الأمم إلى نقل الآداب والعلوم الإنجليزية والأمريكية والألمانية والفرنسية والإيطالية بصفة خاصة إلى لغتنا، فأين العاملون؟ وهل يضيرهم ما يقوله الجامدون من أنهم يسيئون إلى الأدب العربي بهذه المترجمات لأن الذوق العربي لا يتمشى معها؟! أليس مما يزيد ثروة لغتنا أن ننقل إليها أرقى الأساليب الغربية في البيان نقلا أمينا كما يفعل الغربيون مثل ذلك إزاء الآداب الشرقية؟ وكيف تتسع آفاقنا في التعبير والتفكير إذا لم نتطلع إلى آفاق غيرنا ممن سبقونا في الحضارة والثقافة؟!
هذه ملاحظاتي الرئيسية لكتابنا وشعرائنا على السواء، يجب أن نكون بررة بروح العصر الذي نعيش فيه، مبرهنين على أن لغتنا العظيمة قابلة لاستيعاب جميع ثقافته وقادرة على ذلك، وبذلك نضمن لها الحياة الشاملة التي تستأهلها ونصون كرامتها وكرامتنا.
حديث الفن
ليس حديث القطن ولا حديث الشركات المالية ولا ذكرى الحرب اليابانية الروسية ولا مشاكل البلقان ولا أمثال هذه الأمور بما يعد بمثابة ثورة أو حدث خطير في عرف الفن، وإنما الثورة والحدث الخطير أمور أخرى؛ فنحن نسمع أو على الأصح نقرأ في الصحف الإنجليزية عن أغاني (مدام بترفلاي) منذ سنة 1905 ونقرأ عن نبوغ الممثلين الهزليين والموسيقيين في إنجلترا حيث توجد صالات الموسيقى الباهرة، ونقرأ عن ابتداع جورج إدواردز للرواية الموسيقية الهزلية وعن نجاح اختراعه هذا بين الإنجليز إلى حد بعيد، حتى إن روايته (فيرونيك) مثلت أربعمائة وتسعين مرة متوالية، ونقرأ عن رواج مثل أغنية
The Gibson Girl
رواجا مدهشا، ومثل هذه الحوادث هي التي تعني الفن لا المشاكل السياسية وغير السياسية وإن أثرت على الفن أحيانا من طريق غير مباشر في التصوير الهزلي مثلا كما حدث بالنسبة للمطالبات بحق الانتخاب حينما ظهرت في إنجلترا منذ سنوات قليلة مضت.
ويجب أن يعنينا في مصر أمر هذا التمثيل الغنائي المرح، فنحن شعب يحب الموسيقى والغناء كما تشهد بذلك (دار التمثيل العربي) وغيرها وتقديسنا صوت الشيخ سلامة حجازي، حتى إننا أبينا إلا أن نحول روايات شكسبير إلى شبه غنائيات! فحبذا لو استغل افتتاننا هذا بالتمثيل الغنائي لإدخال هذا النوع في بلادنا ولو بتمصير هذه الموسيقى الأوروبية البديعة، وإن لم تتح لي فرصة سماعها كاملة بل كل ما سمعته منها مختارات في بعض الحفلات الأوروبية الكبرى بالقاهرة كانت قوية التأثير في نفسي، وعزز إيماني بها ما سمعته من بعض الوجهاء المثقفين الذين زاروا إنجلترا أخيرا واستمتعوا خير استمتاع بهذا اللون من التمثيل الجميل، وقد نتدرج من ذلك إلى خلق الأوبرات العربية على غرار رواية (عايدة) بشرط أن تكون شعرا خالصا، وهذا غير عزيز على همة شعرائنا الأعلام، وأخص بالذكر أساتذتنا الأجلاء مطران وشوقي وحافظ، هذا هو بعض حديث الفن، فهل يضيع هذا الحديث في مصر؟
طبقة الشعراء
لا بد أن يكون الشاعر كثير الانفعال يتيقظ لأقل شيء ويدقق في معظم الشئون، ومثل هذا الرجل هو الذي تخرج كلمته من القلب فتقع في القلب، ويستطيع أن يؤثر بما يقرضه على أية نفس كانت تفهم وتعي، وليس هناك ما يحدث اليقظة النفسية غير كثرة (التأمل)، فهو الذي ينتقل بصاحبه إلى ما فوق السماكين ! هناك يقدر أن يشرف على هذا الكون فيمثله أحسن تمثيل، ويصوره أجمل تصوير.
ولكن ماذا يدفع النفوس البشرية إلى دقة النظر والفحص؟ أليس ما يحيط بها من الضيق الشديد والأزمات القوية التي تدفعها إلى البحث عن طرق ملاقاتها؟ لذلك كان من البديهي المعقول أن الطبقة التي يخرج منها معظم الشعراء هي الطبقة الوسطى أو التي أقل منها مرتبة بلا نزاع، والدليل أن الرجل إذا شب منها فإنه يتربى أحسن تربية للعناية التي يصرفها والداه أولا وهي طبيعة هذا النوع من الأفراد، ولما تقع عليه عيناه من الحوادث الجمة التي يستفيد منها بخبرته أفضل النصائح الغالية والعبر فيقدر على وصفها ويكون دائما قوة عاملة مفكرة تنأى عن الشر، ولا تنظر إلا عيون الطبيعة فتتناجيان وتتحببان وتعطفان على بعضهما، وحسبك أن تعلم أن أبا تمام الشاعر المشهور كان فقيرا يسقي بالجرة في جامع بمصر وما زال يأخذ بأسباب العلم حتى وصل إلى ما وصل إليه، وأن فكتور هوجو شاعر الفرنسيس وحكيمهم الكبير لم يكن من أهل الرياش والسعة بل زد على ذلك أنه كان عصاميا وصل إلى درجة رفعته باجتهاده وفطنته، وما يمنع الغني العظيم عن الوصول إلى منزلة الشاعر إلا عنايته بلذته الجسمية أكثر من عنايته بلذته النفسية وانخداعه بالظواهر الكاذبة وفساد تربيته في الغالب، ولو تناول الشعر فإما أن يكون واحدا من اثنين: رجل شذ عن ذاك القياس لشهامة نفسه وعلو آدابه وحسن خلقه فيزيد الشعر جلالا على جلال، أو محب للأدب يقول ما يقول طمعا في البلاغة وهو في الغالب لا يؤثر نفسه إلا بما صدر حقيقة عن انفعال، والشعر ماثل في كل نفس ومطبوع في كل قلب بشري غير أن صاحبه عاجز عن بيانه ووصفه في التركيب اللائق به وتأديته نطقا، ولقد ترى في كثير من العبارات ولو كانت من أفواه العامة خواطر ومعاني شعرية مبعثها الطبع ورائدها السليقة، ولا يكون المرء ذا قوة فكرية تستنبط التشبيهات الغريبة ما لم يكن متجردا من ذلك الثوب الكثيف: ثوب المادة ، ولا ينزعه عنه إلا أدب يفيد وعلم ينفع، ونظرة صادقة إلى الوجود يميز بها بين الباطل والحق، ويفتح باب فكره المغلق فيقف على مناهج الفضيلة التي يحث على اتباعها ويدري بمهبط الرذيلة فينبه الوجدان إلى عواقبها السيئة.
رعاية الشعراء
نحتقر الآن فكرة التكسب بالشعر عن طريق المدائح الصناعية للملوك والولاة والأغنياء، ولا نقبل من شعر المديح إلا ما تمليه العاطفة والفكرة السامية، وقد نعيب حتى على مثل المتنبي اتصاله بسيف الدولة فضلا عن اتصاله بكافور ثم انقلابه على كافور وهجائه إياه أقبح الهجو، ولكن من الإنصاف لشعراء العربية المتقدمين أن نشير إلى أن زمانهم غير زماننا، وأن معاييرهم الخلقية غير معاييرنا، وأنهم لم يكونوا وحدهم الذين يتلمسون السادة الأنصار لحماية أدبهم وصيانة رزقهم، فالمعروف أن معظم الشعراء الإنجليز مدينون بإنتاجهم الممتاز لمثل ذلك التشجيع والحماية، فهذا شكسبير نفسه لم ينل أي حظوة لدى القصر إلا بفضل وساطة إيرل سوثامبتون الذي كان يرعاه وقد أهدى إليه شكسبير فيما بعد ما أهدى من أشعاره في أسلوب نعتبره الآن منتهى الغلو في التقدير، وحتى بعد العهد الإليصاباتي بزمن طويل بقيت هذه العادة ملازمة للشعراء والأدباء، مثال ذلك جيمس طومسون (1700-1748م) الذي نظم (الفصول) فقد كان يواجه المجاعة في مدينة لندن لولا أن أنقذه منها «لورد نبيل»، ولم ينل على قصيدته (الشتاء) - وهي الجزء الأول من كتابه الشعري المومى إليه - ثمنا لحق الطبع غير ثلاثة جنيهات وثلاثة شلنات، ولكن اللورد وذنجتون الذي أهدى إليه الديوان نفحه بواحد وعشرين جنيها فحقق تأميله فيه.
وكم سعى دريدن عبثا للحصول على رعاية السير تشارلس بكرنج (وكان ابن عم لأوليفر كرومويل)، وأخيرا نجح في الحصول على رعاية إيرل بركشير الذي كان له نفوذ عظيم في عالم الأدب، وبلغ من نجاحه أنه تزوج من ابنة الإيرل أخيرا.
وكان لحسن تقدير السير وليم تيرنبل الأثر الطيب في نفس الشاعر بوب فشجعه على طبع ديوانه، وكذلك كان للسيد والش هذا الأثر الطيب في نفس الشاعر وكان السير تيرنبل سياسيا ممتازا، كما كان السيد والش من أصحاب الأراضي البارزين، وكان والش يوجه إلى بوب مثل هذا التقدير: «إني لا أعرف أحدا له مثل ما لك من الأهلية لمضارعة ملتون! وليس من التملق مطلقا أن أقول إن فرجيل لم ينظم شيئا بمثل هذه الإجادة في سنه.» ولكن هذا التشجيع برغم قيمته لم يكن لينفع الشاعر مثلما كانت تنفعه المعاونات المادية.
وكانت الخطوة الأولى التي خطاها جوزيف أديسون نحو الشهرة والحظ رعاية اللورد جودولفين له على أثر إعجابه بقصيدته عن «معركة بلنهايم» فعرض عليه منصبا حكوميا وأخيرا بلغ أديسون منصب الوزارة.
ولولا مساعدة بيرك السخية للشاعر كراب لما كان له مآل غير الانتحار، فقد وفد على لندن لا يملك غير ثلاثة جنيهات وحزمة من المخطوطات فلاقى المجاعة وجها لوجه، ولم ينقذ أدبه سوى أريحية بيرك.
فلا عجب بعد كل هذا إذا تدفق أولئك الأدباء النابغون البائسون وأمثالهم بعبارات الثناء المنمقة بل بعبارات العبودية لمن يدينون لهم بحياتهم وحياة أدبهم، وليس من الإنصاف أن نؤاخذهم بل علينا أن نؤاخذ بيئاتهم الجامدة.
كذلك كان شأن أدباء العرب بل شأن نفر غير ضئيل من أدبائنا النابهين أمثال: محمد حافظ إبراهيم ومحمد السباعي ومحمد إمام العبد، فإن شكواهم الصارخة من الجمهور شكوى صادقة محقة، وليس لنا أن نلومهم أقل اللوم بل علينا أن نلوم أنفسنا، وسيأتي يوم تقدر فيه الأمة فضل هؤلاء الأدباء النابهين، ولكن أرجو أن لا يكون ذلك بعد زمنهم، فقد وجد أدباء الإنجليز من ينصفهم ذلك الإنصاف في القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر فأحرى بنا أن لا نخذل أدباءنا في القرن العشرين.
التربية الوطنية
ليس أهم عناصر التربية الوطنية المصرية أن نعلم حدود وطننا ومجمل تاريخه، وكيف نحكم الآن، وما هو مجلس الشورى وما هي الجمعية العمومية، وما هو نظام الإدارة والتعليم والفلاحة في بلادنا، وما إلى ذلك من المعارف القومية التي تربطنا بالماضي والحاضر والمستقبل، وإنما أهمها في نظري أن ندرك أن المصريين جميعا شعب واحد هو الشعب القبطي أي المصري، فليست كلمة «قبطي » إلا ترجمة كلمة
Aegyptus
اللاتينية وهي إغريقية أصلا، فهي تسمية لطائفة بعينها، وكان النبي
صلى الله عليه وسلم
أول من دعا المصريين من بين العرب بهذه التسمية في رسالته الشهيرة إلى المقوقس، هذه هي الحقيقة الثابتة تاريخيا وعلميا، وليس ما ذهب إليه البحاثة أحمد زكي بك سكرتير مجلس النظار في خطابه الذي ألقاه في يوم الجمعة 27 مارس سنة 1908 بدار التمثيل العربي وقد حوى ما حوى من الخطأ العجيب حيث أشار إلى أن كلمة «قبطي» هي نسبة محرفة إلى «قفط»، وهو خطأ واضح يدهشني وقوعه من البك الصديق العلامة، ولعل ما وجهه إليه الأثري الكبير المسيو ماسبرو من تصحيح صريح قد أقنعه بخطئه.
هذه هي أهم نقطة في التربية الوطنية يجهلها المصريون أو معظمهم، فنحن جميعا أقباط، وأغلبيتنا مسلمة بحكم فتح العرب لمصر (ولم يكن عدد الفاتحين إلا آلافا قليلة)، والأقلية مسيحية، ولا شك في أن الجامعة الإسلامية جامعة مقدسة لدى الأغلبية، كما أن مجد العرب وسيرتهم وفتوحاتهم حبيبة إلى نفوسهم، كذلك شأن المسيحيين المصريين بالنسبة لمجد المسيحية وتراثها وأعلامها، ولكن يبقى بعد كل هذا أن مصر يسكنها شعب موحد في دمه وعاداته وأخلاقه بالرغم من اختلاف الدين، وأنه - بعنصريه - جدير بأن يحرص على الأخوة الوطنية كل الحرص، وأهل لأن يعنى كل من عنصريه بصوالح الآخر وهمومه وآماله وأن يحرص على كرامته وأن يساعد في استثمار مواهبه لخيره ولخير الوطن، إذ بغير ذلك تنتفي الأخوة الوطنية، والشعب الذي يجهل معنى الأخوة الوطنية مبدأ وتطبيقا لا يفهم معنى التربية الوطنية، ولا يعد أهلا لأن يستقل بإدارة أموره ولأن يكتسب احترام العالم المتمدن، وقانا الله مثل هذه العاقبة.
فظائع الحروب
أنشأ السيد كارل شوروز مقالا بليغا في إحدى المجلات الإنكليزية تكلم فيه عن واقعة جتسبرج، وقد رأينا أن ننشر شيئا مما كتبه في وصف ما يراه الناظر بميدان القتال في اليوم الثاني لحدوث إحدى الوقائع، قال: لا أقبح ولا أبشع من النظر إلى جثث القتلى في ساحة الحرب وقد لبثوا يوما أو أكثر قبل أن يذوقوا حتفهم عرضة لأشعة الشمس المحرقة والهواء الحار، وقد تنكرت سحنتهم فانتفخت وجوههم واصطبغت بالسواد، وبرزت أعينهم وصارت ثابتة في مكانها لا تتحرك، وتبدلت هيئتهم حتى بعدوا عن أن يميزوا ويعرفوا، وقد انفرد بعضهم وبقي غيرهم مرتبين صفوفا، ووقع آخرون بعضهم على بعض فكانوا أكواما، وبدت على آخرين هيئة من يريد الراحة بالصلح وقد رفعت أيدي فريق منهم، وظهر آخرون في صورة الجلوس وأخذ نفر يركعون، وبقي بعضهم ينبش الأرض بأظفاره، وقد تشوه كثيرون تشوها منكرا بينما كانت الحرب شديدة الوطيس، وملك المنون يرفرف فوق الرءوس.
امتلأت الديار ومحابس الحيوانات والمزارع بالأنين، ووضعت المناضد في فضاء الأرض، ومكث الجراحون وأكمامهم مرفوعة إلى مرافقهم، وسواعدهم المكشوفة وكذلك قطيلاتهم الكتانية مخضبة بالدماء، وهم - إلا قليلا منهم - قابضون على أسلحتهم بأسنانهم بينما يكونون مهتمين بمداواة جريح راقد فوق المنضدة أو على مكان آخر، أو تكون أيديهم مشتغلة بعمل ما، وهناك من خلفهم برك الدماء وبجانبها أكوام من السواعد والأرجل المقطوعة مما يزيد ارتفاعه في بعض الأحايين عن قامة الإنسان.
الجريح راقد على المنضدة وهو غالبا يصيح مما يقاسيه من الألم فيخف إليه الجراح ويفحص بسرعة جرحه ثم يشرع في بتر العضو الذي يؤذيه ويشير إلى الخدم بالاستعداد لإحضار آخر، فيخرج سلاحه من «بين أسنانه» التي كان قابضا عليه بها حين كانت يداه مشغولتين، ويمسحه بخفة مرة أو مرتين في قطيلته
1
الملطخة بالدم، ثم يبدأ بالبتر، فإذا انتهى من عمله نظر إلى خلفه وتنهد تنهدا كثيرا صادرا من أعماق فؤاده ثم نادى: «غيره» ...
ويلفت نظرك أن ترى الجراح - وقد مضى عليه زمن طويل وهو يشتغل - نازعا سلاحه من يده قائلا (والدموع الغزيرة تنهمل من عينيه) إنه لم يعمل عمله بثبات فإن ما يشاهده تعجز عن رؤيته طاقة البشر! وترى كثيرين ممن جرحوا من المجاهدين يتحملون آلامهم وهم سكوت بجلد وسكون وجبنهم متجعدة وأعينهم دامية ثم يصل إلى أذنيك صدى أنين من فؤاد كليم، وأصوات من الألم منكرة تشق الفضاء وصريخ يائس قانط يقول : «أيها اللورد!» ... «أيها اللورد!»
2
أو «دعني أموت!» ثم تسمع أصواتا ضئيلة تردد وتقول: «أمي!» أو «أبي!» أو «وطني!»
من قلم مصري
أصدرت مطبعة أم عباس بالقاهرة كتابا صغيرا بهذا العنوان باللغة الإنجليزية للأديب الشاعر علي فؤاد طلبة وهو نجل المغفور له طلبة عصمت باشا من أقطاب الثورة العرابية.
ومؤلف هذا الكتاب المدرسي من طلبة مدرسة الحقوق الخديوية بمصر، أخرجه بناء على اقتراح زملائه الطلبة وقد جمع فيه نخبا من كتاباته المدرسية والصحفية على نحو ما فعلت في الجزء الأول من (قطرة من يراع)، ولكنه كان أكثر توفيقا مني في دقة اختياره ووجازته بينما أني لجأت إلى التوسع، فجاء كتابه على صغره دسما بموضوعاته القيمة المنوعة، ولئن كان الغرض الأول منها فائدة الطلبة الإنشائية فإن مزاياها الأدبية أبعد من ذلك.
وقد كتب له السيد فوجهان وايلد مقدمة مدرسية بديعة تناول فيها كيفية تعلم اللغات الأجنبية قراءة وسماعا وكتابة، وهذه المقدمة بعيدة عن التقاريظ الجوفاء التي اعتدناها حتى في كتب شيوخنا، وفيها الكثير من الآراء الصائبة والنصائح الغالية ليس أقلها توكيده العناية بدرس الموضوع وتقسيمه وتحديد نقاطه قبل تناول القلم للكتابة، وبذلك يتيسر ربط الموضوع بعضه ببعض في وحدة جامعة، وهو ينصح الطالب حينما يكون في شك أن لا يستعمل إلا أبسط الألفاظ وأقصرها متجنبا الكلمات التي لا لزوم لها، بحيث إذا كفت كلمة واحدة للتعبير عن المعنى المراد فمن الخطل استعمال كلمتين، كذلك كان من الخطأ تكرار اللفظ أو التعبير على وتيرة واحدة، إن الكتابة في ذاتها فن والفن موهبة، وغاية ما تؤدي إليه القواعد الموضوعة صقله وتهذيبه، وخير ما ينصح به الكاتب أن يكون في ذهنه فكرة ناصعة جلية عن موضوعه أولا ثم يعبر بعد ذلك عنها في لغة سمحة بسيطة تجعل منها وحدة متماسكة لا شوائب فيها ولا قشور من التكرار والثرثرة والتعقيد والحذلقة، ولئن لم تكن موضوعات هذا الكتاب نماذج للكمال الإنشائي فإنها - كما قال السيد فوجهان وايلد - جيدة، وشاهد ماثل على نتائج العناية بالتحصيل الأدبي.
وبعد هذا تعنينا من هذا الكتاب الاعتبارات الآتية: (1) براعة المؤلف في اللغة الإنجليزية التي تعلمها في مسقط رأسه مدينة كولمبو بجزيرة سيلان تعلما فطريا ثم مدرسيا، فتفوق بذلك على زملائه المصريين تفوقا ظاهرا. (2) لباقته ورجاحته في اختيار نقط موضوعاته، وهذا بلا شك من آثار تربيته الإنجليزية أثناء إقامته الطويلة في سيلان، ولا ضير علينا من الوجهة الوطنية في الاعتراف بهذه الحقيقة. (3) نضوج ذوقه الأدبي عن أذواق كثيرين من زملائه المصريين الذين لم تتح لهم مثل ظروفه، ويكفي المقارنة بين كتابه وبين كتب الإنشاء العربية السمحة التي يرهق بها الطلبة أيما إرهاق. (4) حنينه إلى مسقط رأسه في قصيدة وداعه له حينما ارتحل عنه إلى مصر في سنة 1897م، وشعوره بأنه إنما يقصد إلى بلد أجنبي لا إلى وطن أهله وأجداده، وهذا الشعور الصادق قمين بأن يجعلنا نحترم إخلاصه الأدبي الذي لا مواربة فيه ولا تصنع، إذ إنه يطابق الحقيقة الوجدانية تمام المطابقة ويذكرنا بقول الشاعر العبقري ابن الرومي:
وحبب أوطان الرجال إليهمو
مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهمو
عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
لقد ألفته النفس حتى كأنه
لها جسد، إن بان غودر هالكا
ولا مشاحة أن الأديب علي فؤاد طلبة ذو مواهب كفيلة برفعة منزلته إذا ما توفر على خدمة الأدب في المستقبل، وإن كنا نشك في إمكان ذلك ببلادنا حيث لا يعصم الأدب الأديب من العري والجوع، وإني ألاحظ بسرور إخلاص هذا المؤلف الناثر الناظم، والإخلاص من أهم أركان الأدب، وأعتقد أنه كفؤ في المستقبل للتأليف الأدبي الناضج ولنقل روائع آدابنا إلى اللغة الإنجليزية وفي مقدمتها نفائس الشعر العربي بين قديمه وحديثه.
مختار المنظوم
النيل العظيم
أيا وافدا من «جبال القمر»
1
لقد جئت كالأمل المنتظر
ولم تشك من عقبات الطريق
ولا من متاعب هذا السفر
وبعض الذي جزته كله
يبث العناء وروح الضجر
فما كنت إلا الوفي الأبر
إذا ما حرمنا الوفي الأبر
لعل الأساطير في وصفها
رأت فيك ذوب شعاع القمر
وإن كانت الشمس فيك استقرت
بهذا النضار وهذي الصور
تفيض علينا بفيض الحياة
فكم فيك من ألق مدخر
وكم فيك من نعمة تستعز
وتلقى إلينا فلا تحتقر
وكيف وأنت صميم الحياة؟
وكيف وأنت رسول القدر؟
وفيك لإيزيس روح الحنان
وروح لأزريس لما احتضر
فأنبت هذي الجنان اللواتي
تهيم بها الروح قبل البصر
فلا بدع إن عبدتك القرون
ولا غرو إن ألهتك السير
ولا بدع إن قدستك الفنون
وناجاك كل فؤاد شعر
وحنت إليك غراس الحقول
حنين الخيال لنا والفكر
وغنت لك المهج الباسمات
وهذي الرمال وهذا الحجر
تساووا بحبك يا ابن الحياة
ويا أصلها للثرى والبشر!
قصر الجزيرة
قف بالجزيرة وارقب حال من بانوا
فللديار كما للناس وجدان
زالوا وما زال باق من مآثرهم
وناطق بالفخار الجم مزدان
بكى طويلا وجاري (النيل) يسعفه
بالدمع، وهو أمام النهر ظمآن
في وحشة الصمت لا الأنوار ضاحكة
فيه، ولا تسعف الآذان ألحان
وللندى من دموع الفجر مدكر
كانت ترطب حسنا للألى كانوا
وللهوى زفرة أذوت بحرقتها
ما عاش فيه، وللأحزان ألوان
وللعيون رثاء من تفجرها
كأن رشاشها شعر وتأنان
فكم لحاظ رأت فيها محاسنها
وكم بجنباتها قد صيد غزلان
وكم صدور تجلت ثم بللها
عبث الشباب كأن الحب جنان
2
يا قصر لا كنت صداح الجنان إذا
لم ترثك اليوم أطيار وأفنان
والحور في غربة طالت وفي جزع
كما تيتم بعد البين لهفان
مررن يسألن باكي الحسن هل أثر
لحسنهن به يهواه إنسان
فكم جررن ذيول الوشي عاطرة
فزدن إتقان فن فيه إتقان
وكم سطعن وكم داعبن كل سنى
وكم رقصن فماد الفل والبان
كسين حسنك حسنا لا فناء له
حتى فجعت فهن بعد من هانوا
وأين (إيوان كسرى) منك في عجب؟
وأين من مجمع الإيناس (غمدان)؟
أو (قصر جعفر) في لذات مبدعه
أو عز (قرطبة) في حكم من دانوا
لتنشد اليوم أطيار معذبة
أشجى الرثاء الذي ما فيه بهتان
كم من أنين لها ما كنت أحسبه
صدقا، ولكن ذكرى الطير أشجان
القلب يخفق تحنانا لمسمعها
والعين يجذبها من فيك تحنان
وبالسني من الحصباء من قبل
ما لا يزال به للحسن إحسان
فكم مشت غانيات فوق ساحتها
مشي العروس لها الأقمار خلان
فذهبت كل ما مست إذا خطرت
وفضضت ما رآها وهو جذلان
أين الليالي التي جادت بنفحتها
على الزمان الذي جادته أزمان؟
وكل نافذة درية سطعت
وكل مقصورة للخلد بستان
وكل ما مر فيها الصفو أجمعه
وكل ما غاب أتراح وأحزان
أين الجمال الذي دانت لعزته
جلالة الملك واسترضته تيجان؟
أين الطبيعة لا تألوك منقبة
وأنت من حسنها المغريك فتان؟
ما بالها عبست من بعد بهجتها
كأنها في سقام ما له آن؟
3
فلا النسيم رقيق في مداعبة
ولا تثنت براح الزهر أغصان
ولا الشروق كريم من جواهره
ولا الغروب له تبر ومرجان
ولا (المقطم) عبر (النيل) منتعش
يستجمع الأنس أضواء ويزدان •••
يا قصر بح بالذي حجبت من سير
فإن حالك للتاريخ عنوان
قد عشت تاجا لمجد كله عبر
ولم يزل ذكره دين وإيمان
ما جئت أندب فيك اللهو مندثرا
لكن دمعي على العلياء هتان
مظاهر لجلال ساس صاحبه
ملكا، وكان له بأس وسلطان
لهفي على مجد (إسماعيل) مزدحما
منه على (النيل) أعلام وأعوان
بنى بناء تغالى في جلالته
وقد يهد من الإسراف نشوان
فللممالك حساد على عظم
مثل الأنام، وللحساد عدوان
جازوا تفانيه في العمران عن شغف
كما يثيب على الإحسان نكران •••
واليوم يا قصر مهما بنت مكتئبا
فإن روحك للأرواح ريحان
تهش بعد ائتناس عاشقا أدبي
كما يهش إلى الفنان فنان
وفي ظلالك لي حزن يساورني
وفي سكونك تفكير وكتمان
أنت الأحق بدمعي من (طليطلة)
فإن غاية دمع المرء أوطان •••
ويا شباب بني (مصر) ونعمتها
عشتم وعاشت بكم (مصر) وإخوان
لي وقفة نائبا عنكم على ظمأ
حجا لجيل له في شأننا شان
فإن ذكرتم كتذكاري مآثره
فابنوا من البر ما يخشاه سلوان
له حقوق علينا في مفاخرنا
فلن يغالي بها في الجهد عرفان
وما الحياة بتذكار بلا عمل
إن الحياة تجاريب وبنيان
نغمة من الشعر
دلال الغواني لقلبي أسر
ووجدي وذلي دفين الأثر
فكيف الرجاء؟
وفيم الشفاء؟
وما لي دواء
وأين المفر؟
عيون سبتني ولحظ سحر
وحسن دعاني لقتلي وفر
فهذا الكمي
وذاك القوي
ودمعي السخي
ولا من شكر
أخاف الجمال وأخشى الخفر
وأهوى ضعيفا قسا ما ائتمر
عزيز المنال
جسيم الملال
ربيب الجمال
كثير الخطر!
دعوني فحسبي الجفا والسهر
وخلوا حبيبي أثيم النظر
فروحي فداه
وملئي سناه
إذا ما أراه
فصدري المقر!
كفاني ولوع طفا واستعر
وأنس تولى وصفو عبر
فجسمي يرد
وعقلي يود
وحبي يصد
وهذا انتصر
دعوني، فكيف الوفاء اندثر؟
لصوت الحبيب بسمعي أثر
وماذا علي
وطهري لدي
وفخري إلي
سلا أم ذكر؟
أمالكة القلب أنى يقر
سناك فإني مطيع مقر
فرقي لحالي
وحيي خيالي
فمن ذا مثالي
حميد السير؟
لأنت النسيم على الزهر مر
وأنت النعيم اختفى ما ظهر
فلا تجعليني
وحق العيون
كمن في جنون
سما للقمر!
دليل القلب
رحل الهوى فرحلت في أثر الهوى
والحسن قاس والغرام قدير
وحسرت عيني من بهي ضيائها
ودليل قلبي نفحة وعبير
فرأيته عرف السبيل كأنما
بخفي أسرار الجمال خبير
مملكة الحسن (وصف جغرافي)
أفديك بأطيب نفسي
وأفيك بأعذب حسي
فلأنت اليوم وأمسي
وغدي وسلافة كأسي •••
وأنال الحظ بوصفي
مرآك الشهد وقطفي
فدعي وحياتك رشفي
يهدي لي الروح ويشفي •••
وصفي لسناك الحالي
وصف الله المتعالي
وغرامي فيك وحالي
صلوات العبد التالي •••
وأرى بمحاسن جسمك
ما شاء الصانع باسمك
جمع الإبداع برسمك
وجنان الخلد بلثمك •••
من «نهر» الحب الصافي
و«ثمار» الأنس الكافي
وشعاع الشمس الضافي
أهفو لنعيمي الوافي ••• «مملكة» الحسن الغالي
و«طبيعة» كل جمال «بوهاد» بين جبال
و«رياض» دون مثال •••
وجلال ليس يحد
و«نفوذ» كم «يمتد» «الجزر» الحلو و«مد»
في «بحر» منه يود •••
وأغاريد وأغاني «لغة» السحر الفتان
ولسان «الفتح» الباني
مملكة الحب الهاني •••
فمرحت بها بتأن
وسكرت بأكرم دن
ونسيت البؤس وأني
4
يا صحو سبيلك عني
كروان النيل (أهديت إلى كروان النيل في عصره الشيخ سلامة حجازي)
يا صادحا بالحب لم يسأم ولم يتململ
الليل يرتشف الجمال من الغناء المنزل
أصغت إليك مسامع الحسن المؤصل في الوجود
وكأن ما فقدته من حسن بما تسدي يعود
إني ربيبك أيها الشادي بألوان الغناء
إني عليلك أيها المسدي لألوان العزاء
صوت من النهر العظيم ومن عطور زهوره
ومن (الطبيعة) حوله ومن ائتلاق حبوره
وكأنما القمر المفضض من جموع غنائكا
جمعت على متن الأثير ولسن غير ندائكا
يا معجزا باللحن ترسله ضياء أو رسوم
ويعيده ناي الزمان بما ترتله النجوم
غذيتني باللحن والأحلام في روح الصلاة
قوت العواطف والمشاعر، فهو من هبة الآله
سكنت دمي وجرت به وتملكت أنفاسي
فشعرت أني بين هذا الناس فوق الناس! (كروان وادي النيل) إن (النيل) يخفق بالحنين
سكنته أجيال الزمان ورددت مثلي الأنين
فأطل نشيدك للحياة نر الحياة هي الجمال
ونر الهموم هي السعادة، والمحال سوى المحال!
هرة ومرآتها (وصف هرة بيضاء تشرب من فسقية في متنزه عام)
مشت مثل مشي المنى والمنون
على تؤدة في أدق السكون
وسارت على حذر العاذلين
كأن لها خشية العاشقين
على سندسي نضير البهاء
على أرجواني زهر ضنين
يحرم مس له من أناس
ولكنها تقهر الحارسين
وتخطر في مثل ثوب العروس
5
دلالا وتطرق للناظرين
فلما تجلت لفسقية
تشوق ومشرب ماء معين
تبسمت العين من قفزها
فشعت بأنس ونور ثمين
وقبلت الماء في شربها
فقبلها بالخيال الأمين
لسانان قد رشفا حلوه
كصبين في رشفة من حنين
فلله هذا الجمال الغريب
تمثله هرة للعيون
ونشهده بين فرط السكون
وبين التأمل كالمتقين
وكم في الطبيعة من حادثات
تشوق وتلهمنا خير دين
ولكن غفلتنا حسرة
لنا فنبيع الهدى بالظنون
ونحرم أنفسنا صفو أنس
وما الصفو إلا الجمال المبين
وسيان مرآه بين الجماد
أو الناس أو حيوان مهين
فملك الجمال له صولة
تسود على دولة العالمين!
الفاكهة المحرمة
عبق الفواكه كالأزاهر حبه
بدمي، ومنه نشقت حلو شعوري
ولديك أنت من العبير وما احتوت
شفتاك للوجدان عطر الحور
وأراك فاكهتي ولكن حرمت
والعين لم تخلق لغير النور
كم من غوان عطرهن محبب
لسواي ليس عبيرهن سروري
أما عبيرك أنت أنت فنعمتي
يا موئل الأحلام للمهجور!
عيد الحب
اليوم ميلاد الغرام فجددي
عهدا كما وعت الليالي الأولى
ما زلت طفلته ولست بطفلة
فلقد عرفت ثوابه المأمولا
ولقد بخلت به كأني لم أزل
بالحب أو بغنى الحياة جهولا
خمس من السنوات عمر صبابتي
أيظل يحسب في هواك هزيلا؟
عمر أحق به جمالك دائما
في قربه، لا أن يغيب ملولا
أيقظت قلبي في الربيع ولم يزل
كطيوفه وشعاعه محمولا
إن أنس لن أنسى شذى نوارة
وأنا أراقب وجنتيك خجولا
ونوافح النارنج في عبق الهوى
نفشي هوى كمحبتي مجهولا
أعرفته حتى ابتسمت لبسمتي
وأريتني وجه الربيع جميلا
وخلقت من يومي السعيد عبادة
ما زلت مفتونا بها مشغولا؟
صلوات حبي في السنين مشاعة
لا تنتهي إذ لا تبل غليلا
تمضي بها الأيام ثم أعيدها
فوق الأشعة كالندى مطلولا
اليوم ذكراها فما أعددته
لغرامنا متساميا موصولا؟
فلقد شببت مع الملاحة مثلما
غرس الربيع يشب بعد ظليلا
وأنا الفتى العاني ببعدك محرقا
أملي، فبات لي الرجاء فضولا
وخلقت من شعري خيال محبتي
ورعيته بمشاعري مشمولا
وتخذت عزلتي الحبيبة كعبة
وجعلت قرباني أسى مبذولا
لهفي! أعيد الحب عيد مناحة
حتى كأن هواي بات قتيلا؟!
الوداع
انتهب يا شعاع
نبض قلبي الحزين
حان وقت الوداع
ليته لا يحين!
انتهب يا شعاع
أنا ذاك القريب
إن روحي مشاع
في مداك العجيب!
أنت قوتي ونفسي
أنت جسمي ولبي
فاختطف سر حسي
وانتهب نبض قلبي
وتول العزاء
هل عزاء سواك؟
فيك لمح الرجاء
فيك وحي الفكاك
كم بقلبي جراح
ما لها من أساة
ما لمثلي النواح
لو نواح شفاه
أنا شيخ الغرام
إن أكن طفل عمري
قد عرفت الظلام
مهد حبي وشعري
انتهب ثم دعني
في دجى الذكريات
هي منفى لفني
وهي مأوى الحياة!
अज्ञात पृष्ठ