غار النيل في مصر سنة 278، حتى لم يبق منه شيء، فأجدب الزرع، وشحت الغلة، وغلت الأسعار في مصر وقراها، وامتد الغلاء بعد ذلك في مصر حينا، ولكن ذلك لم يحمل خمارويه على القصد
17
في تجهيز ابنته قطر الندى، وفتح خزانته لصاحب أمره يغترف منها ما يغترف وينفق ما ينفق؛ ليهيئ جهازا لم ير مثله ولم يسمع به، ولم يزل المصريون منذ الزمن الأول، يغالون في تجهيز بناتهم مغالاة تنهك اللحم وتعرق العظم وتهتك المروءة أحيانا؛ إذ كان فيهم ما فيهم من الرقة والعطف على الحبيب المفارق، وبهم من طبيعة بلادهم حب المباهاة والفخر، فكيف ظنك بصاحب مصر وبرقة والشام والثغور؟ وإنه ليجهز ابنته المفضلة إلى أمير المؤمنين، وخليفة رسول رب العالمين؟ وما ظنك بجهاز عروس ينتقل من مصر إلى بغداد، ومصر وبغداد يومئذ تتنافسان في الترف وأسباب الحضارة وتزعم كل منهما أنها حاضرة الدنيا.
ووكل خمارويه إلى أبي عبد الله الحسين بن الجصاص تدبير الجهاز وإعداده حتى يضاهي نعمة الخلافة، وكان الحسين بن الجصاص رجلا جوهريا وتاجرا، وكان له نسب في بغداد ووطن في مصر، فكان له بذلك كله فن وتدبير، وبفنه وتدبيره راح يعد الجهاز على ما يتخيله جوهري وما يشتهيه تاجر ...
وكثر غدوه ورواحه إلى أبي صالح الطويل صاحب خزانة خمارويه، يغدو بيد مملوءة بعشرات الآلاف ويروح بها فارغة، وأبو صالح لا يبخل عليه بشيء مما يطلب، وطال مغداه ومراحه حتى قلق أبو صالح وخاف مغبة الأمر، فقال له يوما: «حسبك يا أبا عبد الله، لقد بلغت مبلغا بعيدا ...»
ونضا ابن الجصاص
18
ثوب البله والغفلة وما يتظاهر به من قلة الاكتراث، وقال غضبان: «ولك هذه الخزائن تمنح وتمنع، أم هي خزائن مولاك!»
وأغضى أبو صالح وغص بريقه، وذهب إلى مولاه يؤذنه بما رأى، وكان لأبي صالح على الأمير دالة وله مكان؛ إذ كان مؤدبه في حداثته، ورائده في شبابه، وصاحب سره في خلوته، وكان من التحرج في الدين، ومن العفة في اليد، ومن الولاء والحب لسيده - فوق الظن والتهمة - وأقبل أبو صالح على خمارويه وسره على جبينه، وقال خمارويه حين رآه: «ما وراءك يا أبا صالح؟»
قال أبو صالح: «خزانتك يا مولاي، إن أبا عبد الله الجوهري يكاد يتركها فارغة ليس فيها أبيض ولا أصفر.»
अज्ञात पृष्ठ