آه، موقفك فوق السطح بين مريم وفهمي، قال بحرارة: لم تغب عن ذاكرتي يوما واحدا.
نادى عند ذاك صوت من داخل القصر فاعتدلت عايدة في وقفتها، ورفعت بدور بين يديها، ثم قالت معلقة على كلامه وهي تهم بالذهاب: يا له من حب عجيب!
وغابت عن النافذة.
15
لم يبق من رواد مجلس القهوة إلا أمينة وكمال، وحتى كمال كان يبرحه عند الأصيل إلى الخارج فتلبث الأم بمفردها، أو تدعو أم حنفي إلى مؤانستها حتى يحين وقت النوم. وكان ياسين قد خلف وراءه فراغا، ومع أن أمينة حرصت دائما على ألا تعود إلى ذكراه، فإن كمال شعر لغيابه بوحشة غاضت أبهج ما كان يجد في مجلس القهوة من متعة. وكانت القهوة - قديما - شراب المجلس الذي يجتمع حوله الأبناء للسمر، فانقلب اليوم - عند الأم - كل شيء فيه، فأسرفت في حسوها إسرافا وهي لا تدري حتى صار صنع القهوة وحسوها سلوة وحدتها، فربما احتست خمسة أو ستة - وأحيانا عشرة - فناجيل تباعا، وكان كمال يتابع إفراطها بقلق ويحذرها من عواقبه، فترد عليه بابتسامة كأنما تقول له «وماذا أفعل إذا لم أشرب؟» ثم تقول له بلهجة الواثق المطمئن: «لا ضرر من القهوة.» ... جلسا متقابلين، هي على الكنبة الفاصلة بين حجرتي النوم والمائدة، وهو على الكنبة المتوسطة لحجرتي نومه ومكتبه، وكانت عاكفة على المجمرة التي دفنت الكنجة حتى نصفها في جمراتها، وكان صامتا شارد النظرة، وفجأة سألته: فيم تفكر يا ترى؟ دائما ترى وكأنك مشغول الفكر بأمر ذي بال.
آنس من صوتها ما يشبه العتاب، فقال: العقل يجد دائما ما يشغله.
فرفعت إليه عينيها الصغيرتين العسليتين كالمتسائلة، ثم قالت في شيء من الحياء: مضى زمن كنا لا نجد وقتا يتسع لحديثنا.
حقا؟ ذلك ماض مضى، عهد الدروس الدينية، وقصص الأنبياء والشياطين. عهد تعلقه بها لحد الجنون، انقضى ذلك العهد، فيم يتحدثان اليوم؟ إلا تكن دردشة لا معنى لها فلا وجه للكلام على الإطلاق. ابتسم كأنما يعتذر بابتسامة عن صمته السابق واللاحق معا، ثم قال: نحن نتكلم كلما وجدنا للكلام موضوعا.
فقالت برقة: ليس للكلام حدود لمن أراد أن يتكلم، ولكنك تبدو غائبا دائما أو كالغائب.
ثم بعد تفكير: أنت تقرأ كثيرا، في عطلتك تقرأ، كما تقرأ في وقت دراستك، لم تستوف يوما حظك من الراحة، أخاف أن تكون أتعبت نفسك أكثر مما ينبغي.
अज्ञात पृष्ठ