الأمر لله. مضى الزمن الذي كان يملي فيه إرادته إملاء فلا يجد رادا لها، وياسين اليوم رجل مسئول ولن يجني من محاولة فرض رأيه عليه إلا العصيان ... فليسلم بالأمر الواقع، وليسأل الله السلامة.
عاود النصح والتبصير؛ فلجأ ياسين كرة أخرى إلى الاعتذار والتودد حتى لم يعد ثمة زيادة لمستزيد، غادر الدكان وهو يقنع نفسه بأنه نال موافقة أبيه ورضاه. على أنه كان يعلم أن الأزمة الخطيرة حقا هي التي تنتظره في البيت، وكان يعلم أيضا أنه سيترك البيت حتما؛ لأن مجرد التفكير في إمكان ضم مريم إلى الأسرة ضرب من الجنون، فرجا أن يتركه بسلام غير مخلف وراءه عداوة أو حقدا؛ إذ لم يكن من اليسير عليه أن يستهين بامرأة أبيه أو يتنكر لعهدها وفضلها عليه، لم يكن يتصور أن تدفعه الأيام إلى وقوف هذا الموقف الغريب من البيت وآله، ولكن تعقدت الأمور وضاقت السبل حتى لم يبق من منفذ إلا الزواج. والعجب أنه لم تغب عن فطنته السياسة النسائية التي رسمت للإيقاع به، سياسة قديمة تتلخص في كلمتين: التودد والتمتع، ولكن الرغبة في الفتاة كانت قد تسربت إلى دمه، ولم يعد بد من إروائها بأي سبيل ولو كان الزواج. وأعجب من ذاك أنه كان يعلم من تاريخ مريم ما يعلمه أفراد أسرته جميعا - عدا والده بطبيعة الحال - ولكن رغبته طغت فلم يصده ذلك عن فكرته أو يزهده فيها، وقال لنفسه: لم أكرب قلبي على ماض فات لست مسئولا عنه، سنبدأ معا حياة جديدة، ومن هنا تبدأ مسئوليتي، وإن ثقتي بنفسي لا حد لها. وإذا حدث أن خيبت ظني نبذتها كما ينبذ الحذاء البالي. والحق أنه لم يستلهم فيما عزم فكره، ولكنه استخدمه في تبرير رغبته الجامحة التي لا تزدجر، فأقبل على الزواج هذه المرة كبديل من مخادنة امتنعت عليه، غير أن ذلك لا يعني أنه أضمر نحوه سوءا أو أنه اتخذه ذريعة مؤقتة لقضاء لبانة، فالحق أيضا أن نفسه - رغم تقلباتها التي لا تنفك عنها - كانت تهفو إلى حياة الزوجية والبيت المستقر.
مر هذا كله بخاطره وهو متخذ مكانه - إلى جنب كمال - بمجلس القهوة، ذلك المجلس الذي يبدو أنه يشهد آخر أيامه فيه، ومضى يجيل طرفه بين كنباته، وحصره الملونة، والفانوس الكبير المدلى من سقفه في كثير من الأسى. وكانت أمينة متربعة كعادتها على الكنبة القائمة بين بابي حجرة نوم السيد وحجرة المائدة، عاكفة على المجمرة رغم دفء الجو لتصنع قهوتها، وقد تلفعت بخمار أبيض فوق جلباب بنفسجي نم عن ضمورها، واكتنفها هدوء يشاب عند الصمت بأمارات الحزن، كماء الشاطئ إذا استكن شف عما في باطنه. شد ما شعر بالأسف والحرج وهو يأخذ أهبته للإفصاح عما في ضميره، ولكن لم يكن من الإفصاح بد، فقال بعد أن فرغ من احتساء قهوته دون أن يذوق لها طعما: والله يا نينة لدي مسألة أريد أن أستشيرك فيها.
وتبادل مع كمال نظرة دلت على أن الأخير على علم سابق بموضوع الحديث، وأنه يترقب عواقبه باهتمام، لا يقل عن اهتمام ياسين نفسه. قالت أمينة: خير يا بني؟
قال ياسين باقتضاب: قررت أن أتزوج.
فتجلى في عينيها العسليتين الصغيرتين اهتمام باسم، ثم قالت: خير ما قررت يا بني، لا ينبغي أن يطول انتظارك أكثر مما طال.
ثم لاحت في عينيها نظرة متسائلة، ولكنها بدل أن تفصح عن تساؤلها، قالت وكأنما تستدرجه إلى الاعتراف كأن ثمة سر: خاطب والدك أو دعني أخاطبه، ولن يعجزه أن يجد لك زوجة جديدة خيرا من الأولى.
قال ياسين في رزانة بدت لها أكثر مما يستدعي الأمر: خاطبت أبي بالفعل، وليس هناك حاجة إلى تكليفه عناء جديدا لأني اخترت بنفسي، وقد وافق أبي، فأرجو أن أحوز موافقتك أيضا.
تورد وجهها حياء وسرورا بما أولاها من أهمية، فقالت: ربنا يوفقك إلى ما فيه الخير، عجل حتى تعمر لنا الدور المهجور، ولكن من بنت الحلال التي قررت أن تتخذها زوجة؟
تبادل مع كمال نظرة أخرى، ثم قال في عناء: جيران تعرفينهم.
अज्ञात पृष्ठ