قال لها محذرا: لا تثيري جنوني، هل تستطيعين أن تقاومي صولتي؟
فتراجعت وهي تقول بلهجة تجمع بين التوسل والإصرار: ليس في البيت الذي عملت فيه وصيفة، انتظر حتى يجمعنا المسكن الجديد، مسكنك ومسكني، عند ذاك أكون لك إلى الأبد، ليس قبل ذلك وحياتك عندي، وحياتي عندك!
10 «خير إن شاء الله ...»
هذا ما ردده أحمد عبد الجواد في نفسه وهو يطالع ياسين مقبلا نحوه في الدكان، كانت زيارة غريبة وغير متوقعة، أعادت إلى ذاكرته زيارته القديمة لدكانه، يوم جاءه ليشاوره فيما ترامى إليه من اعتزام المرحومة أمه الزواج للمرة الرابعة، والحق أنه أيقن أنه لم يجئه لتبادل التحية والسلام، ولا للحديث في شأن عادي مما يمكن أن يحدثه به في البيت، أجل إن ياسين لا يجيء إلى مقابلته في الدكان إلا لشأن خطير، صافحه ثم دعاه إلى الجلوس، وهو يقول: خير إن شاء الله.
جلس ياسين على كرسي قريب من مجلس أبيه وراء مكتبه، موليا بقية الدكان ظهره حيث وقف جميل الحمزاوي أمام الميزان يزن بضاعة لبعض الزبائن، ونظر إلى أبيه في شيء من ارتباك وكد حدسه، فأغلق الرجل دفترا كان يسجل فيه أرقاما، واعتدل في جلسته متأهبا لما يجيء، وقد بدت إلى يمينه الخزينة نصف مفتوحة، وفوق رأسه صورة سعد زغلول في بدلة الرياسة معلقة في الجدار تحت إطار البسملة القديم، ولم يكن قصد الدكان اعتباطا، ولكن عن تدبر وتفكير باعتباره آمن مكان لمقابلة أبيه بما جاء من أجله؛ إذ إن وجود جميل الحمزاوي به ومن يتفق وجودهم من الزبائن خليق بأن يهيئ له درعا راقيا من الغضب إذا جاءت دواعيه، وكان يحسب ألف حساب لغضب أبيه رغم الحصانة التي اكتسبها بتقدم العمر، والمعاملة الطيبة التي يحظى بها بوجه عام.
قال ياسين بأدب بالغ: اسمح لي بقليل من وقتك الغالي، لولا الضرورة ما تجرأت على إزعاجك، ولكني لا يمكن أن أخطو خطوة دون استنارة برأيك، واعتماد على رضاك.
ابتسم باطن السيد أحمد هازئا من هذا الأدب الجم، وجعل يتأمل فتاه الضخم الجميل الأنيق في حذر، ملقيا عليه نظرة إجمالية شملت شاربه المجدول على طريقته - هو - وبذلته الكحلية وقميصه ذا البنيقة المنشية، والبابيون الأزرق، والمنشة العاجية، والحذاء الأسود اللامع. ولم يكن ياسين قد مس مظهره - تأدبا في محضر أبيه - إلا في نقطتين، فأخفى طرف منديله الحريري الذي يطل من جيب جاكتته الأعلى، وعدل طربوشه الذي يعوجه عادة إلى اليمين. يقول: إنه لا يمكن أن يخطو خطوة دون استنارة برأيه! مرحى، هل استنار به وهو يسكر؟ وهو يسبح على وجهه في وجه البركة الذي حرمه عليه؟ هل استنار به ليلة وثب على الجارية فوق السطح؟ مرحى، مرحى، ماذا وراء هذه الخطبة المنبرية؟ - طبعا، هذا أقل ما ينتظر من رجل عاقل مثلك، خير إن شاء الله؟
التفت ياسين التفاتة سريعة لحظ بها جميل الحمزاوي ومن معه، ثم قرب الكرسي من المكتب، واستجمع شجاعته، قائلا: اعتزمت - بعد موافقتك ورضاك - أن أكمل نصف ديني.
مفاجأة حقيقية! غير أنها مفاجأة سارة على غير ما توقع، ولكن مهلا، لن تكون سارة حقا إلا بشروط، فلينتظر حتى يسمع الأهم من الحديث. أليس ثمة ما يدعو إلى القلق؟ بلى، تلك المقدمة البالغة في الأدب والتودد، إيثاره الدكان مكانا للحديث لدواع لا يمكن أن تخفى عن فطنة الفطن، أما الزواج في ذاته فطالما تمناه له، تمناه حين ألح على محمد عفت ليرد إليه زوجته، وتمناه حين دعا الله في أعقاب صلواته أن يهديه إلى الرشاد وبنت الحلال، بل لعله لولا إشفاقه من أن يحرجه مع أصدقائه كما أحرجه من قبل مع محمد عفت لما تردد من تزويجه مرة أخرى، فلينتظر. وعسى ألا يتحقق شيء من مخاوفه. - اعتزام جميل أوافق عليه كل الموافقة، فهل وقع اختيارك على أسرة معينة؟
خفض ياسين عينيه لحظة، ثم رفعها قائلا: وجدت بغيتي، بيت كريم خبرناه بطول الجوار، وكان ربه من معارفك المحمودين.
अज्ञात पृष्ठ