علا صوت حسن قليلا، وهو يقول: لسانها يجود في يسر بألطف الكلام، فيحسبه السامع ذا مغزى، أو أن وراءه عاطفة ما، ولكنه محض كلام لطيف تخاطب به كل من يحادثها سرا أو جهرا، وكم خدع كثيرين!
برح الخفاء، صاحبك مصاب بالداء الذي هصرك. من يكون حتى يدعي العلم بالبواطن؟ شد ما يثير حنقي! قال باسما وهو يتظاهر بعدم الاكتراث: يبدو أنك واثق مما تقول؟ - إني أعرف عايدة حق المعرفة، نحن جيران منذ بعيد.
الاسم الذي يهاب النطق به في السر فضلا عن الجهر ينطق به هذا الشاب المفتون بلا مبالاة، كأنه اسم فرد من غمار الملايين. هذه الجرأة فيه تخفضه في قلبه درجات، وترفعه في خياله درجات، وجملة «نحن جيران منذ بعيد» حزت في قلبه كالخنجر فأطاحت به كما تطيح النوى بالغريب. سأله بلهجة مؤدبة وإن لم يخل مدلولها من سخرية: ألا يجوز أن تكون خدعت أيضا كالآخرين؟
فتراجع رأس حسن في كبرياء، وهو يقول في يقين: لست كالآخرين.
شد ما أحنقه غطرسته، شد ما أحنقه جماله وثقته بنفسه، هذا الابن المدلل للمستشار الخطير الذي ترتقي الشبهات إلى أحكامه السياسية. وندت عن حسن «هه» كأنه ذيل ضحكة وإن لم تضحك أساريره، أراد أن يمهد بها للانتقال من طبقة صوتية متغطرسة إلى طبقة أخرى لطيفة، ثم قال: إنها فتاة ممتازة لا تشوبها شائبة، ولو أن مظهرها وحديثها وأنسها تجر عليها الظنون أحيانا.
فبادره كمال قائلا بحماس: إن مظهرها ومخبرها على السواء لفوق كل ظن.
فحنى حسن رأسه بامتنان كأنما يقول له «أحسنت!» ثم قال: هذا ما ينبغي أن تراه عين بصيرة سليمة، غير أن ثمة أمورا تحير بعض الأفهام، سأضرب لك أمثلة على سبيل التوضيح: إن البعض يسيء فهم اختلاطها في الحديقة بأصدقاء أخيها حسين، نابذة ما جرت به التقاليد الشرقية، والبعض الآخر يقف متسائلا حيال محادثتها لهذا وملاطفتها لذاك، وآخرون يتوهمون وراء الدعابة اللطيفة - تصدر عنها عفوا - سرا خطيرا، هل أدركت ما أعني؟
فقال كمال بنفس الحماس السابق: إني أدرك ما تعني طبعا، ولكني أخشى أن تكون مغاليا في ظنونك، عني أنا شخصيا لم يساورني شك قط في أي تصرف من تصرفاتها؛ لأن أحاديثها ودعابتها ظاهرة البراءة، ولأنها من ناحية أخرى لم تتلق تربية شرقية خالصة حتى تطالب بالمحافظة على التقاليد، أو تؤاخذ على الخروج عليها، وأظن أن هذا هو رأي الآخرين أيضا.
هز حسن رأسه كأنما يتمنى لو يستطيع أن يؤمن برأيه في «الآخرين»، غير أن كمال لم يعن بالتعليق على ملاحظته الصامتة، كان سعيدا بالدفاع عن معبودته، سعيدا بالفرصة التي تهيأت له لإعلان رأيه في طهارتها وبراءتها، أجل لم يكن صادقا في حماسه - لا لأنه كان يبطن غير ما يعلن، فطالما آمن بأن معبودته فوق منال الشبهات - ولكن حزنا على الأحلام السعيدة التي قامت على افتراض وجود «سر» وراء دعابات المعبودة وتلميحاتها الرقيقة، إن حسن يبدد تلك الأحلام كما بددها حديث اليوم تحت الكشك، ومع أن قلبه المكلوم كان يجاهد سرا للاستمساك ولو بخيط واه من خيوط الأمل، فإنه جارى حسن سليم مجاراة المؤمن برأيه تغطية لموقفه، ومداراة لهزيمته، وإبطالا لادعاء الآخر بأنه «العارف » وحده لحقيقة المعبودة. عاد حسن يقول: لا غرابة في أن تدرك هذا فإنك شاب لبيب، الواقع كما قلت إن عايدة بريئة، ولكن ... معذرة إذا صارحتك بخصلة فيها ربما بدت غريبة في عينيك، وربما كانت مسئولة لحد كبير عن سوء فهم الكثيرين لها، أعني شغفها بأن تكون «فتاة أحلام» كل من يتصل بها من الشباب ... لا تنس أنه شغف بريء، فإنني أشهد بأنني لم أصادف فتاة أحفظ لكرامتها منها، ولكنها مولعة بقراءة الروايات الفرنسية، كثيرة التحدث عن بطلاتها، مفعمة الرأس بالخيال.
ابتسم كمال ابتسامة مطمئنة أراد أن يعبر بها عن أنه لم يسمع جديدا فيما قال صاحبه، ثم قال مدفوعا برغبة في إغاظته: عرفت هذا كله من قبل، دار حديثنا يوما - أنا وحسين وهي - عن الموضوع ذاته.
अज्ञात पृष्ठ