فقال فوزي: عظيم، أصبحت التحية لنا جميعا.
والتفتت هناء إلى أحمد تقول له: أقرأت خطبة عمي وصفي في البرلمان؟ - لا. - إنها ... رائعة!
وقال فوزي في تعاظم: أما تزالون تهتمون بهذه التفاهات؟
فقالت هناء في تعجب: خطبة وصفي باشا في البرلمان تفاهة؟! - طبعا. - الجرائد كلها تعلق عليها، والناس لا حديث لهم إلا الخطبة. - الجرائد عبارة عن كتاب مأجورين، والناس ما هم إلا ببغاوات، لا أعتقد أن فتاة لها عقليتك الواعية الذكية تهتم بآراء الجرائد أو قطيع الناس.
وقال سيد مغيظا: الناس ببغاوات وقطيع، والجرائد مأجورة، ومجلس النواب تفاهات، فما الذي يعجبك في مصر؟
فقال فوزي في كبر: أنا.
وقال سيد في ثورة يحاول جهده أن يكتمها: فقط! - ومن يرى رأيي. - ومن يخالفك؟ - لا يخالفني إلا مغرض جبان مقيد بالتقاليد العفنة وبالرغبات الحقيرة.
وتلعثم سيد، وحاول أن يجمع إجابة ترد فوزي إلى بعض تواضع، ولكن قبل أن يتكلم دخل جعفر وحسام، وقبل أن يتبادل الداخلان التحية مع الجالسين، سارع سيد قائلا، وكأنما هو غريق يجد منقذه: الله أكبر، جعفر بك جاء، سيريحنا أو سيريحني أنا شخصيا من الرد عليك، أنقذنا يا جعفر بك - أنا في عرضك - فوزي يا جعفر بك ... فوزي يا أخي سيقتلني بغروره. - أولا وقبل الكلام عن فوزي، ما هذه البك التي عادت إلى الظهور في كلامك؟ - والله تعودت، سمعت أبي يقولها، تعودت يا بك ... يا جعفر. - نحن زملاء، ولا أحب مطلقا هذه الطريقة، والآن فلنعد إلى فوزي، ما له؟ فيم يتعبك؟ - لا يعجبه أحد في البلد إلا نفسه. - هذا من حقه يا أخي، ومن يعرف؟ لعلنا جميعا نعجب بنفوسنا هذا الإعجاب.
فقال فوزي: أنا أتكلم عن الجرائد والناس، وأرى الجرائد كلها مأجورة، والناس قطيع وببغاوات وجهلة.
فقال جعفر: أي ناس؟ - الشعب. - الشعب؟! الشعب الذي تريد له المساواة قطيع وببغاوات. - وما دخل هذا فيما أريده له؟ - سبحان الخلاق العظيم! إن مذهبك يرمي إلى جعل الشعب على درجة متساوية في الغنى، ومستوى المعيشة. - لا يا سيدي، ليس هذا فقط ما أريد، وإنما أريد أن أثقفه. - من هذا الذي يريد؟ - المذهب الذي أراه. - وهل المذهب سيثقف الشعب من تلقاء نفسه؟ - لا، سيقوم بذلك زعماؤه. - ومن سينتخب هؤلاء الزعماء، هل الشعب هو الذي سينتخبهم؟ - نعم. - أهذا ما يحدث؟ - إنهم الآن في فترة انتقال، ولا بد أن يفرض الزعماء لفترة معينة، ثم ينتخبهم الشعب. - ومن الذي يفرضهم؟ - هم يفرضون أنفسهم. - ومن يعطيهم هذا الحق؟ كيف لهم أن يعرفوا أنهم أصلح الناس للحكم؟ - لا بد ممن يحكم، وهم يملكون الجرأة. - الجرأة وحدها؟! - لا أفهم. - بأي قوة يفرضون أنفسهم. - بقوة السلاح. - إذن فأنتم ترغمون الشعب أن يقبل حكاما لا يريدهم، وترغمون الشعب أن يرضى بلون من الحكم لا تعرفون رأيه فيه، وترغمون الشعب على أن يقبل نوعا من الحياة لم يتعودها، ثم تتغنون بالحرية التي يجب أن يتمتع بها الشعب وبحق الشعب في الحياة، ولا تخجلون مع هذا أن ترموا الشعب بالجهل وبأنه قطيع. - إنها فترة انتقال. - إن فترة الانتقال في ظل الدكتاتورية لا تنتهي؛ لأن الحاكم حين يصل إلى كرسي الحكم، يعلم أنه وصل إليه على غير حق، فهو يحيط نفسه بالحرس، ويفرض أوامره، فإذا هي قوانين، وينهب الأموال، ويعيش عيشة رغدة بلا رقيب ولا حسيب، فالذين حوله جميعا يتمتعون بما يتمتع به من رغد، وتنشأ طبقة حكام أغنياء، وطبقة محكومين فقراء، وبناء على نظريتكم، لا بد أن تقوم ثورة أخرى لتتم المساواة في الرزق ومستوى المعيشة، ويسقط هؤلاء الحكام، ويتولى الحكم حكام آخرون، وتتكرر المأساة، وكل حكم جديد يحتاج إلى فترة انتقال، فإن سألت: انتقال إلى ماذا؟ وإلى أي مدى يدوم هذا الانتقال؟ فلن تجد جوابا، ولكننا نحن نعرف الجواب، إنه انتقال إلى الآخرة. - نحن؟ عن أي نحن تتكلم؟ - نحن أعداءكم الذين نحب الديمقراطية، الشعب يختار حكامه، ويختار من يمثله ليحاسبهم، وتقف مهمته عند هذا ليفرغ إلى حياته. - تقف مهمته! والذين يمثلون الشعب هؤلاء، أيقف عملهم عند محاسبة الحاكمين؟ أم إن عملهم الأساسي الرجاء لدى الحاكمين، والسعي لإنجاز الخدمات والمصالح؟ - أولا أنا أحادثك عن النظام الديمقراطي في عمومه، وأنت تحادثني عن النظام الديمقراطي في مصر، وعلى كل حال، الذين يسعون لدى الحاكمين يريدون أن يصنعوا خيرا لأفراد من الطبقة التي لا تستطيع الوصول إلى هؤلاء الحاكمين، وما أرى في ذلك بأسا. - والرشاوى التي يدفعها هؤلاء الفقراء؟ - ذلك هو الفساد، وهو فساد أشخاص، وفساد الأشخاص لا يعني فساد نظام. - نظام متعفن، رأسمالي إقطاعي، يقوم على النهب، واستلاب أموال الناس، قلة ضئيلة تبتلع أموال أمة. - إذا بدأت الشتيمة في النقاش، فمعناها أن الحجة ضاعت، وعلى كل حال أنت تجور في حكمك، لأن هؤلاء الذين تقول عنهم إنهم يأكلون أموال الأمة هم الذين يدفعون الضرائب، وهم الذين يعولون من حولهم من الفقراء، ويمدونهم بالعون. - يعتقدون أنهم متفضلون، إنهم يعطون الفقراء من حقهم. - لا يا سيدي، إن الله قد شرع نظاما للزكاة، وإن كثيرا من الأغنياء يطبقون هذا النظام، وإن الضرائب التي تفرضها الحكومة هي نوع من الزكاة التي شرعها الله.
अज्ञात पृष्ठ