क़सीदा व सूरा
قصيدة وصورة: الشعر والتصوير عبر العصور
शैलियों
37
فالقصيدة - كما يشهد عنوانها - قد كتبت تحت صورة أو بالأحرى رسم جداري لفنان عراقي، وكأنما هي نقش أو تعليق شعري عليها. ومع أن هذا وحده يجعلها شديدة القرب من مفهومنا عن قصيدة الصورة في هذا الكتاب، فلا نستطيع أن نجزم بشيء عن مدى ارتباطها بموضوع الرسم وتفاصيل تكويناته اللونية والشكلية والإيقاعية؛ ذلك أن الشاعر - شأنه في هذا شأن زملائه من شعرائنا المجددين - لم يشأ لسبب أو لآخر أن ينشر صورة الرسم مع القصيدة، وبذلك حرمنا مثلهم من فرصة المقارنة بينهما وبين مدى تقيده بالصورة أو تحرره منها، وأضاع على قرائه متعة جمالية كان من الممكن أن تساعدهم على المشاركة الخلاقة في قراءة القصيدة والصورة معا ...
ومهما يكن الأمر فلا يبقى أمامنا إلا أن نتأمل تكوين القصيدة نفسها ونتابع جدل الصراع المحتدم بين عناصرها التي يحتمل أن تكون شبيهة بعناصر الصورة. والمحور الأساسي الذي يدور حوله الصراع ويتخذ وجهته ويحدد هدفه هو الفقراء الجالسون في ساحة الطيران، يمدون أذرعهم للمقاول المستغل الذي سيشتري كدهم وعرقهم. وتبدأ القصيدة بالحمامات التي تطير في ساحة الطيران، معبرة عن أحلام المناضلين ببناء مدينتهم الفاضلة: «تطير الحمامات في ساحة الطيران، البنادق تتبعها، وتطير الحمامات، تسقط دافئة فوق أذرع من جلسوا في الرصيف يبيعون أذرعهم.»
لقد طار المناضلون في المدينة كما تطير الحمامات التي أرادوا أن يقيموا لها جدارا ليس تبلغ منه البنادق، أو شجرا للهديل القديم، وارتفعوا معا في سماء الحمائم، وصاغوا من الحجر المتألق وجه الجدار، وقالوا لسعف النخيل وللسنبل الرطب: هذا أوان الدموع التي تضحك الشمس فيها، وهذا أوان الرحيل إلى المدن المقبلة. ولكن الحمامات رفضت أن تلوذ بالجدار؛ فقد رأت في سمائها ما لم يروه، وعرفت أن بلادهم هي بلاد البنادق، وأن المقاول الذي يشتريهم يجيء ومعه الجنود وأصحاب الحقائب الثقيلة: «المقاول يأتي، ويأتي إلى الجنود، وتهوي على الوطن المقصلة.» وتطير الحمامات مذبوحة، ويسقط دمها الأسود فوق الجدار الذي بنوه، وأرادوا أن يكون بيتا وملاذا للحمام. ويقضي المتعبون زمانا يلمون فيه دماء الحمائم، ويرسمون في السر أجنحة يطلقونها في القرى، ويرممون الجدار قطعة قطعة وحجرا حجرا، ويبنون «على هاجس الروح» مملكة فاضلة لا يكادون ينتهون من بنائها حتى يهدمها المقاول والجنود الذين يساندونه فيبدءون من جديد ... يغادر منهم من يغادر، ويقتل من يقتل، ويسقط من يسقط تحت الجدار، ولكنهم يبقون على حبهم للوطن، وولائهم لزمان الجذور، وإصرارهم على بناء المدينة كلما خربها المخربون.
تلك نماذج من القصيدة التصويرية في شعرنا القديم والحديث، ومن قصيدة الصورة في شعرنا الجديد. ربما غابت عني نماذج أخرى لم تصل إلى علمي، ولكنني لم أقصد إلى الإحصاء والاستقصاء بقدر ما قصدت إلى تتبع الفكرة نفسها جهد الطاقة. ولعلنا نخلص من هذا الغرض السريع إلى نتيجة مشجعة على السير في الطريق، بحيث يكون لنا نوع أو نمط أدبي مستقل يقبل عليه المبدعون والمتلقون على السواء، ويحقق المتعة الجمالية التي يوفرها التفاعل بين الفنون، ويعمل على نضوج قصيدة الصورة التي لم تحظ حتى الآن بما تستحقه من عناية في أدبنا وفننا الحديث ...
وأخيرا فإن الصور والرسوم والتماثيل التي تطالعك في هذا الكتاب تتيح لكل عين وعقل أن يقرأها كما يشاء. ولقد تأمل شعراء غربيون من مختلف العصور والجنسيات واللغات والآداب هذه الصور وغيرها. والشعراء أقدر على الرؤية مني ومنك (إلا إن كنت واحدا منهم)؛ ولهذا تعددت محاولاتهم للغوص في أغوار العمل الفني وفك طلاسم «شفرته». وتفاوتت بطبيعة الحال قدراتهم على ذلك بدءا من الوصف المباشر، أو السخرية الفجة، إلى التأمل الهادئ ورؤية «الحقيقة» التي تجلت لهم من خلال الصورة أو التمثال. لا شك في أن قراءة كل منهم لا تخرج في النهاية - كما سبق أن قلت - عن أن تكون تفسيرا واحدا لا يحجر على تفسيرات أخرى ممكنة، ولا يقيد حريتك في التأمل والتذوق والمقارنة. فتعال معي نقف أمام هذه اللوحات ونجرب حظنا في المتعة الحرة الصافية قبل كل شيء، ثم في التفكير والتأمل والحكم. ولنتذكر معا أننا أحوج ما نكون إلى عالم الجمال بعد أن تراكم علينا القبح من الداخل والخارج. تشوهت نفوسنا في السنوات الأخيرة والتشوه قبح، فاض السيل من الألسن البذيئة والقلوب المريضة والصدور الجشعة المسعورة حتى أصبحنا نتصادم - لا في حندس كما قال أبو العلاء - بل في غابة القبح الكريه. ومن الغفلة بطبيعة الحال أن نتصور خلاصنا الفردي أو الاجتماعي عن طريق تأمل صور في متحف أو معرض أو كتاب. إن ذلك لن يكون إلا وهما يتعزى به الطيبون والمتوحدون ويلوذون به من حصار القبح. ولا بد من أن يشارك كل من لا يزال يتذكر الجمال في إعلان الحرب على القبح بكل أشكاله (بدءا من قبح النفس؛ لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، ولا مفر من أن يصبح الجمال وتربية الإحساس بالجمال في مقدمة همومنا القومية التي تكافح في سبيلها إرادة عربية. آن الأوان لكي تتحد وتنتبه وتصر على الجمال وتحققه في السلوك والحياة وفي البيت والشارع ومكان العمل إصرارها على الحرية والعلم والتقدم والتحضر؛ بذلك نؤكد وحدة القيم التي قلبنا سلمها قبل أن نغتالها وندوس على جثثها، ثم ننساها ونألف الحياة مع أضدادها ونقائضها من الشر والكذب والتزوير والادعاء والتظاهر وغيرها من أشكال القبح التي أصبح أربابها المزيفون يمارسونها وينفثون سمومها ويتباكون عليها تباكي القاتل على قتلاه ...
لكن فتح العين يمكن أن ينبهنا إلى البشاعة التي استقرت عناكبها في الباطن وأطبقت على الظاهر - فتح العين هو الدرس الخالد الذي نتعلمه من أصحاب الرؤية في الفن والفكر والحياة - إذ يمكننا أن نتذكر أو ننسى، أن نذهب أو نبقى، أن نتكلم أو نصمت. أما الرؤية فهي الكلمة التي لا بديل لها ولا عنها؛ لأنها كالتنفس، لأنها كالحرية. بشرط أن نتعلم كيف نفتح أعيننا ونرى، وبشرط ألا نقتصر على أن نفتح عين الجسد، بل عين البصيرة والضمير التي طال نومها الثقيل.
وفي النهاية تقتضيني الأمانة وأداء واجب العرفان والامتنان أن أذكر أهم المصادر التي استقيت منها نصوص القصائد، وهما كتابا الأستاذ جسبرت كرانس - أحد المختصين القلائل في قصيدة الصورة في الأدب الغربي عامة، والألماني بوجه خاص - والكتاب الأول «قصائد على صور»، مختارات ومعرض صور، ميونيخ، دار الجيب الألمانية، 1975م (انظر الهوامش في المقدمة وثبت المصادر). قد كان نعم العون وبداية الطريق، وقد ساعدني مساعدة لا تقدر في التعرف على هذا النوع الأدبي. والكتاب الثاني «صور ألمانية في القصيدة الألمانية»، قد أكمل بعض جوانب النقص في الكتاب الأول. أما كتابه الثالث الذي قدم فيه محاولاته الطيبة في تفسير قصيدة الصورة وقراءتها وهو «سبع وعشرون قصيدة مفسرة»؛ فقد تعلمت منه ما لم يكن الشعراء والمصورون أنفسهم ليستطيعوا تعليمه، وعشت مع تجاربه وتحليلاته الدقيقة الرقيقة التي جمعت علم الناقد إلى بصر الفنان وبصيرة الشاعر. وقد حرصت على التعريف بالمصورين والنحاتين والشعراء ما وسعني الجهد، مع العناية بطبيعة الحال بتقديم نبذة طيبة عن الأعلام المؤثرين على تطور الفن والشعر، وإن كنت قد عجزت في بعض الأحوال عن التعريف الكافي بعدد من شعراء الشباب الذين لم تستوعبهم بعد معاجم الأدباء! ويمكن أن يرجع القارئ إلى الجزء الثاني من كتابي المتواضع «ثورة الشعر الحديث» (القاهرة، هيئة الكتاب 1972م)، ليجد فيه المزيد من المعلومات والنصوص لعدد من كبار الشعر المذكورين في هذا الكتاب، وإلى الجزء الأول ليتعرف على بناء الشعر العربي الحديث والمعاصر الذي انعكس على العديد من قصائد الكتاب. أما عن القصائد التي جاءت موزونة على طريقة الشعر الجديد، أو شعر التفعيلة، فأعترف بأنها فرضت نفسها علي، وتوخيت الأمانة والدقة في نقلها إلى العربية، مع وضع كل زيادة من عندي اقتضتها الصياغة أو القافية بين قوسين، وهي محاولات وتجارب لا تجعل مني شاعرا بطبيعة الحال بعد أن تخليت إلى الأبد عن هذا الطموح.
وأخيرا أتقدم بعاطر شكري إلى زميلة الدراسة السيدة إيفا بومر-بيلز التي أمدتني بكتب الأستاذ كرانس وبغيرها من المصادر الهامة، كما يطيب لي أن أشكر أخي الكريم الأستاذ الدكتور جابر عصفور الذي غمرني بعلمه وفضله. أما راعي هذه السلسلة المرموقة الأستاذ الدكتور فؤاد زكريا، فله مني خالص الامتنان والتقدير على كريم تشجيعه وإتاحته الفرصة لهذا الكتاب لكي يرى النور.
ولله الحمد أولا وأخيرا، ومنه الهداية والتوفيق.
अज्ञात पृष्ठ