إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن
وفسر الآية بأن الله اشترى الرءوس والأموال فلا يملكها أحد، ولم يكن بالمستغرب من العبيد، الذين علمهم أن يهينوا سادتهم أن يهرعوا إليه بالألوف، ومعهم أهل البادية من طلاب الأسلاب والغنائم. أما اسم الزنج، فمعناه الأثيوبيون من أوشاب القارة الأفريقية، ومن هنا نسبت إليهم الفتنة، فسميت بفتنة الزنج، وكانت سنة خمس وخمسين ومائتين بداءة عصاينهم ومجاهرتهم بالقتال، وتلتها سنتان انتشروا فيهما بين جوانب وادي النهرين وشواطئ قزوين إلى الأهواز، فبسطوا أيديهم من ثم على هذه الأنهر، وشجعهم النجاح فأغاروا في سنة سبع وخمسين ومائتين (871م) على البصرة واقتحموها، وأعملوا في الآهلين كل منكر وفظيعة، ثم نادوا بالأمان غدرا، فقتلوا كل من اغتر بأمنهم من جمهرة السكان المخدوعين، وهدموا المسجد الكبير، وأشعلوا النيران في المدينة كلها، وقد راع الخليفة مقتربهم من عاصمة الخلافة، فأنفذ الموفق على رأس الجيش لقتالهم، فنشط للقتال نشاطا قويا، ولكنه لم يظفر بهم إلا قليلا في المعارك الأولى لاضطراره إلى وقف القتال حينا بعد حين واشتغاله بدرء المخاطر في مواقع أخرى من الدولة، ولقي موسى وغيره من القادة مثل هذا الفشل سنة بعد سنة ثابر الزنج خلالها على الغارة مع ما كانوا يمنون به من الهزيمة في بعض المعارك، وجعلوا يغيرون على العراق وخوزستان والبحرين عصابات متفرقة أو جموعا مصفوفة، فنهبوا الأهواز واتخذوا «واسط» معسكرا يشنون منه حروب التخريب والتقتيل، وانقضت على البلاد تسع عشرة سنة من الشقاء والفزع، ثم فرغ لهم الموفق بعد الخلاص من الأعداء الخارجيين، فوحد الجيوش تحت قيادته وقيادة ابنه المعتضد، ودارت الدائرة من ذلك الحين على جموع الأرقاء، فطردوا أولا من خوزستان، ودفعوا إلى الجانب السفلي من النهر حيث استعصموا بالمواقع الحصينة واحتموا بالأقنية والجداول المحيطة بها، ولا تزال أخبار المعارك التي تلت ذلك نحو خمس سنوات محفوظة تروى بتفصيلاتها المسهبة المملة، وأجلى العدو من مواقع كثيرة، ولكنه لبث بعد جلائه عن تلك المواقع ثلاث سنوات مستعصما ببعض الحصون لانقطاع الحصار فترات متوالية من جراء إصابة الموفق بجراح أقعدته عن العمل السريع، وأخذ الثوار يتسللون زرافات زرافات إلى الموفق، فيتقبل منهم التوبة برفق وسماحة، وبلغ من رفقه وسماحته أنه أعلن العفو عن المسيء الأكبر، فأعرض عنه هذا بصلف وقحة، ثم سقطت القلعة وعاد كثير من النساء السبايا إلى ديارهن، ووقع الخبيث في الأسر، وهو يمعن في الهرب، فقتل وحمل رأسه حيث رفع على مشهد من الجموع المتخوفة؛ فخروا سجودا يشكرون الله على النجاة من شره.
وتلخيص موير هذا لفتنة الزنج يصدر عن نظرة تاريخية على الحيدة بين الداعية والدولة التي يثور عليها، فلا يمتزج بالغضب الديني الذي يشعر به المؤرخ المسلم وهو يتكلم عن فتنة من فتن المروق والإباحة والافتراء على الحضرة النبوية، وهي - في رواية موير - على نسق تام مع الثورات التي من قبيلها، وإن تفاوتت أبعد التفاوت في الأزمنة والأمكنة وأجناس الثوار ومطالبهم وعقائدهم التي يأخذون بها أو ينتقضون عليها.
فكلها ثورات حصلت لأنها أمكنت، وكلها ثورات أمكنت؛ لأنها ثورات أناس من أصحاب الشكايات الاجتماعية أو المنتفعين بالقلاقل والفوضى حيث كانت، تجمعوا في صعيد واحد واستضعفوا السلطان لما مني به من الهزيمة والعجز، فاستخفوا بأمر الخروج عليه، ولا يلزم من ثوراتهم هذه أن يكونوا من الفلاحين أو الصناع أو العاطلين، ولا أن تتقدم ثوراتهم أو تتأخر حسب الأطوار التي يرتبها المفسرون الماديون للتاريخ.
1 •••
وقد تكررت في أوائل عصر الصناعة الكبرى ظواهر اجتماعية من قبيل ما سلف، فتكررت فيها الثورات التي تفرقت في أنحاء الزمن ولم يختص بها عهد من العهود، ولوحظ في كل ظاهرة منها تكررت حديثا أنها تأتي في أول أطوار الصناعة الكبرى، كأنها مفاجأة غير مألوفة تعتري المجتمعات التي لم تتهيأ لتوسيع مجال الصناعة والتوفيق بينها وبين مرافقها ومصادر ثروتها، فهي عرض من أعراض المفاجأة، وليست نتيجة خاصة مدخرة للصناعة الكبرى في آخر أطوارها، ولا هي من الطوارئ المعلقة وراء حجاب الزمن إلى أن يحين حينها وتدور بها أدوارها.
أما الثابت من مراقبة الحوادث بعد تمكن الصناعة الكبرى التي استوفت أطوارها، فهو الاستقرار الذي تقل فيه المفاجآت، ويقل فيه انتظارها وتوقعها؛ لأن زيادة الثروة من اتساع مجال الصناعة الكبرى تصاحبه كثرة المالكين، وكثرة أنواع الأعمال، وكثرة الروابط التي تقضي بالتضامن بين أعضاء المجتمع الواحد في المنافع والأضرار.
وسوف يتسع مجال الصناعة فوق اتساعه في هذه السنوات الوسطى من القرن العشرين، وقد يقصر المدى قبل نهايته دون استقامة هذا المجال في أرجاء العالم، ولكن الأوضاع التي يبلغها التطور قبل نهايته كافية لتصحيح الآراء عن علاقة التطور الصناعي بنهاية الطبقات، جديرة بتعليم الناس أن العاقبة للتعاون بين طبقات المجتمع الواحد، وأن الاستقرار والحرية مفقودان حيث تسطو فئة من المجتمع على سائر فئاته، رهينان بتعدد الطبقات، وتعدد الكفايات، وتعدد أنواع الأعمال، ومن هذا التعدد يخلق الترياق الواقي من الأثرة والطغيان، فإنهما خرق لنظام الحياة العامة، لا يستطاع ولا يحتاج إليه حيث تتقارب الأقدار والحقوق، وتتداخل المصالح والعلاقات.
الفصل العاشر
الأسرة والمرأة
अज्ञात पृष्ठ