78

كانت القارة الأفريقية تسمى بالقارة المظلمة؛ لأنها بقيت مجهولة على خريطة الكرة الأرضية يسكنها السود فيما عرف في أطرافها، ويحيط بها سواد من الظلام والخفاء.

وكانت تسمى أحيانا بالقارة المتنحية كأنها تركت ركب الإنسانية يسير في تاريخه الطويل، ولبثت في مكانها كما كانت في مجاهل ذلك التاريخ.

وليست هي اليوم بالقارة المظلمة؛ لأنها تكشفت عن دخائلها، وتسلطت عليها أنوار الاستطلاع في جوفها ومن حولها، فلم تبق منها زاوية مجهولة أو بقعة غير مطروقة.

وليست هي بالقارة المتنحية؛ لأنها أدركت ركب العالم في نهاية شوطه ويرجى أن تماشيه وتمده فيما يستقبله من مراحل حضارته.

وقد صدق من سماها في السنوات الأخيرة بقارة الغد؛ لأنها في الغد تبدأ مصيرها الذي تختاره بعد أن تفاهم العالم الإنساني على حق الشعوب جميعا في تقرير المصير.

وكل مصير لأفريقيا لا يكون مصيرا مرضيا للأفريقيين يخل بتضامن العالم، ويعوق سيره إلى التعاون والمؤاخاة، فلا تعاون بين الأمم في عالم يتخذ من أفريقيا مطية يسوقها إلى مصير غير مصيرها الذي ترضاه أو يتخذها ضيعة للمتغلبين المستغلين يبتزون ثمراتها، ولا يتركون لأبنائها من تلك الثمرات غير فضلة الأجير المغبون.

إن سكان أفريقيا ثلاث طوائف: أولها بطبيعة الحال أبناء أفريقيا الأصلاء الذين ولدوا فيها وولد فيها من قبلهم أسلافهم إلى أزمنة مجهولة، والطائفة الثانية هم المهاجرون من القارة الآسيوية وأكثرهم من العرب والهنود وأبناء الجزر الملاوية، والطائفة الثالثة أوروبيون مستعمرون، وليس للطائفة الثانية مشكلة عسيرة الحل؛ لأنها تبقى وتندمج في القارة أو تعود إلى أوطانها باختيارها. أما المشكلة التي لا تحل بالحسنى فهي مشكلة المستعمر الذي يبسط سيادته على أهلها بغير أمل في انتهاء هذه السيادة، إلا أن يظل الأفريقيون تابعين له مسخرين في خدمته أو يثوروا عليه فيطردوه، ومهما يبلغ من سلطانهم على القارة فهو أضعف من الغاية التي يطمحون إليها والنية التي يبيتونها، وهي نية الإصرار على استعباد مئات الملايين بغير أمل لهم في خلاص قريب أو بعيد، وتلك نية تعارضها الطبيعة كما يعارضها أولئك الملايين المصابون بها، وقد يتخاذل دونها سلطان المستعمرين يوما من الأيام، فلا تجتمع كلمتهم عليه في موقف الحسم حيث يحتاجون إليه، ولن تصبح أفريقيا وطنا للمستعمرين إلا بوسيلة واحدة، وهي أن يصبحوا أفريقيين كسائر الأفريقيين، وأن يجيء اليوم الذي يقفون فيه مناضلين عن أفريقيا كما فعل الأمريكي في نضاله مع البريطان والأسبان.

وسيخرج الأفريقي الأصيل من القرن العشرين بفائدة أكبر من فائدة تقرير المصير، إذا تعود في السنين الباقية منه أن يلتمس الدراية التي تجعله يدا عاملة في تعميم النفع بخيرات بلاده وينابيعها الغنية، إذ لا معنى لتقرير المصير بغير هذه الدراية التي يقعده عنها اليوم جهله وسقمه، وما ينوء به من بقايا الخرافات، وتقاليد السذاجة في النظم الاجتماعية. ومما يبعث الأمل في نهضة لالتماس هذه الدراية أن طلاب المصالح العالمية من أمم الحضارة محتاجون إلى تعليمه ، والانتفاع بمعونته، وهم يجدون أن التعاون معه على فهم ورضى أيسر من تسخيره على الرغم منه، أو الاستغناء عنه في تدبير مرافق بلاده.

يقول الخبير الاقتصادي كلارانس راندال: «إن المارد النائم يستيقظ، وإن قلب أفريقيا في الشرق والغرب وفي الشمال والجنوب يخفق بآمال جديدة ومطامح جديدة، وإن الأفريقيين مستعدون أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم وأن يقرروا مصيرهم بأيديهم. إن الروح الاستقلالية التي كانت سائدة بيننا في عام 1776 أصبحت الآن منتشرة في هذه البلاد الشاسعة حيث تكونت من البراري أمم جديدة لها نفس التصميم والجرأة اللذين امتاز بهما الرواد الأوائل من أسلافنا، وأفريقيا التي كانت قارة عريقة في القدم يوم ولد متوشالح قررت اليوم أن تندفع قدما إلى حضارة القرن العشرين، وهي في ميزان القوى موفورة الثراء في الموارد الطبيعية التي سيحتاج إليها العالم الصناعي ذات يوم، ولاتحاد أفريقية الجنوبية مستوى عال من الرخاء القائم على أساس من مناجم الذهب والماس والأورانيوم، ولاتحاد روديسيا ونياسالاند أعظم مستودعات النحاس والكروم في العالم، واكتشفت أنجولا النفط في أراضيها، وفي الكونغو البلجيكية معدن الكوبالت والأورانيوم وصناعة الماس، وتستعد أفريقيا الاستوائية الفرنسية لإقامة مشروع ضخم لخامة المنجنيز، وفي نياجرا الصفيح والكوبلت، في ليبيريا وأفريقية الغربية الفرنسية خام الحديد، وفي غانة تكثر أشجار الموجنة حتى لتصنع منها سلال المشروبات الخفيفة، وتستعمل أخشابها في الشئون العادية، وإن أعظم موارد القوى الكامنة على كل حال لهي القوة الرائعة التي لا حدود لها؛ قوة توليد الكهرباء من مساقط الماء.

ففي العصور الجيولوجية عندما تكونت القارة الأفريقية ألفي منحدر هائل من المحيط الأطلسي إلى داخل القارة مواز لسواحلها الغربية، وعلى هذا المنحدر الذي يشمل معظم الجانب الأدنى من أفريقيا تنساق الأنهار الكبرى إلى الجريان فوق شلالات قبل أن تنصب في المحيط الأطلسي، ولقد كانت هذه الشلالات حواجز منيعة في وجه السفن البحرية، فتأخر اكتشاف ما وراءها، ولكن هذه الشلالات والمساقط تعتبر الآن بالنظر إلى أفريقيا التي أفضت بأسرارها للطائرات عشرات من أمثال شلال نياجرا، وهي تنتظر الترويض والاستغلال، وهناك مستودعان كبيران لتوليد الكهرباء من مساقط المياه في طريقهما إلى الظهور الآن، فنهر زامبيزي يقوم عليه خزان كاريبي الذي شارك البنك الدولي في تمويله وسيمد المناجم والمصانع في روديسيا بالقوى المحركة الوافرة، ولسوف يكون للكاميرون الفرنسي قريبا خزان في إقليم إيديا على نهر ساجانا، وهناك مشروع خزان انجا على نهر الكونغو في الكونغو البلجيكية، وهو مشروع يبلغ من الضخامة أن تساوي القوى المولدة منه بعد تمامه خمس القوى التي تتولد في الولايات المتحدة، وعدا هذا وضعت الطبيعة إلى جانب كل منطقة لتوليد الكهرباء على وجه التقريب مستودعات منجمية لا مثيل لها من البوكسيت الذي يكفي لتزويد العالم كله بمعدن الألمنيوم عدة أجيال، وقد حدث تطور لا بأس به في وسائل المواصلات، فإن خطوط الطيران التي تستخدم الطائرات الحديثة وتقدم أحسن الخدمات تعبر سماء القارة ذهابا وجيئة في كثير من الاتجاهات، ويقتحم شريط السكة الحديدية طريقها إلى داخل القارة، وأصبح في مقدور سيارة نقل أن تبدأ رحلتها في الشاطئ الشرقي عند موزنبيق وتمضي إلى الساحل الغربي فوق طرق ممهدة يتصل بعضها ببعض خلال روديسيا وأنجولا، وأنشئت في كل مكان على كلا الشاطئين موانئ جديدة، وتزداد الأجور زيادة مطردة لا سيما على طول الشاطئ وفي مناطق المناجم كما تزداد الواردات من البضائع والسلع المستنفدة.»

अज्ञात पृष्ठ