والطوائف الصغيرة لا تعد مجرد مجموعات حسابية من الأفراد لأنها ظواهر اجتماعية ترتبط بتركيب بنية الأمة، ولكنها على أغلبها وأعمها لا تبرز بوجهة تاريخية خاصة بمعزل عن حياة الأمة التي تحتويها، إلا أن تكون من تلك الطوائف التي تتنازع الغلبة على المجتمع لولاية الحكم أو تأييد ولاته، كما يحصل فيما سمي حديثا بحرب الطبقات، ويؤخذ من تجارب العصر الحديث أن هذه الطبقات ذات وجهة تاريخية تؤثر في مجرى الحوادث، وأنها تميل إلى التوازن والتعاون أو إلى التقارب والتضامن كلما ارتقى النظام الاجتماعي في الأمة، وتمضي مجارية ولا تمضي مدابرة للوحدة العالمية.
وربما حدث في الأمم المتخلفة أن تنبري فئة من طلاب الانقلاب لاستئصال كل طبقة في المجتمع غير الطبقة التي تعتمد عليها في تقرير سلطانها، ولكن هذه الطبقة لا تلبث أن تتمخض عن طبقات جديدة تملأ فراغ الطبقات المستأصلة، وتؤكد من جديد أن الشخصية الإنسانية تستوفي كيانها، وأن الأمم لا تستغني عن التعاون بين طوائفها. •••
من هذا العرض المجمل نرى أن الغرض الذي قدرناه غير بعيد عن الواقع في وجهة التاريخ بالنسبة إلى النوع الإنساني أو إلى الإنسان الفرد أو إلى الجماعة التي تبرز لها مع الزمن وجهة تاريخية، ويسوغ لنا أن نقول: إن كثيرا من الفروض التي يتقبلها الباحثون العلميون تختلف عند التطبيق العملي اختلافا أبعد من الاختلاف بين الوجهة المفروضة والوجهة الواقعية في هذه المسألة، وقد يحق لهذا الفرض عن وجهة التاريخ أن يتلقى من قبول العلماء أكثر مما تلقاه ويتلقاه، ولا نخالهم يترددون في قبوله ويسرعون إلى الاعتراض عليه لو لم يكن تحقيق تلك الوجهة مصحوبا بالكوارث والشرور التي امتلأت بها الدنيا في تاريخها الطويل، ولا تزال تمتلئ بها في تاريخ العصر الحاضر، ولا يؤمل أن تنتهي فيما يتوقع من تاريخ المستقبل القريب.
يقولون: أيجوز أن نقول بالحكمة والقصد في تاريخ العالم مع هذه النقائص والآلام التي يبتلى بها الأحياء من كل نوع ولا سيما نوع الإنسان؟ ألا يجوز لنا أن نتردد ونرتاب قبل الذهاب إلى القول بالحكمة والغاية في عالم يتخبط هذا التخبط بين التقدم والتأخر، وبين الرجاء والخيبة، وبين الثقة والحيرة؟
نقول: بلى، يجوز إذا استنفدنا كل تفسير معقول لهذه المفارقات، وجربنا غير هذا الغرض فوجدناه أقرب إلى الفهم والأمل مما فرضناه وقدرناه.
لم لا نقول: إن عوارض النقص والألم ودواعي الحيرة والخيبة هي بعض النكسات التي رأينا أنها تفعل الخطوات المسددة في هذا الطريق ؟
لم لا نقول: إن الوجود الأبدي لا يحكم عليه من نقطة واحدة، أو نقط شتى غير متصلة ولا متلاحقة في العصر الواحد، ولا في مختلف العصور.
لم لا نقول: إن الكون لا ينحصر في مرضاة المخلوق، وأن «الكل» لا يرمى بالنقص لما يقع لا محالة من النقص في الأجزاء.
إن الأمانة العلمية - ولا نقول الأمانة الدينية - تتقاضانا أن نسأل أنفسنا هذه الأسئلة، وأن نفرغ من أجوبتها اليقينية قبل أن نجزم بالقول الفصل في هذه المسألة الكبرى، ولعلها أكبر مسائلنا - نحن بني الإنسان - على الإطلاق؟
وقبل أن نلغي من أذهاننا فكرة الوجهة التاريخية المقصودة من أجل نقائص الكون وشروره، ينبغي أن نتصور الكون الذي يخلو من النقائص والشرور كيف يكون، وينبغي أن نؤمن بأن الصورة الأخرى أقرب إلى الحكمة مما فرضناه وقدرناه.
अज्ञात पृष्ठ