اعتقد السيد طيب المهدي ساعة من الزمان أن مهمته في هذه الدنيا قد انتهت، وغمغم في ارتياح عميق، وأسى مخيف «الحمد لله رب العالمين». تسلم تأمينا حسنا، ومعاشا لا بأس به، وهو يقيم في شقة تمليك بمدينة نصر؛ فاز بها كجائزة عن خدمة غير قصيرة في الخارج، وتزوجت بناته الأربع، ولم يبق له إلا السمر مع زوجته، ومؤانسة التلفزيون، وقراءة الصحف، وسماع القرآن في إذاعته الخاصة، فأي غرابة في أن يعتقد أنه أدى رسالته في الحياة على أحسن وجه؟ لكنه لم يدر شيئا مما تخبئه له الأيام، فرأى ذات ليلة فيما يرى النائم رجلا بهي الطلعة فائض الأنوار، يرفل في ثوب ناصع البياض، ويقول له في حنان: من هذه الساعة وحتي يشاء الله تستطيع أن تقول للشيء كن فيكون، فافعل ما يحلو لك.
وتساءل لما صحا من نومه عن تأويل حلمه، ولكنه سرعان ما نسيه كما تنسى الأحلام. العجيب أن الحلم تكرر بحذافيره في الليلة التالية، والليالي الأخريات، حتي شعر بأن في الأمر سرا، ورأى من الحكمة أن يحتفظ به لنفسه، فلم يبح به ولا لست هنية رفيقة عمره. وفي الوقت نفسه تلقى دفقة قوية من طاقة ملأته ثقة وإلهاما وحبورا، لم لا؟ إنه رجل طيب، أخطاؤه هفوات تغتفر، ورع متدين، محب للخير، عاش حياته ورغم تواضع شأنه، وكأنه يحمل هموم الدنيا والناس. ومن شدة إلحاح الحلم عليه ومطاردته له، قرر أن يجرب قوته سرا، فذات مساء وهو يتابع مناقشة في القناة الأولى للتلفزيون، وست هنية في المطبخ، طلب أن ينتقل الإرسال إلى القناة الثانية، وفي الحال ودون أن يبرح مجلسه اختفت القناة الأولى، وظهرت القناة الثانية عارضة فيلما أجنبيا. ارتعد الرجل من عنف ذهوله واجتاحته عواطف متناقضة من الخوف والفرح. أراد أن يتأكد من قوته فراح يجربها بين القنوات، وفي رفع بعض المقاعد في الفراغ، وإعادتها إلى مواقعها الأصلية، حتى اطمأن إلى المعجزة التي أوتيها . وسلم أن مغزاها فوق مداركه، ولكنه أدرك أن مهمته في الدنيا لم تنته، وأنها لم تبدأ بعد. تذكر أحلامه الطيبة لوطنه، والدنيا التي كانت تضيء وتتلاشى في ثوان، الآن آن لها أن تتحقق، وسيتم إصلاح الوجود على يديه، دون جزاء واعتراف بفضله، ولكن حسبه أن يلبي هواتف قلبه التي واكبت عمره الطويل، وأرقت نومه وصحوه، وفي ميعاد ذهابه إلى قهوته، ارتدى ملابسه، وغادر مسكنه كالعادة، طاويا بين جوانحه قوته الجديدة، متوكلا على الله. أشار إلى تاكسي ليحمله إلى قلب المدينة، ولكن السائق لوح له بيد رافضة متعجرفة، وواصل سيره غير مبال به. ومع أنها لم تكن المرة الأولى إلا أن غضبه هذه المرة كان أشد. مال لحظة إلى أن يصعقه في حادثة من حوادث الطريق، ولكنه جمح غضبه، وقال لنفسه: «من يوهب قوة مثل قوتي فعليه أن يوجهها للخير». وركز بصره على إطاري السيارة الخلفيين فانفجرا دفعة واحدة، مثل قنبلة. وركن السائق السيارة، وراح ينقل عينيه بين الإطارين، ويضرب كفا بكف متشكيا «الاثنين في وقت واحد». شعر بأنه أدبه ولقنه درسا، ولكن هل يمر الدرس كأنه لقيط المصادقة؟! ومر بالرجل وألقى عليه نظرة ذات معنى وسأله «أيمكن أن أعاونك؟» ولكن الرجل أعرض عنه خانقا حاقدا. وبلغ محطة الباص فوقف تحت مظلتها. وجاء الباص مكتظا بالخلق، فرأى صراعا ناشبا بين سيدة ورجل يقف وراءها. لم يسمع ما يدور بينهما، ولكنه درس أبعاد الموقف، وما يدري إلا والرجل يلطم المرأة على وجهها في تهور فاق كل تصور. واستفزه الحدث فسلط غضبه على معدة الرجل وأصابها مغص شديد حاد مباغت جعله ينحني من شدة الألم، ويتأوه صارخا، فلم يتحرك الباص حتى حمل خارجه حتي تجيئه الإسعاف. وأكثر من صوت ارتفع قائلا: «يستاهل .. جزاء سوء أدبه ووقاحته». وراقب طيب المهدي المنظر بارتياح مطمئنا إلى أنه يؤدي واجبه على خير وجه. وفي طريقه إلى المقهى قدم خدمات تذكر؛ صادف مطبا غائرا فسواه، وأحكم إغلاق صندوق كهربائي، ورفع كوما من القمامة، وجفف عطفة من مياه المجاري حتى آمن كثيرون بأن صحوة حقيقية تسري في أعصاب الدولة، أو أنها انتقلت من الصحوة إلى النهضة. واتخذ مجلسه في القهوة ليتحف رأسه بفنجان قهوة. وانتبه إلى ما يذيعه الراديو، وإذا بمتحدث يستعرض جملة من الإنجازات الموعودة للمستقبل. امتعض السيد طيب وناوشته وعود مماثلة وتصريحات أسعدته زمنا، ثم لم تخلف إلا الإحباط، فضاق صدره بالحديث، وقال مخاطبا الرجل عن بعد «تكلم عما تم إنجازه لا عما سينجز»، وقال لنفسه: إن هذا الرجل لن يوقفه عن الكلام إلا العطس. وعطس المتحدث عطسة مباغتة قطعت حديثه فصمت، لعله كان يجفف بمنديله فاه وأنفه. وهم بمواصلة الحديث، فقطعته عطسة أشد من الأولى. ولم يستطع بعد ذلك أن ينطق بجملة مفيدة واحدة، فالعطسة تقف له بالمرصاد حتى اضطر إلى الاعتقاد بمرض طارئ، فغير المذيع البرنامج مذيعا أغنية طوف وشوف. وسكر الرجل بنشوة الارتياح والنصر. سيطهر الإذاعة السمعية والمرئية، مما لا يليق برسالتها الحقة. وسيوقف أي كلام لا يعجبه بالعطس والزغطة والإسهال المباغت، ويكون الرقيب الشعبي الصادق على جهاز الإعلام الخطير. عند ذاك لمح المدعو سليمان بك الحملاوي وسط مريديه ومماليكه، غير بعيد من مجلسه، يتقربون إليه بالملق والنفاق فيتيه كبرا وخيلاء. إنه ثري من أثرياء الانفتاح، ولكنه محسوب علي محدودي الدخل أمام مصلحة الضرائب. عظيم .. عظيم .. يا سليمان بك، اذهب من فورك إلى مأمورية الضرائب تائبا نادما، وأد ما في ذمتك من ضرائب تبلغ الملايين. وفجأة قام الرجل إلى سيارته في الخارج. فرك السيد طيب يديه حبورا. سيكون الرجل غدا حديث الصحف تضربه مثلا ليقظة الضمير، وعندما يرجع إلى فيلته سيتساءل عما دهاه، ويضرب رأسه في الجدار.
وجرب معجزاته بقية اليوم والأيام التالية في أماكن متفرقة كيفما اتفق، فطاف بمستشفى ولادة، وجمعية استهلاكية، ومصنع للأدوات الكهربائية، وغيرها وغيرها، فكان بلاء ونقمة على فريق ورحمة للكثرة من الخلق. وحيثما حل خلف وراءه دهشة وحيرة للفريقين، وتساءل كثيرون: كيف يتغير الناس من النقيض إلى النقيض، وماذا حدث في الدنيا؟ هل يمكن أن تستقيم الأمور في هذا الوقت القصير ودون مقدمات؟! غير أنه شعر في الوقت نفسه بأن الأمور لا يصح أن تسير بلا تخطيط واع. واقتنى دليل المصالح الحكومية والمصانع والشركات، ومضى به إلى حديقة الشاي بحديقة الحيوان ليرسم خطة شاملة. المصالح الحكومية وكر البيروقراطية، مراكز الإنتاج والخدمات، مجلس الشعب، السجون وما يقال عنها، الصحف، الأسواق، الأحزاب، المدارس، الجامعات. كل خطوة يجب أن تتم بتؤدة، كل اعوجاج يجب أن يقوم، كل انحراف يجب أن يردع، وعندما يفرغ من وطنه يلتفت بحماسة إلى العالم. المهمة المضطلع بها ثقيلة ومتشعبة، ولكن القوة التي يملكها هي معجزة الدهر. وشيء جذب انتباهه في مدخل الحديقة فرأى امرأة قادمة لتجلس إلى المائدة التي تليه مباشرة. جميلة وجذابة ونسخة من أحلام شبابه الدابر. اقتحمه شعور بالرضا، وثار انفعاله لدرجة لم يجدها قط منذ تزوج من ست هنية، فضلا عن الزهد الذي خشيه مذ طرق باب الشيخوخة. وعجب لانجذابه غير المتوقع. حقا إنه انجذاب غير عادي لا يتفق وانشغاله بمهمة تنوء بها الجبال، إنها لم تنتبه إليه ألبتة. وسرحت بعينيها النجلاوين فوق سطح البحيرة الخضراء والبط السابح، فهل يخطر ببالها أنه يستطيع أن يسيطر عليها في ثوان فيقلبها ظهرا لبطن؟ وتردد طويلا قبل أن يبعث إليها برسالته الخفية. في الحال تطلعت إليه وبنظرة مستجيبة توشك أن تنطق. وتحول انجذابه إلى نشوة، فاستسلم على رغمه. هل من ضير لمن يرغب في إصلاح الدنيا أن يهتم أيضا بإصلاح ذاته؟ ومن خلال ابتسامة متبادلة نسي دينه ودنياه، فأغلق دفتره وقاما معا مسلمين لقدرهما.
وعندما رجع إلى بيته مساء كان قد ثاب إلى رشده، وأدرك أنه أخطأ. ولاحظت ست هنية أنه ليس في مرحه المألوف، فزعم أن نزلة برد ألمت به. ومع أنه لم يفكر أبدا في معاودة الخطأ، إلا أن الكدر لم يفارقه. الأدهى من ذلك أنه لم يعد يحظى بالثقة الباطنية التي أسكرته طويلا. وأراد أن يجرب نفسه؛ انتظر حتى غابت ست هنية لبعض شأنها وتوجه إلى التلفزيون كما فعل مرارا.
لم يستجب التلفزيون له ، ومضى في سبيله.
جن جنونه.
أعاد التجريب فلم يلق إلا الخيبة.
تلاشت المعجزة كحلم.
الندم لا ينفع، الحسرة لا تفيد، التوسل لا يجدي.
يركبه حزن ثقيل لن يفارقه حتى الموت.
अज्ञात पृष्ठ