إنه قضاء يتحدى الحي، ولا بد من دفاع من نوع ما. واتجهت الآمال أول ما اتجهت نحو المحافظة. وفي الحي موظفون ومتعلمون، فما علينا إلا أن نجس النبض، والله المستعان. لكن الشكوى لقيت من المحافظة استخفافا وسخرية، أتريدون أن تعطلوا المصلحة العامة خوفا من خنفساء؟! أما ما يقال عن العقارب فما هو إلا خرافة من خرافات الأولين. هذا والخنافس تتكاثر والقتل يستفحل حتى حلف الحلاق أن جثث الخنافس جاوزت بالأمس المائة في مسكنه. وفازت غرف النوم بعناية مركزة، وعرضت للتفتيش الدقيق الحشيات والأغطية والوسائد، فما يحتمل أحد أن يستيقظ من نومه على زحف خنفساء فوق جبينه أو اندساسها بين شفتيه، وقال رجل: لولا أزمة المساكن ما بقيت هنا يوما واحدا.
وقال آخر: سكنى المقابر أفضل وآمن.
وراجت تجارة المبيدات، وانهالت الاستشارات علي الصيادلة، أما جموع الخنافس فلم تتوقف أو يعترها ضعف، وانتشر لونها في مواقع فصبغتها بالسواد، إضافة إلى الرائحة الكريهة، وعندما تجيء العقارب فقل علينا السلام. وحل اكتئاب عام كأنه غبار تحمله الخماسين، فقد الناس المرح، واشتدت حساسيتهم لأقل سبب، يتشاجرون حتى مع أنفسهم، وفي البيوت توترت الأعصاب، وتعددت أسباب النزاع، وكثر الحلف بالطلاق، وضرب الصغار لأتفه الفعال. وكل شخص قال إن العقارب آتية لا ريب فيها. يا إلهي، ما سر البلاء؟ أهو الديناميت؟! أهو سوء النية؟ أهو غضب الله؟ ولكن ما جدوى التخبط بين الفروض، وها هو ديناميت الحكومة لا يسكت دقيقة واحدة؟ الحكومة وراء الخنافس، وراء العقارب، لا تعاني مثلنا، ولا تبالي بنا، تقيم في الأحياء الآمنة بعيدا عن الديناميت والجبل، وتتركنا لمصيرنا. أي حياة هذه؟ لا عمل لنا إلا قتل الخنافس في ضجر وقرف، وشحن الصفائح بالجثث عمل أثقل، والتخلص منها أمر محير. كأننا لم نخلق إلا من أجل مقاومة الخنافس. واقترح رجل فاضل أن ينقل ميدان المعركة إلى الخلاء الفاصل بين سفح الجبل ومشارف المساكن. وتحمس كثيرون للفكرة، فانطلقوا إلى الخلاء حاملين العصي وانقضوا على الجموع الزاحفة بهمة وتصميم، وتواصل العمل حتى هبوط العتمة، ولكن ذلك كله لم يقلل من انتشار الخنافس في البيوت، ولا خفف من مخاوف النساء والأطفال، بل راحت الخنافس تتسلل إلى الطرقات والمقاهي والدكاكين، ويعثر عليها مرات في قوارير الخل والزيت والمرطبات أو مدفونة في حشو العيش والطعمية. الحياة ضجر وقرف وترقب لخوف داهم. ودعا قوم للهجرة وليكن ما يكون. وحرض آخرون على قتال طغاة الديناميت. وقال ولي صالح إنه لا نجاة لنا إلا بالبخور. وسعي من سعى إلى الهجرة، وخطط من خطط للقتال. ومال كثيرون لفكرة البخور لسهولتها وسحرها. والبخور متوفر والمبخرة جاهزة، ولكن الولي اشترط الطهر والنقاء فيمن يقوم بالتبخير وإلا رفعت اللعنة، وحلت العقارب والحيات مكان الخنافس. وكلما عرض الأمر على رجل مشهود له بالطيبة جفل وقال الكمال لله وحده. وبدا أسهل الحلول وكأنه أصعبها. حتى جيء بطفل في الرابعة من عالم البراءة، فطوقوا وسطه بعلاقة المبخرة النحاسية، وحمله أبوه فطاف بالبيوت والأماكن. وكف الناس عن المقاومة أملا في البخور، ولكن الخنافس تكاثرت لدرجة تعذرت معها المقاومة. وهجر الناس بيوتهم إلى الطرقات، وهم في كرب ما بعده كرب، وانهالت الاتهامات على البخور والولي، وحتى الطفل لم ينج من تهمة تناسبه. واختلطت الأمور وذهل الناس عن الحقيقة، وازدادوا ذهولا والأيام تمر. ولا أحد من المعاصرين يدري كيف انكشفت الغمة وتلاشى الكابوس. أجل، قد رجع الناس إلى المساكن، ورجعت المساكن إلى الناس، ولكن كيف؟ يهمس قوم إنها الهجرة. ويشيد آخرون بقتال الأبطال. ويتغنى فريق بشذا البخور.
وراء العامود
بكافيتريا الفندق الكبير لذت فرارا من حر يتأجج في الشوارع. ما أجمل الجو المكيف عقب احتراق وعرق! وثمة مكان خال وراء عامود ضخم مطعم بالمرايا والأصداف الملونة، فأسلمت نفسي لمقعد لين. يكاد يخلو المكان، سوى ذلك الركن الغربي تتهادي منه ضحكات رزينة وروائح السيجار. لمحتهم من ناحية العامود جالسين حول مائدة معدنية اصطفت فوقها أقداح المرطبات. عرفتهم رغم أنني لم أرهم من قبل، يدل عليهم مظهرهم الرائع، وسمات مشتركة كاللغد الممتلئ والسيجار والنظرات الهابطة من عل. ورغم طفرة الزمن فهم يتنادون بسعادتك ومعاليك، وانعقد فوق هاماتهم نصر مؤكد. تجول عيناي في أرجاء المكان تابعة الفتيات ذوات السترات الحمر وهن يؤدين الخدمة، ثم يرجعن إلى الركن، فوضح لي هذه المرة أن صاحبي «الأستاذ» مندس بينهم كأنه أحدهم. يقينا هو ليس منهم، ولكنه حائز لرضاهم، يكتب إذا كتب في حياء، متناولا طرائف الشرق والغرب، ولكنه عند الحديث يضع الكلمة المناسبة في المكان المناسب، فما من طائفة إلا وتظنه وليها. أراهن على أنه يروي نكتة، صوته غير مسموع وإشاراته دالة، وهم يصغون باهتمام، ثم تتهادى الضحكات الرزينة. هم في حاجة إليه، وهو في حاجة إليهم. ابتسمت لكثرة ما تذكرت. تلك الليالي الحافلة بالكلام والسمر. إنه الآن ينافق. يقوض أبنية ليداهن أحلامهم. أنا أيضا أجلس في مجلسي الرطيب لأحلم. النوم العميق يجد في الأحلام مفتاح الفرج. أما في مجالسنا المرحة فقد استحق الأستاذ لقب مؤرخ العصر ومفشي الأسرار. لكنه صادق معنا وإلا، كانت تلك الأقدار التي تحيط بنا. إنه يحيل الشائعات إلى حقائق بمشاهداته وأسانيده وأخباره. مؤرخ خبير بالصفقات والسلب والنهب. بل لعله في أعماقه متمرد أو ثائر، ولكنه يؤثر السلامة والربح. إنه يعلم أن ذلك الركب غاص بالموبقات، ولكنه آثر أن يتعلق بذيله ولو على كره. في مجالسنا فقط ينطلق على سجيته ويكفر بالكلام عن سلوكه. يسأله أحدنا: حتى متى تمضي الأمور هكذا؟
فيقول بحماس عابر وحقيقي: حتى تلفظ السلبية أنفاسها. - لكننا شهدنا أكثر من ثورة؟
فيقول ضاحكا: لي عمة لم يشف كبدها من أوجاعه حتى أجرت به ثلاث جراحات!
وأمد بصري نحو ركنهم وعاصفة تموج في صدري، ألا يفكرون في العواقب؟ أم هو قدر يحمل الجميع إلى غاية مرسومة؟ وأتسلى بالنظر في قعر فنجان القهوة الفارغ، كأنما أشوف البخت. أري رسما في راسب التنوة يشبه القاطرة. أتذكر ما يقال عادة: «أمامك سكة سفر!» ورأيت الركن يتحول إلى حجرة هادئة للتدخين معزولة تماما عن الفندق مغلقة الباب، والسادة هائمون بين الاسترخاء والسمر، ولكن الباب فتح، وانسل منه شاب غريب، أغلق الباب، ولاه ظهره، وتوجه نحوهم في توتر وتحد. نحيل طويل ذو سروال رمادي وقميص غامق اللون، معروق الوجه شاحبه، زائغ البصر. ترتفع نحوه الأبصار مستطلعة، ويسود صمت داهم. لا أحد من السادة يعرفه أو ينتظره، لعله جاء لمقابلة الأستاذ، المهم ألا تطول الزيارة. يدس الشاب يده في جيب سرواله ثم يسدد نحوهم مسدسا، يقول: حذار .. أي حركة ستجر وراءها الموت.
حلقت فيه العين، أي مفاجأة؟ كفوا عن التدخين. مجنون؟ ما أكثر المجانين في هذه الأيام! لكن الحياة ليست باللعب. وتساءل أحدهم: أي شيء بيننا وبينك؟!
فهتفت: كثير .. كثير .. للأسف ليس في المسدس ما يكفي من رصاص.
अज्ञात पृष्ठ