इंग्लैंड और स्वेज नहर: 1854-1951
إنجلترا وقناة السويس: ١٨٥٤–١٩٥١م
शैलियों
مقدمة
1 - مصر طريق للتجارة بين الشرق والغرب
2 - موقف إنجلترا من امتياز قناة السويس (1854-1869)
3 - ديزريلي وقناة السويس
4 - احتلال الإنجليز لقناة السويس في سنة 1882
5 - إنجلترا وتحديد مركز القناة (1883-1888)
6 - إنجلترا والقناة (1888-1935)
7 - موقف إنجلترا إزاء القناة من بعد 1935
ملحقات
من أهم المصادر والمراجع
अज्ञात पृष्ठ
مقدمة
1 - مصر طريق للتجارة بين الشرق والغرب
2 - موقف إنجلترا من امتياز قناة السويس (1854-1869)
3 - ديزريلي وقناة السويس
4 - احتلال الإنجليز لقناة السويس في سنة 1882
5 - إنجلترا وتحديد مركز القناة (1883-1888)
6 - إنجلترا والقناة (1888-1935)
7 - موقف إنجلترا إزاء القناة من بعد 1935
ملحقات
من أهم المصادر والمراجع
अज्ञात पृष्ठ
إنجلترا وقناة السويس
إنجلترا وقناة السويس
1854-1951م
تأليف
محمد مصطفى صفوت
مقدمة
هذا كتاب في موقف إنجلترا بإزاء قناة السويس من وقت أن فكر الفرنسيون في إنشائها إلى قرب أواخر السنة الماضية.
ولقد حاولت تبسيط الموضوع وعرضه من الناحية التاريخية العلمية قبل كل شيء.
لقد حاربت إنجلترا مشروع القناة بكل ما أوتيت من قوة؛ حتى إذا أصبحت القناة حقيقة في سنة 1869، كانت إنجلترا أولى الدول استفادة منها، وحرصت من أول الأمر على ألا تسيطر دولة واحدة عليها أو على إدارة شركتها، ثم ساعدتها الأيام فاشترت أسهم الخديو في القناة في سنة 1875، ولم تمر ثماني سنوات إلا وقد احتلت إنجلترا القناة ومصر جميعها، وأصبح لها مركز فعلي ممتاز في القناة لا ريب في ذلك، واحتفظت إنجلترا لنفسها بهذا المركز ما بقي الاحتلال الإنجليزي في مصر، على أساس الحق الذي ادعته لنفسها من أنه يهمها أكثر من غيرها حماية حرية المرور في القناة للسفن الحربية وغيرها في وقتي السلم والحرب.
على أن مصر لم تعترف يوما ما بهذا المركز؛ فمصر، التي تمر القناة في أراضيها هي صاحبة الحق الأول في القناة، وهي الحارس الطبيعي لها، ولم تبد اعتراضا على معاهدة سنة 1888 الدولية، التي حددت مركز القناة والتي اعترفت بها الدول جميعا ومنها إنجلترا.
अज्ञात पृष्ठ
ولم يرد الجانب المصري في معاهدة سنة 1936 أن يعطي لبريطانيا حقا دائما في الدفاع عن القناة، بل جعل بموافقة بريطانيا الحق الأول في الدفاع عنها للجيش المصري.
على أنه بعد إلغاء مصر لمعاهدة سنة 1936 في 8 أكتوبر سنة 1951 ظلت بريطانيا إلى الوقت الحاضر متمسكة بمركزها في قناة السويس بعد أن تقدمت هي والولايات المتحدة وفرنسا وتركيا بمقترحات الدول الأربع، فرفضتها مصر، وبررت إنجلترا موقفها في القناة بما يأتي: (1)
أن منطقة القناة منطقة استراتيجية تصلح قاعدة للدفاع عن الشرق الأوسط والعالم الحر. (2)
حماية حرية المرور في القناة، وهذا - كما ترى إنجلترا - أمر لا يهم إنجلترا وحدها بل يهم العالم جميعا، وما وجود إنجلترا - كما أعلن الجنرال روبرتسون قائد القوات الإنجليزية في الشرق الأوسط في آخر سنة 1951، وكان يتكلم باسم الحكومة البريطانية - «إلا مساهمة منها في الدفاع عن العالم الحر»، ولكن العالم والمعسكر الحر لم ينتدبا إنجلترا للقيام بهاتين المهمتين، ولم ترض مصر صاحبة القناة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عن وجود الإنجليز في القناة، وصرحت رسميا بذلك أكثر من مرة لإنجلترا وللعالم الممثل في مجلس الأمن، بل وألغت معاهدة سنة 1936 نفسها.
وإذا كان للمؤرخ أن يمتد به النظر إلى الحاضر والمستقبل، فإن استمرار الموقف الحاضر لا يحقق رغبات إنجلترا ولا سياستها بأي حال؛ فالقناة لن تكون آمنة، ولن تكون مركزا استراتيجيا ذا غناء إلا إذا كانت القوات الموجودة فيها مطمئنة، وإلا إذا كانت المواصلات بكل أنواعها في منطقة القنال آمنة، وإلا إذا كانت الأيدي العاملة والمواد الغذائية فيها متوفرة، وكلها أمور لم تتوفر بعد إلغاء المعاهدة.
ولقد وصفت صحيفة التيمز الأسبوعية في 2 يناير سنة 1952 الموقف الاستراتيجي في قناة السويس من حيث وجهة النظر الإنجليزية، فقالت ما ملخصه: «إن مصلحة إنجلترا الاستراتيجية في القناة عظيمة، وأن قواعدها الحربية فيها قيمة، ولكن التمسك بها في وجه عداء مصر ومقاومتها معناه ربط عدد كبير من القوات دون داع؛ معناه اضطراب الأمور في الشرق الأوسط، إن القوات البريطانية في مصر قوية، وقيمة قواعد قناة السويس هي في سهولة اتصالها بالبحر الأبيض المتوسط شمالا وبالبحر الأحمر جنوبا، فمنها تستطيع إنجلترا إرسال قوات إلى أية جهة في مساحة واسعة، وأما الغرض الآخر من وجودها، وهو الدفاع عن القناة، فهذا أمر ثانوي، ولكن إذا كانت القوات الموجودة في هذه القواعد مشغولة طول الوقت بالدفاع عن نفسها، فإن قيمة هذه القواعد تقل كثيرا.»
وإلى هذا التاريخ لم تحل مشكلة القناة.
ولا يسعني في هذا الكتاب إلا أن أعترف بالفضل الكبير لحضرة صاحب العزة محمد شفيق غربال بك لما تفضل به من اقتراحات طيبة ونقد قيم وعون مشكور.
كما أشكر الجمعية الملكية للدراسات التاريخية التي تفضلت فقبلت أن يحمل هذا الكتاب اسمها.
محمد مصطفى صفوت
अज्ञात पृष्ठ
الإسكندرية في مارس سنة 1952
الفصل الأول
مصر طريق للتجارة بين الشرق والغرب
أشرفت مصر على طريق التجارة بين الشرق والغرب حينا مذكورا من الدهر منذ أواخر العصور القديمة، وظلت تشرف على هذه الطريق خلال العصور الوسطى إلى أن انتصف تقريبا القرن الخامس عشر الميلادي.
وكان جانب كبير من تجارة الشرق في العصور الوسطي؛ نفائسه وكنوزه وتوابله وعطوره ومنسوجاته الحريرية والصوفية ومعادنه تأتي من الشرقين الأوسط والأقصى إلى البحر الأحمر لتنتقل عبر الأراضي المصرية في خليج السويس ثم في طريق مائية أو برية إلى النيل، ومنها إلى ثغور مصر على البحر الأبيض المتوسط، ثم تنتقل في ذلك البحر وهو الطريق العالمية المهمة للمواصلات، حيث ترسو على ثغور إيطاليا، ومن أهمها البندقية وجنوه، ومن هاتين المدينتين اللتين أصبحتا دولتين قويتين غنيتين، توزع في بقية أجزاء أوروبا الغربية والوسطى.
وجنت مصر من هذه التجارة الغنية - وكانت تجارة كماليات في الغالب - أرباحا طائلة، وكذلك كل الأمم المطلة على سواحل البحر الأبيض المتوسط، التي كانت تقوم بنقل أو توزيع هذه التجارة أو الإشراف عليها، فلقد أصبحت الضرائب المفروضة على هذه التجارة موردا مهما من موارد الإيراد المصرية.
كانت مصر إذن حلقة مهمة في سلسلة المواصلات بين الشرق والغرب، وكان المصريون في مختلف العصور هم الذين يشرفون بالفعل على انتقال هذه التجارة داخل حدود بلادهم، ولم يكن هناك عنصر أجنبي له حق التدخل أو الهيمنة على الطريق التي تمر فيها هذه التجارة، وكانت حكومة مصر في كثير من العصور تمتع بالسيطرة التامة على البحر الأحمر وعلى شرقي البحر الأبيض المتوسط، وكانت لها الحرية المطلقة في التصرف بما تمليه مصالحها الخاصة ومصالح المصريين.
وترتب على ذلك أن أصبح البحر الأبيض المتوسط أهم طريق للتجارة العالمية بين الشرق والغرب. وأصبح للأمم التي تتصل بها مياهه التفوق في المضمارين التجاري والمالي.
وظلت الحال على ذلك إلى أن كاد ينتهي القرن الخامس عشر الميلادي، فشاهد العالم تغيرا هاما لا في وسائل النقل المختلفة، وإنما في الطرق التي تسير فيها تجارة العالم، شاهد تحولا واضحا عن البحر الأبيض المتوسط إلى المحيط الأطلنطي.
وذلك بعد أن كشف البرتغاليون، وهم أولى الدول البحرية ظهورا في العصور الحديثة تلك الطريق البحرية الجديدة الطويلة حول رأس الرجاء الصالح، وكان الدافع الرئيسي لهذه الدولة هو الاستحواذ على تجارة الشرق الغنية، والوصول إلى مواطن الثروة فيه عن طريق لا يشرف عليه المسلمون ولا يسيطر عليه الأتراك العثمانيون، ولا تهيمن عليه مصر التي كانت حتى أواخر العصور الوسطى وأوائل العصور الحديثة مركز الإسلام وقلبه النابض وقوته المتفوقة وحصنه الحصين.
अज्ञात पृष्ठ
فتح إذن المحيط الأطلنطي لأول مرة في تاريخ البشرية للتجارة العالمية، بعد أن كان بحر الظلمات، بحرا مغلقا يكتنفه الغموض والأسرار والمخاطر، وتحول إليه نشاط الدول القومية الأوربية التي نشأت في غرب أوروبا، لقد استيقظت هذه الدول للوحدة والنمو والاستعمار والتوسع والاستحواذ على تجارة الشرق التي تجلب الثروة والغنى والقوة، استيقظت هذه الدول لاستغلال شعوب الشرق التي حل بها الضعف والوهن، وتمزقت وحدتها، وتدهورت حكوماتها.
وكان أهم هذه الدول الناشئة: البرتغال وإنجلترا وفرنسا والأراضي المنخفضة - هولندا.
سارعت هذه الدول يدفعها نشاطها وحبها للكسب والمغامرة إلى الهند والشرق الأقصى، بلد العجائب الذي تجمعت حوله الأسرار والأساطير، ونسجت حوله القصص الغريبة، تنشئ المحطات التجارية والمستعمرات والقواعد البحرية، وتكونت في الهند وفي الشرق الأقصى بصفة خاصة الإمبراطوريات الاستعمارية القوية الإنجليزية والفرنسية والهولندية.
وقام النزاع عنيفا وحادا لا يبقي ولا يذر بين الإنجليز والفرنسيين، وانتهى أخيرا بتفوق الإنجليز في ذلك الميدان.
وفي هذا الوقت الذي كانت فيه هذه الدول - دول غرب أوروبا - تشرئب للحياة والتوسع والاستعمار، كانت دول البحر الأبيض المتوسط التي ازدهرت على تجارة الشرق، وخاصة مصر، تزداد ضعفا على ضعف وتضمحل بالتدريج، وانتهى الأمر باحتلال الأتراك الحربي لمصر في أوائل القرن السادس عشر الميلادي.
ولكن احتلال الأتراك لمصر لم يعمل على تحسن الأحوال في وادي النيل، بل ازدادت الحال خلال عهد الأتراك الطويل سوءا على سوء من كل النواحي؛ السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ثم أخذ الأتراك أنفسهم منذ النصف الثاني للقرن السابع عشر في الضعف والانحلال، وانتهى بهم الأمر إلى أن أصبحوا هم ودولتهم التي امتدت في شرقي البحر الأبيض المتوسط مطمعا للدول الأوربية الغربية.
ولم يأت القرن الثامن عشر إلا وقد أخذت الدول الكبرى الأوربية تفكر جديا في كيفية تقسيم ممتلكات الأتراك وفي إحياء الطريق القديمة للتجارة؛ طريق مصر؛ فإن نظرة واحدة إلى خريطة العالم تكفي لأن ترى أن مصر تقع في منطقة هي ملتقى القارات الثلاث؛ أوروبا وآسيا وأفريقيا، وأنها بموقعها الجغرافي هي أقرب وأيسر طريق بين الشرق والغرب، وأنه ليس من المستحيل وصل البحرين الأبيض المتوسط والأحمر، إما بطريق برية أو بطريق مائية، فلقد وجدت الطريقان في القديم وفي العصور الوسطى.
ومن أهم الدول التي اهتمت بفتح هذه الطريق فرنسا، فحكومتها تحاول منذ القرن السابع عشر أن تقنع العثمانيين بقيمة فتح هذه الطريق للتجارة الشرقية، وبذلت في ذلك جملة محاولات، ولكن جهود فرنسا في هذه الناحية أثارت حسد إنجلترا، وخاصة في وقت كان التنازع الاستعماري بين الدولتين على أشده، ووجد بعض مواطني إنجلترا في الشرق الأدني أنه ربما كان من الخير لوطنهم أن يشارك في فتح هذه الطريق التي ربما تحولت إليها تجارة الهند والشرق، فإعادة فتح هذه الطريق قد تعود على إنجلترا بالخير العميم، وربما عملت على نمو التجارة البريطانية.
وما إن تبوأ علي بك الكبير الحكم في مصر، وسيطر على بلاد العرب، وأعاد لمصر بعض مركزها القديم؛ حتى زاد اهتمام الفرنسيين والإنجليز ببذل جهودهما في ذلك السبيل، فالإنجليز من ناحيتهم يودون لو فتح طريق البحر الأحمر إلى السويس لسفنهم الآتية من الهند والمحيط الهندي، والفرنسيون يودون لو استطاعوا الاستيلاء على تجارة الشرق عن طريق تحويلها إلى طريق مصر.
ولكن الإنجليز والفرنسيين لم يظفروا في آخر الأمر بنجاح؛ فقد وجدوا عقبات كأداء في طريقهم لا بد من تذليلها، فالدولة العثمانية وإن تظاهرت بالإصغاء إلى آرائهم؛ إلا أنها كانت أحرص من أن تأذن بفتح هذه الطريق التي تجعل ممتلكات الدولة العثمانية في شرقي البحر الأبيض المتوسط ميدانا جديدا للتنافس والتوسع الأوربي.
अज्ञात पृष्ठ
ولقد بررت الدولة العثمانية مسلكها هذا لدى الدولتين الكبيرتين بأن الملاحة الأوربية محرمة في البحر الأحمر، فضروري للدولة العثمانية احترام مركزها بين المسلمين، ولا يكون ذلك إلا بالمحافظة على حرمة الأماكن المقدسة الإسلامية من أن ترسوا على شواطئها سفن مسيحية أوربية.
والدولة العثمانية، وإن كانت ضعيفة من الوجهة الحربية، ولكن ساستها برعوا حقيقة في فن السياسة، فكان لهم من بعد النظر السياسي والمهارة في الانتفاع بما بين الدول من أحقاد ومنافسة ما مكنهم من المحافظة على الدولة وسط التيارات الدولية العنيفة، وكان هؤلاء الساسة يخشون أن يعمل إحياء طريق مصر على زيادة موارد بكوات المماليك الذي استقلوا بأمور مصر، واحتقروا من الناحية العملية سلطة السلطان، وعملوا على الانفصال عن الدولة العثمانية.
ولقد حاول الإنجليز والفرنسيون أن يلجوا بابا آخر للوصول إلى أغراضهم المادية، فحاولوا عقد معاهدات مع بكوات المماليك أنفسهم أصحاب السلطة الفعلية والنفوذ في مصر، ولكن هذه المعاهدات لم تسفر عن نتيجة، فأمور مصر السياسية لم تكن مستقرة، وأحوال الأمن الداخلي مضطربة، وعهود بكوات المماليك لا يوثق بها ولا تربط أحدا، على أن ما يهمنا في هذا المكان هو أن إنجلترا وفرنسا اهتمتا بأمور مصر ومستقبلها نتيجة لاهتمامها بفتح الطريق القديمة، ففرنسا ترى أن فتح هذه الطريق سيجلب لها متاجر الشرق، وسيلحق بتجارة أعدائها الإنجليز الضرر البليغ. والإنجليز من ناحيتهم يرون في فتح هذه الطريق غنما كبيرا لتجارتهم واقتصادا كبيرا في الوقت والنفقات.
وأتى الفرنسيون إلى مصر في السنتين الأخيرتين للقرن الثامن عشر فاتحين ، وقد جعلوا من أهدافهم الأولى استعمار مصر واتخاذها مركزا للتوسع في الشرق الأدنى، وفتح الطريق المائية التي تصل البحرين الأبيض المتوسط والأحمر.
وما إن استقرت أقدامهم في أرض مصر حتى أخذوا في دراسة مشروع توصيل البحرين دراسة جدية. ولكنه لم يهيأ لهم النجاح، فبقاؤهم في مصر كان قصير المدى، شغلوا في أثنائه بالدفاع عن مركزهم في هذه البلاد أمام الأهالي المصريين وأمام الأتراك وأمام الإنجليز، فضلا عن أنهم في دراستهم للمشروع قد ظنوا أن مستوى أحد البحرين أعلى من مستوى الآخر.
وخرج الفرنسيون من هذه البلاد، بعد أن وجهوا - وهم لا يريدون - نظر السياسة الإنجليزية إلى أهمية هذه البلاد من الناحية الاستراتيجية والحربية، ومن ناحية المواصلات العالمية.
وأصبحت لإنجلترا سياسة خاصة نحو مصر وضعت أسسها في مطلع القرن التاسع عشر، اتبعتها مدة طويلة، فإنجلترا لن تسمح لدولة أوربية بالاستيلاء على مصر، ولن تسمح بقيام حكومة قوية في مصر تهدد مصالح إنجلترا.
على أن مشروع وصل البحرين لم ينته بخروج الفرنسيين، فلقد ظل حيا في أذهان بعض الفرنسيين، ولم يكن الإنجليز في أول الأمر معارضين له، بل كانوا مرحبين به، وحاول الفرنسيون والإنجليز دراسة المشروع دراسة قائمة على أسس علمية صحيحة، وحاول الفرنسيون جاهدين تحقيقه في عهد محمد علي الكبير، ولكن عاهل مصر العظيم كان له من بعد النظر السياسي وفهم الموقف الدولي ما جعله يغض النظر عن تنفيذه، وإن كان قد وجه عناية كبرى إلى فتح الطريق البرية التي تمر خلال مصر من الإسكندرية إلى القاهرة ومن القاهرة إلى السويس، هذه الطريق اقتنعت الحكومة الإنجليزية بأفضليتها على القناة من الناحية السياسية، إذ إنها اعتقدت أن تنفيذ مشروع القناة سيؤدي إلى فتح بوسفور جديد وربما يضطرها إلى احتلال مصر.
ولقد عمل حكم محمد على المستنير على استتباب الأمن والطمأنينة في كل ربوع البلاد، وأعدت الطريق البرية إعدادا تاما لتكون صلة مهمة بين الشرق والغرب، وما خشيه محمد علي الكبير من المشروع الفرنسي هو ما كان يخشاه على مستقبل هذه البلاد من إنشاء بوسفور جديد، كان يخشى عواقب إنشاء قناة بحرية تصل ما بين البحرين وتغير من مركز مصر الجغرافي وتجعل منها ميدانا للتنافس الأوربي، كان محمد علي يرى أن إنشاء القناة سيجعل من مسألة مصر مشكلة دولية يهم الدول البحرية جميعا التدخل في تحديد مصيرها.
ثم يأتي عباس باشا الأول ليتولى حكم مصر، ويرتسم لنفسه خطة محمد علي الكبير فيما يختص بموضوع القناة، فلما اشتبكت إنجلترا وفرنسا في نضال شديد، وأيدت إنجلترا إحياء الطريق البرية تأييدا كاملا بوضع مشروع للسكة الحديدية بين الإسكندرية والقاهرة والسويس، عارضت فرنسا ذلك المشروع معارضة شديدة، واستغلت في سبيل ذلك ما لها من نفوذ في مصر وتركيا، ولكن المشروع الإنجليزي كتب له النجاح ودخل في دور التنفيذ، وفي أثناء إنشاء السكة الحديدية بين مصر والإسكندرية مات عباس باشا الأول، واعتلى سعيد باشا منصة الحكم في مصر.
अज्ञात पृष्ठ
وشاء الله أن ينجح المشروع الفرنسي - مشروع إنشاء القناة - كما نجح المشروع الإنجليزي من قبل، وكان لشخصية فردنند دي لسبس صاحب المشروع، وصبره ومثابرته وجرأته، ثم لصلته الوثيقة بوالي مصر الجديد أثر كبير في إخراج المشروع الفرنسي إلى حيز الحياة والتحقيق.
ومنح سعيد باشا دي لسبس امتياز قناة السويس بشروط مجحفة بحقوق مصر وصالح المصريين، فلقد نص في الامتياز الممنوح للشركة العالمية لقناة السويس على تسخير عدد كبير من الفلاحين المصريين لخدمة الشركة وتنفيذ أغراضها، كما أعطاها فرمان الامتياز من امتيازات الملكية ومن حيازة مساحات شاسعة من الأراضي في منطقة القناة ما لم يسمع له نظير، وليس هنا المجال لشرح نصوص ذلك الامتياز أو التعليق عليه، ولكن يكفي أن نقول: إن وجهة نظر سعيد باشا كانت عالمية، فهو يرمي إلى خدمة العالم والحضارة قبل كل شيء؛ ولذا فهو يقدم كل التسهيلات ويبذل كل شيء في سبيل تدعيم مركز شركة القناة وفي سبيل تحقيق المشروع.
الفصل الثاني
موقف إنجلترا من امتياز قناة السويس (1854-1869)
كانت إنجلترا تنظر إلى مشروع قناة السويس كمشروع فرنسي قبل كل شيء من شأنه أن يجعل للفرنسيين نفوذا كبيرا في مصر يمكنهم من التحكم في طريق عالمية لخدمة أغراضهم الخاصة.
حقيقة كانت تربط إنجلترا بفرنسا في الخمسينات للقرن التاسع عشر في عهد الإمبراطور نابليون الثالث؛ صلات ود وصداقة نمت فتحولت إلى تحالف متين الأواصر في حرب القرم؛ حين وقفت الدولتان جنبا إلى جنب مع الدولة العثمانية ضد أطماع الروس، ولكنه بالرغم من وجود ذلك الحلف لم تنس الدولتان أبدا تنافسهما القديم في حوض البحر الأبيض المتوسط وفي ميدان الاستعمار.
ففرنسا ترى أن سواحلها الجنوبية تطل على ذلك البحر، وهذا يعطيها الحق في أن تعمل على تفوق نفوذها فيه، وخاصة في مصر والشرق الأدنى، فذكريات حروبها في ذلك البحر، وذكريات صليبييها ومعاهداتها بصفتها بنت الكنيسة الكبرى مع الدولة العثمانية، كل هذه تشير إلى مستقبل زاهر لفرنسا في ذلك البحر، وبصفة خاصة في مصر وفي شمالي أفريقيا، ولقد كانت مصر في نظر فرنسا هي الميدان الذي جاهد فيه لويس التاسع في حملته الصليبية، وجاء إليه أنبغ أبناء فرنسا من رجال الحرب بحملته المشهورة التي أيقظت مصر من سبات العصور الوسطى، ومصر هي البلاد التي احتلها الفرنسيون، وقاموا فيها بمشروعاتهم العظيمة، وأزاحوا الستار عن ماضيها المجيد، ومصر هي البلاد التي ساعدوا على نهضتها الحديثة في عهد محمد علي الكبير، وأبلى منهم بلاء حسنا رجال في خدمة ذلك المصلح الكبير، في تكوين جيشه وبناء أسطوله، وتدعيم التعليم في عهده.
وكانت سياسة لوي فيليب في الأربعينيات من القرن التاسع عشر عاملة بلا ريب على إحياء الدول الصغيرة في البحر المتوسط وربطها بفرنسا بحبال صداقة لا تنفصم، ففرنسا في ذلك الوقت ترى أن لها دالة على مصر وعلى ولاتها، ولها الحق أن تمتع بنفوذ متفوق في وادي النيل.
ولذا، فالبرغم من صلات الصداقة والود التي كانت تربط الدولة الفرنسية بإنجلترا في عهد لوي فيليب ونابليون الثالث، فلقد عملت الحكومة الفرنسية - بصفة غير رسمية - على مكافحة النفوذ الإنجليزي في كل مكان في البحر الأبيض المتوسط؛ في الدولة العثمانية، في شمال أفريقيا، وفي مصر بصفة خاصة .
وكيف تعمل فرنسا على نمو نفوذها في مصر؟ لا يكون ذلك باحتلال مصر، فبريطانيا واقفة لها بالمرصاد، ولن تسمح بذلك أبدا، بل هي على قدم الاستعداد للدخول في حرب ضروس مع فرنسا إذا حاولت هذه المحاولة الجريئة، ثم إن نابليون الثالث الذي كان يدير شئون فرنسا الداخلية والخارجية في ذلك الوقت كان أبعد الناس تفكيرا عن أن يقوم بأي عمل من شأنه إفساد علاقاته الطيبة بإنجلترا؛ فإنجلترا هي الدولة الكبرى التي رحبت بمقدمه، وهي التي اعترفت رسميا بحكمه، ونسيت تاريخ وعداوة عمه، ولم تثر عقبات في وجهه، وبعد ذلك فنابليون الثالث لا يرى أبدا الدخول في حرب مع صديقته الأخرى؛ الدولة العثمانية صاحبة السيادة على مصر، وخاصة بعد أن وقف في صفها وحارب بجانبها، وبعد أن أعلن إعلانا تمسكه بسياسة المحافظة على كيانها وسلامة ممتلاكتها.
अज्ञात पृष्ठ
ولكنه مع ذلك لم يكن لدى عاهل فرنسا الكبير مانع من أن يعمل الفرنسيون على زيادة نفوذ فرنسا في مصر بالطرق المشروعة، وذلك بالقيام بالأعمال والمشروعات العظيمة التي سترفع بلا ريب من مركز فرنسا في مصر والعالم.
ونابليون الثالث بعد ذلك رجل عواطف وخيالات، تملأ المشروعات ذهنه وتعترض كثير من الآمال الغامضة تفكيره، فهو تارة يفكر في إنشاء إمبراطورية عربية في شمال أفريقيا، وتارة تدور في خلده صور لسيطرة فرنسا على أهم الطرق العالمية التي تصل بين الشرق والغرب.
فلا عجب إذن إذا أولى مشروع دي لسبس عطفه وتمنى له النجاح، وبذل له كل تأييد سياسي ممكن، لا سيما وأن مشروع فردنند دي لسبس ليس مشروعا حكوميا أخذت الحكومة الفرنسية على عاتقها تنفيذه، وإنما هو مشروع فردي خاص، يقوم به أحد الأفراد الفرنسيين، له ولعائلته من قبل صلات وثيقة سياسية وشخصية بالشرق الأدنى ومصر، وقد أعلن نابليون الثالث مرارا في سنة 1856 أنه قد اهتم بالمشروع وبدراسته، وأكد مرة لدي لسبس: «إنك تستطيع أن تعتمد على تأييدي وحمايتي.»
والواقع إنه لم يكد سعيد باشا يمنح دي لسبس فرمان امتياز القناة حتى تقدم نابليون الثالث فمنح سعيد باشا نيشان اللجيون دونور.
وشارك نابليون الثالث في عطفه على مشروع دي لسبس الصحافة الفرنسية التي أيدت المشروع كمشروع قومي، وكذلك الهيئات العلمية وخاصة أكاديمية العلوم في باريس، وكان المشروع يجد كذلك كثيرا من العطف خارج فرنسا من الدولتين النمساوية والروسية، فقد كانتا تؤمنان بقيمة المشروع.
وأما الحكومة الإنجليزية فلقد كانت تفهم جيدا مرامي السياسة الفرنسية، وعملها على التفوق في الشرق الأدنى، بل وسعيها لتحويل البحر المتوسط إلى بحيرة فرنسية؛ ولذلك فالحكومة الإنجليزية تبذل جهودها لوقف ذلك النفوذ والعمل على تفوق النفوذ الإنجليزي، حقيقة لم تكن لإنجلترا سواحل مطلة على ذلك البحر، ولكن قوة إنجلترا وتفوقها البحري، وقواعدها الحصينة في جبل طارق ومالطة؛ وصلات الصداقة والتحالف التي كانت تربطها بالدولة العثمانية؛ كل ذلك جعل لها مركزا قويا بل وممتازا في ذلك البحر.
وإذا كانت فرنسا تعمل جاهدة على إنشاء دول صغيرة في البحر الأبيض المتوسط مدينة لفرنسا بوجودها واستقلالها؛ فلقد ناضلت إنجلترا بقوة هذه المحاولة ونجحت في ذلك نجاحا مذكورا، ظهر ذلك النضال في تأييد فرنسا لمحمد علي في حركته الاستقلالية التي كانت ترمي إلى الانفصال عن الدولة العثمانية في سنتي 1839، 1840، ووضع حد للسيادة التركية العتيقة البالية، وفي وقوف إنجلترا في طريقه وقضائها على آماله وآمال مصر في الاستقلال.
ولقد أخذ ممثلو إنجلترا في بلدان البحر المتوسط وقناصلها على عاتقهم تنفيذ هذه السياسة بحذافيرها، وغلوا في ذلك غلوا كبيرا، واشتدت حماستهم، وقام بينهم وبين زملائهم الفرنسيين تنافس شديد بل ونضال حمي أواره تنوسيت فيه في كثير من الأحيان آداب المجاملة الشخصية، ووصل الخصام بين الفريقين إلى حد أن قطعوا صلاتهم الشخصية، وكثرت تقاريرهم إلى حكوماتهم، وطالت، وامتلأت بالصور القاتمة والتهم الكثيرة، فيكتب القنصل الإنجليزي ريتشارد ود - وهو من القناصل الإنجليز الذين كافحوا بهمة ونشاط النفوذ الفرنسي مدة طويلة في الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، وأحد الذين أثاروا الشغب على محمد علي الكبير في الشام - يكتب مذكرة مطولة إلى حكومته بتاريخ 20 أغسطس سنة 1859، يرسم فيها صورة قائمة لمشاريع فرنسا في البحر المتوسط ، ففرنسا - في نظره - تبذل جهودا مضنية في سبيل فصل مصر وتونس عن الدولة العثمانية، لتضم تونس إلى ممتلكاتها الجزائرية، ولتحتل مصر في أول فرصة مناسبة.
وحين يصف ذلك القنصل مركز فرنسا وإنجلترا في البحر الأبيض المتوسط؛ لا يجد في سياسة فرنسا الخارجية سوى محاولة إلحاق الضرر بمصالح إنجلترا، ووجد أن فرنسا قد أصبح لها مركز قوي في ذلك البحر، وخاصة بعد احتلالها لإقليم الجزائر، وتركيزها لقوات بحرية وبرية كبيرة في شمال أفريقيا.
وهو يسطر في مذكرته المذكورة أن فرنسا إذا أرادت الإضرار بإنجلترا؛ فهي دائما تلتجئ إلى مهاجمة المصالح الإنجليزية في البحر المتوسط، وبين أن ما يرمي إليه الفرنسيون من بذل هذه الجهود؛ هو أن يضعوا إنجلترا في مركز لا تستغني فيه عن صداقة الفرنسيين إذا أرادت المحافظة على ممتلكاتها في الهند، وقال إن الفرنسيين يستخدمون في سبيل الوصول إلى بغيتهم كل الوسائل مشروعة كانت أو غير مشروعة.
अज्ञात पृष्ठ
فإنجلترا إذن تكافح في سبيل منع الفرنسيين من الحصول على امتياز من والي مصر خاص بشق القناة، وكلما ازدادت حماسة الفرنسيين في تعضيد مشروعهم ازدادت حماسة الإنجليز في معارضته، بل لقد وضعت إنجلترا مشروعا منافسا للمشروع الفرنسي، وهو مشروع إنشاء السكة الحديدية بين الإسكندرية والقاهرة والسويس، ونجحت في ذلك مع والي مصر عباس باشا الأول الذي لم ينس درس سنة 1840 وعرف مقدار ما تستطيعه القوة البحرية الإنجليزية، تيقن عباس باشا الأول من أن إنجلترا لديها العزم على تنفيذ سياستها في الوقت الذي هددت فيه فرنسا وأنذرت، ثم أخيرا تخاذلت عن نصرة مصر في أزمتها الشديدة سنة 1840، رأى والي مصر أن يجامل إنجلترا ويؤجل المشروع الفرنسي، غير آبه كثيرا لإنذار فرنسا له بالعمل لدى الباب العالي على عزله عن ولاية مصر.
أرسلت إنجلترا تعليمات إلى قنصلها العام في مصر بأن يقنع عباسا الأول بقيمة مشروع السكة الحديدية، وبأن مشروع القناة يكلف ما لا يطاق من الجهد والوقت والمال، فمال الوالي ناحية المشروع الإنجليزي وعمل على تنفيذه.
ولكن فردنند دي لسبس استطاع أن ينتهز فرصة تولي سعيد باشا فيسارع إلى مصر مذكرا الوالي الجديد بصلاتهما الوثيقة القديمة، ويجد من الوالي الجديد ترحيبا كبيرا، وينجح في إقناعه بقيمة المشروع الفرنسي في فتح القناة البحرية وتوصيل البحرين، ولا يدري أحد بالدقة ماذا دار بينهما من حديث، وماذا وضع دي لسبس أمام سعيد باشا من آمال، ولا ندري بالضبط ماذا كان يدور بخلد والي مصر من دوافع لمنح مثل ذلك الامتياز، وإن كان البعض يظن أن غرض الوالي كان العمل على اكتساب صداقة فرنسا وتأييدها لاستقلاله إذا ما تأزمت الأمور بينه وبين الباب العالي صاحب السيادة على مصر.
يوافق سعيد باشا على منح فردنند دي لسبس الامتياز الخاص بمشروع فتح القناة البحرية التي تتصل فيها مياه البحر الأحمر بالبحر المتوسط، ويتم ذلك في 30 نوفمبر سنة 1854.
ويسقط في يد إنجلترا، فلقد أخذ فردرك بروس ممثلها في مصر فجأة بتصميم سعيد باشا على منح ذلك الامتياز وتنفيذ ذلك المشروع ولم يفلح في تحويل الوالي عن رأيه؛ حتى بعد أن أعلن منذرا بأن الحكومة الإنجليزية لا تستطيع أن توافق على ذلك المشروع؛ فهو في نظرها مشروع خيالي وغير عملي، ولم يحن الوقت ولا الظروف الملائمة لمحاولة تنفيذه، وأن خيرا منه هو إتمام مشروع الطريق البرية الحديدي من القاهرة إلى السويس.
على أن الحكومة الإنجليزية لم تجد في ذلك الوقت أن تقدم إنذارا رسميا للوالي ضد تنفيذ ذلك المشروع، فالعلاقات بينها وبين الحكومة الفرنسية كانت بصفة عامة جيدة، وتقديم مثل ذلك الإنذار معناه أن الحكومة الإنجليزية تحارب رسميا مصالح الفرنسيين ومشاريعهم، فالحكومة الإنجليزية لم تتخذ مثل هذه الخطوة، ولم ترد الذهاب إلى ذلك الحد.
ثم إن منح سعيد باشا للامتياز ليس بذي أهمية كبيرة؛ إلا إذا وافقت عليه الدولة صاحبة السيادة على مصر، فعلى الحكومة الإنجليزية إذا أرادت عرقلة المشروع أن تبذل مساعيها لدى الباب العالي، فهو صاحب السلطة الرسمية في مصر، وأن تنصحه بعدم الموافقة على الامتياز أو على الأقل بتأجيل النظر فيه.
وكان سفير الحكومة الإنجليزية لدى البلاط العثماني ستراتفورد دي ردكليف - وكان يتمتع في الأستانة بنفوذ لا نظير له - كان يرى أن على إنجلترا أن تبين للباب العالي خطر المشروع الفرنسي على الدولة العثمانية، فما تريده فرنسا من وراء ذلك المشروع هو فصل مصر عن الدولة العثمانية بممر مائي يصلح لأن يكون خطا دفاعيا حربيا، وإنشاء مستعمرة فرنسية في شرقي مصر، ثم السيطرة على كل مصر بعد ذلك؛ ولذا فخير للباب العالي ألا يصدق على الامتياز، ولم تقتصر محاولات ستراتفورد على ذلك، بل طلب تعليمات رسمية من حكومته تؤيد موقفه؛ ولذا وجد لورد كلارندن، وزير الخارجية البريطانية، ضرورة الاتصال بسفير الحكومة الفرنسية في لندن ليبين له وجهة نظر الحكومة البريطانية في مشروع القناة، فهذه الوجهة تتلخص فيما يلي: (1)
نظرا لأن تنفيذ المشروع يستلزم نفقات كثيرة، فالغرض الواضح منه سياسي. (2)
والمشروع يؤخر إتمام مشروع السكة الحديدية من الإسكندرية إلى السويس. (3)
अज्ञात पृष्ठ
المشروع وليد سياسة عدائية بالنسبة لمصر من ناحية فرنسا.
ولم تجد محاولات فردنند دي لسبس في الاتصال بستراتفورد، وإقناعه بأهمية المشروع وعدم تعارضه مع المصالح الإمبراطورية الإنجليزية، وأن المسألة مسألة مصرية تركية قبل كل شيء، لا داعي فيها للتدخل الحكومي الإنجليزي أو الفرنسي.
ولقد نجح ستراتفورد دي ردكليف في نصحه للباب العالي، مما عقد الأمور لدي لسبس، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أرسل الباب العالي نتيجة لمساعي إنجلترا خطابا شديد اللهجة إلى سعيد باشا في مصر يحذره فيها عواقب عمله الجريء.
ومع ذلك فقد قدر للمشروع الفرنسي البقاء نظرا لتدخل الدولة النمساوية في صالح دي لسبس، فلقد كانت تعضد المشروع الفرنسي تعضيدا كبيرا.
ولقد اصطدمت المصالح الإنجليزية والفرنسية في هذا المشروع وهاجت بينهما الإحن القديمة إلى حد أن وجدت الحكومتان الإنجليزية والفرنسية ضرورة المحافظة على تحالفهما وعلاقاتهما الطيبة، فاتفقتا فيما بينهما على أن تمتنعا عن التدخل الفعلي لا بتعضيد المشروع ولا بالعمل على فشله، ولكن هذا الاتفاق لم يمنع الحكومة البريطانية من أن تتابع خطتها في بث العقبات والعراقيل أمام المشروع الفرنسي، وهذا الموقف اضطر صاحب المشروع للقيام بالدعاية للمشروع في إنجلترا ذاتها.
وكان على رأس الوزارة في إنجلترا في ذلك الوقت لورد بامرستون، وهو يمثل الرجل الإنجليزي والسياسي الإنجليزي أصدق تمثيل، فهو مؤمن بتفوق إنجلترا، ويعمل لعظمتها وخدمة مصالحها قبل كل شيء، ويرى أنه من الواجب على الدول الأخرى أن تستمع لآراء إنجلترا بما لها من مركز ممتاز في العالم، وهو لا يتقيد كثيرا بالخيالات ولا تؤثر فيه النواحي العاطفية إذا ما تعارضت مع مصالح إنجلترا الحقيقية، وهو ملم تماما بأمور السياسة الخارجية لا تفوته صغيرة ولا كبيرة من أمورها.
وهو من أكبر دعاة الإمبراطورية، ومن القائلين بضرورة حماية مواصلاتها وطرق تجارتها، وهو الذي وضع سياسة إنجلترا التقليدية في الشرق الأدنى، فليس إذن غريبا أن يعارض هذا الرجل كل مشروع فرنسي، فهو لا يوافق على مشروع القناة؛ لأنه يرى أن المشروع يتعارض مع مصالح إنجلترا الإمبراطورية، وهو لا يثق كثيرا في استقرار الأمور السياسية في فرنسا، وخاصة ما يتعلق منها بنظام الحكم، ويرى أن إنجلترا يجب أن تتمسك بطريق الأطلنطي لأنها تستطيع الإشراف عليه، وهي مشرفة عليه بالفعل.
فهو يعترف بأن حكومة نابليون الثالث صديقة لإنجلترا، ولكنه لا يستطيع أن يضمن أن الحكومة التي تخلفها في المستقبل ستحافظ على ولاء إنجلترا، فقد تستغل هذه الطريق الجديدة لمناوأة النفوذ البريطاني ومحاربة المصالح الإنجليزية فيما وراء البحار.
ولذلك حين حاول دي لسبس الاتصال به لم يجد منه أذنا صاغية، فلقد بين بامرستون لصاحب المشروع بصراحة ووضوح، شأنه في كل تصريحاته السياسية، بأنه لا يوافق على ذلك المشروع فهو غير عملي ولا يمكن تنفيذه.
على أن موقف الحكومة الإنجليزية العدائي لم يدع دي لسبس إلى القنوط أو إلى التنازل عن فكرته؛ ولذا فهو يحاول الاتصال بالزعماء الإنجليز الآخرين من أمثال كوبدن، وجلادستون، وحاول كذلك الاتصال بالرأي العام الإنجليزي، يقنعه بقيمة المشروع من الناحية العملية ومن الناحيتين الحضارية والإنسانية، أرسل خطابات إلى أعضاء البرلمان الإنجليزي، وإلى إدارة شركة الهند الشرقية، وأصحاب السفن، وأعضاء الغرف التجارية، وكبار رجال الصناعة وأصحاب المصارف ، يحاول أن يقنعهم بفائدة المشروع من الناحية العملية والمالية، ولم تذهب كل مساعي دي لسبس دون جدوى، فلقد أظهرت شركة الهند الشرقية عطفها على مشروعه، وكذلك بعض شركات خطوط الملاحة لا سيما شركة ال
अज्ञात पृष्ठ
O. .
والواقع أن الرأي العام البريطاني لم يكن مجمعا على معارضة المشروع، كما كانت الحكومة الإنجليزية معارضة له، فلقد كان جانب منه محبذا للناحية التجارية للمشروع، وهذا شجع دي لسبس على أن يسير قدما في مشروعه وفي طريقه، وأن يبين للرأي العام الإنجليزي أن المشروع ممكن تنفيذه من الناحية العملية، فأعلن أن تقارير المهندسين الفرنسيين من أمثال لينان بك وموجل بك قد أثبتت بطريقة لا تقبل الشك أن المشروع من الناحية الهندسية عملي وممكن تنفيذه.
ولم يقتصر دي لسبس على ذلك، فهو رجل جم النشاط ممتلئ بمشروعه، موقن بقيمته، كبير الأمل في تحقيقه، كون دي لسبس لجنة دولية ضم إليها عددا من كبار المهندسين الإنجليز أنفسهم لفحص المشروع ودراسته والتقرير عن إمكان تنفيذه.
ولقد بدأت اللجنة الدولية عملها في سنة 1855، وانتهت من وضع التقرير في يناير سنة 1856، ولو أنه لم ينشر إلا بعد ذلك، وفي ذلك التقرير أيدت اللجنة الدولية إنشاء القناة البحرية التي تصل ما بين البحرين، وبينت أن التنفيذ ليس صعبا كما يتصور المعارضون، وأن النجاح في إنجاز المشروع ممكن.
وعلى أساس هذا التقرير الجديد، حاول دي لسبس في يوليو سنة 1857 الإجابة على اعتراضات بامرستون، وبين أن هذه الاعتراضات قائمة على أسس تجارية وفنية وسياسية، فمن الناحية التجارية قيمة المشروع لا تقدر لإنجلترا، لا يحتاج ذلك إلى بيان، فطريق القناة - إذا تمت - أقرب الطرق إلى الشرق وفي هذا توفير للوقت والمال والجهد، وأما من الناحية العملية فهذا تقرير اللجنة الدولية التي تجمع بين أعضائها عددا من كبار المهندسين الإنجليز يقول بأن المشروع عملي وممكن تنفيذه، وقد أيدت هذا التقرير أكاديمية العلوم في باريس والمعهد الإمبراطوري الفرنسي، وأما من الناحية السياسية فآراء لورد بامرستون قائمة على أساس أخطار وهمية على الهند والإمبراطورية العثمانية، ولا خطر على الدولة الإنجليزية من مشروع القناة طالما يملك الإنجليز جبل طارق ومالطة وعدن وجزيرة پريم، أما الدولة العثمانية فمركزها مضمون بالمعاهدات والمواثيق الدولية، بل إن فتح القناة سيجعل مصر بمنأى عن أطماع الدول الأوربية إذ سيجعل لها مركزا محايدا، وفي هذا كما يرى دي لسبس تأييد لسياسة الإنجليز التقليدية في المحافظة على سلامة الدولة العثمانية.
كان دي لسبس يرى أن لهجة بامرستون متناقضة وغير منطقية وغير معقولة، فلا داعي في نظر دي لسبس لأن يعتقد بامرستون أن سياسة فرنسا مريبة، وأن فرنسا هي التي شجعت محمد علي على مناوأة إنجلترا، وأن ذهب لوي فيليب ملك فرنسا هو الذي أنشأ قلاع الإسكندرية وأن مشروع القناة يرمي إلى مناوأة إنجلترا.
وعلى أي حال فلقد نال دي لسبس على أساس تقرير اللجنة الدولية من سعيد باشا امتيازا جديدا خاصا بالقناة روعى فيه مقابلة بعض مخاوف إنجلترا، فلقد نص فيه على حياد القناة، وأن معظم من سيقومون بالتنفيذ مصريون لا فرنسيون، كما نص فيه أيضا على ضرورة موافقة الباب العالي، ولقد كان تكوين هذه اللجنة الدولية، والنتيجة التي وصلت إليها، من العوامل التي زادت ثقة دي لسبس في مشروعه، وضمت جانبا كبيرا من الرأي العام الإنجليزي والعالمي إلى صفه في مشروعه الجريء.
على أن الحكومة الإنجليزية استمرت في معارضتها للمشروع، وبررت ذلك الموقف بتعارض المشروع مع سياسة إنجلترا التقليدية إزاء الدولة العثمانية، وأنه سيوجد فاصلا مائيا بين مصر وتركيا، وردد بامرستون هذا الرأي بصراحة تامة في مجلس العموم البريطاني في شهر يولية سنة 1857، فلما ثار موضوع القناة في مجلس العموم البريطاني في يونية سنة 1858، أعلن بامرستون أن تنفيذ المشروع سيعمل على انحلال الإمبراطوريتين العثمانية والبريطانية، وأن السكة الحديدية بين القاهرة والإسكندرية تكفي لخدمة مصالح لإنجلترا أكثر بكثير من حفر القناة، وأبان جلادستون في الجلسة نفسها عن ضعف هذه الفكرة، وذكر أن القناة مجرى مائي، وإذا قدر لها أن تقع في يد أية دولة، فستقع في يد أقوى الدول البحرية وهي إنجلترا، وطلب من الأعضاء أن ينظروا إلى مشروع القناة لا كمشروع سياسي ولكن كمشروع تجاري قبل كل شيء، ولكن آراء جلادستون وإن تركت أثرا في الرأي العام البريطاني إلا أنها لم تحول الحكومة البريطانية عن رأيها.
فلقد عبر لورد كلارندون وزير الخارجية إذ ذاك عن رأي الحكومة البريطانية في ضرورة الوقوف أمام المشروع، بل وأنذر الباب العالي بأنه إذا صدق على الامتياز الممنوح لدي لسبس، فيجب ألا ينتظر أن تستمر بريطانيا أو غيرها من الدول الكبرى الأوربية في سياسة المحافظة على الدولة العثمانية وعلى سلامتها، ولم تجد محاولات الإمبراطور نابليون الثالث لإقناع الحكومة البريطانية بالكف عن معارضتها.
ولم يمنع هذا دي لسبس من المضي في تنفيذ مشروعه، فلو استطاع جمع المال اللازم لتنفيذ المشروع، لهدم هذا حجة قوية من حجج الحكومة الإنجليزية بأن المشروع غير عملي، وأنه لن يقبل على المساهمة فيه أحد؛ ولذا لما فتح دي لسبس باب الاكتتاب في المشروع تهافت عليه الناس في أوروبا، فكان نجاح الاكتتاب من عناصر تقوية المشروع وتأييده، وإن كان الإنجليز لم يكتتبوا في الأسهم التي كانت مخصصة لهم.
अज्ञात पृष्ठ
ولكن ما تطلبه تنفيذ المشروع من نفقات باهظة وما لاقاه من صعوبات في أول الأمر كاد يودي بكل المشروع، لولا العطف والتأييد الذي لاقاه من إمبراطور الفرنسيين ومن الحكومة الفرنسية والرأي العام الفرنسي.
إذ إنه في سنة 1860 بعد أن تابعت شركة القناة أعمال الحفر، كتبت الصحف الإنجليزية مثل «الديلي نيوز» و«التيمز» تسخر من المشروع، وتبين أن من السهل حفر حفر في الصحراء وجمع أكوام من التراب الذي تذروه الرياح، فيغطى الحفر من جديد، وأبانت عن أن المشروع فاشل لا محالة وسيكلف كثيرا من النفقات التي لا تستطيع القيام بها شركة خاصة، وردد هذا القول في البرلمان الإنجليزي، فقال بامرستون: إن المشروع مجرد جعجعة وخداع، وإنه سيكلف من الوقت والمال والعمل ما لا تستطيعه شركة القناة، وذكر في خلال كلامه أن والي مصر قد اضطر إلى الاقتراض من مصرف في مارسيليا للوفاء ببعض التزاماته إزاء شركة القناة.
وفي السنة التالية في مايو ثارت في البرلمان الإنجليزي المعارضة شديدة ضد المشروع الفرنسي، وتكرر نفس الطعن السابق، فالمشروع في نظر بعض الأعضاء غير عملي من الناحية التجارية، فهو كثير النفقات كبير الخسارة على المساهمين، وفوق كل ذلك فهو يعطي الشركة الفرنسية أراضي شاسعة في قلب مصر حول القناة، وأن الحكومة الفرنسية قد تستطيع استخدام هذه الأراضي لمصلحتها الخاصة والاستفادة من مركز المنطقة الاستراتيجي، وذكر بعض الأعضاء أن المشروع في نظر فرنسا له قيمته الاستراتيجية، وأنه لا يمكن اعتبار شركة القناة شركة خاصة، فهي شركة تتكلم باسم الشعب الفرنسي وتدعي أنها تمثل الحكومة الفرنسية وتطلب تأييدها في كل حين، وأشير إلى زيادة عدد الرعايا الفرنسيين في مصر، وطلب إلى الحكومة الإنجليزية أن تستوضح من الحكومة الفرنسية موقفها إزاء هذا المشروع.
وأجاب ممثل الحكومة البريطانية في البرلمان بأن سياسة بريطانيا لم تتغير، فهي تراقب الموقف بدقة متناهية، وهي لا تعترض على المشروع كمشروع تجاري ولكنها تنظر إليه بالنسبة لتركيا وإزاء مركز مصر السياسي، ونادى بعض الأعضاء بأنه يكفي إنجلترا المحافظة على بوسفور واحد، وأنه لا معنى لمشروع يضع إنجلترا بين يدي فرنسا؛ لأنه إذا نفذ المشروع؛ فعندئذ تستطيع فرنسا إرسال أساطيلها بسرعة، وقطع المواصلات بين إنجلترا والهند؛ ولذا فلا مناص لإنجلترا من معارضة المشروع.
ولجأت إنجلترا إلى عرقلة المشروع في دور التنفيذ من ناحية أخرى، فأثارت مسألة تسخير الفلاحين في أعمال الحفر، فهاجمت الصحف الإنجليزية تسخير الفلاحين على أساس أنه ليس إلا صورة من صور الرق، ووصفت ما يلاقيه هؤلاء العمال من عذاب وقسوة، مثلهم في ذلك مثل الرقيق في الولايات الجنوبية للولايات المتحدة.
ولقد أثير مرارا موضوع السخرة في البرلمان الإنجليزي، وطالب بعض النواب الحكومة الإنجليزية بأن تعمل ما في وسعها للتخفيف من آلام وشقاء هؤلاء البؤساء.
على أن محاولة الإنجليز عرقلة المشروع من هذه الناحية لم تنجح كثيرا، فلقد أسرع دي لسبس في تنفيذ مشروعه ليضع الحكومتين العثمانية والإنجليزية أمام أمر واقع، والتنفيذ من شأنه أن يقنع الحكومة الفرنسية بضرورة تأييد المشروع وحماية أموال المساهمين الفرنسيين، وفي 18 أكتوبر سنة 1862 وصلت مياه البحر الأبيض المتوسط إلى بحيرة التمساح، فالنجاح الذي أحرزه أعظم أبناء فرنسا من المغامرين في منطقة صحراوية، كان لها أثره المشهود على الرأي العام الأوربي والإنجليزي.
ولم يحول هذا الحكومة البريطانية عن رأيها وعن عدائها للمشروع ولتنفيذه، فعادت إلى الاحتجاج الشديد على شروط الامتياز، فهي شروط كما بينت مجحفة بحقوق السلطان وحقوق واليه على مصر، وأقنعت الباب العالي بضرورة إرجاء موافقته إلى أن تنتهي الشركة من تسخير الفلاحين المصريين.
ولقد كان الفلاحون المصريون يجمعون جمعا، ويساق بهم إلى أماكن الحفر كالأنعام أو كالرقيق الذليل، وذلك في أعداد كبيرة قد تصل إلى عشرين ألفا طوال أيام السنة تقريبا، وهناك يسامون الخسف فلا يعنى بصحتهم ولا بمعاملتهم كآدميين لهم حقوق الإنسان العادي، وكانت «المتاعب والآلام لا تقتصر على هؤلاء العمال وحدهم، بل كذلك على زوجاتهم وأطفالهم الذين كانوا يتركون بغير عائل، وكثيرا ما كانت الشركة تتوقف عن دفع أجورهم الزهيدة التي لا تسمن ولا تغني من جوع.» هذا ما قاله خصوم الفرنسيين في مجلس النواب البريطاني، والواقع أن العمال كان يجمعون من كل أجزاء مصر، ويسيرون المسافات الطويلة حتى يصلوا إلى مناطق الحفر، ثم يقطعون المسافات الطويلة إلى القاهرة لصرف الصكوك المعطاة لهم، ويقاسون الأمرين في سبيل ذلك. •••
ولم يؤثر موت سعيد باشا تأثيرا كبيرا في تصميم الشركة على إنجاز المشروع، وإن كانت الشركة قد فقدت فيه عونا كبيرا، ولكن إسماعيل باشا كان لحسن حظ الشركة، مؤيدا من ناحية المبدأ للمشروع، فهو يرى أن المشروع إذا تم إنجازه فسيجعل لمصر مركزا ممتازا في العالم، وسيجعل لاسم حاكم مصر دويا لم يكن له من قبل.
अज्ञात पृष्ठ
ولكن إسماعيل باشا لم يكن يرضى عن كل شروط الامتياز، وخاصة ما كان متصلا منها بالسخرة، فلم يكن ليرضى عن تسخير الفلاحيين المصريين، ورأى مقدار الخسارة التي تحل بمصر والزراعة من جراء ذلك، إذ مصر في ذلك الوقت بلد زراعي قبل كل شيء، فضلا عن أن تسخير الفلاحين المصريين بهذا الشكل يتنافى مع أبسط مبادئ الإنسانية.
واستغلت إنجلترا هذا الموقف الجديد لصالحها، فما كانت الحكومة الإنجليزية ترى أن تترك مسألة تسخير الفلاحين المصريين تمر بسهولة لصالح الشركة، فلقد أرادت انتهاز هذه الفرصة لإرهاق الشركة وعرقلة المشروع، إن لم يكن القضاء المبرم عليه.
لقد استغلت الحكومة الإنجليزية الحركة الإنسانية التي شملت إنجلترا كما شملت غيرها من الدول، لخدمة مصالحها الخاصة في مصر، لبث العراقيل أمام المشروع الفرنسي، فاستمرت الصحافة والرأي العام الإنجليزي في مهاجمة الفرنسيين لاسترقاق الشركة للفلاحين المصريين، ورأت الحكومة الإنجليزية في هذه الحركة وسيلة لحرمان الشركة من الأيدي العاملة التي تعتمد عليها، وأجاب فردنند دي لسبس على ذلك بأن المسألة كلها مفتعلة وليس فيها إخلاص، فلقد نسيت إنجلترا أن السخرة قد استخدمت في إنشاء الخط الحديدي من الإسكندرية إلى القاهرة، فعلى أي أساس تحتج الحكومة الإنجليزية الآن؟!
ولقد تابعت الحكومة الإنجليزية السير في خطتها، فزار السفير الإنجليزي في استامبول، سير هنري بولور، مصر في أواخر عهد سعيد باشا ليطلع بنفسه على أمور الحفر في القناة، وقبل كل شيء، ليرى ما إذا كانت الشركة الفرنسية تقيم تحصينات في منطقة القناة، وليعرف إلى أي حد يسخر الفلاحون المصريون في شق القناة، وربما بالغ سير هنري بولور في وصفه لبعض الأمور في منطقة القناة، وأبدى خشيته من أن تتحول المدن التي تنشأ في منطقة القناة إلى مدن ومستعمرات فرنسية، كما كشف عن تخوفه من إشراف الفرنسيين على هذه المنطقة.
وأشار في غير مبالغة إلى كثرة عدد الفلاحين الذين ينزعون من حقولهم قسرا، وينقلون في بعض الأحيان، وهم عشرات الألوف، إلى حيث يسخرون، ووصف سير هنري بولور قلة أجورهم، وسوء حالهم والبؤس الذي يعانون، والآلام التي يقاسونها، وكانت لآراء سير هنري بولور تأثير كبير على حكومة الباب العالي التي أسرعت من جانبها إلى مطالبة الحكومة المصرية بإلغاء السخرة.
وكذلك اتصلت الحكومة الإنجليزية بإسماعيل باشا نفسه، وبينت له الأضرار البليغة الناشئة عن تسخير الفلاحين، وأثر ذلك في الزراعة المصرية التي حرمت من جانب كبير من الأيدي العاملة التي تشتغل فيها؛ ولذا فإسماعيل باشا، وإن كان مؤيدا لإنجاز المشروع، إلا أنه كان يرى إلغاء الشروط التي لم تراع فيها حقوق مصر، فهو إذن يرمي إلى إلغاء السخرة في حفر القناة تؤيده إنجلترا في ذلك، وثانيا: هو يرى إلغاء امتلاك الشركة للأراضي الكبيرة التي أخذتها في منطقة القناة، فامتياز الأراضي يخول الشركة وضع جاليات أجنبية فيها لاستغلالها، وهذه الجاليات لها أن تتمتع بنفس الامتيازات التي يتمتع بها الأجانب في مصر، وكانت إنجلترا تؤيده في هذه الناحية لأنها تخشى أن تغدو هذه الأراضي مستعمرات فرنسية في منطقة القناة.
ولذا كان إسماعيل باشا يرمي من وراء إلغاء هذين الشرطين في الامتياز إلى مصلحة قومية، إلى رد اعتبار المصريين، ومعالجة نقص الأيدي العاملة في الزراعة، في فرصة لا بد من انتهازها، ولا سيما بعد قيام الحرب الأهلية الأمريكية، وزيادة الحاجة إلى القطن المصري الذي ارتفعت أسعاره ارتفاعا كبيرا، ثم إن إسماعيل باشا يطمح كذلك إلى إنشاء إمبراطورية كإمبراطورية جده العظيم، والجيش الذي يعتمد على الفلاحين هو أداتها الأولى، وإسماعيل باشا بعد ذلك قد أعلن صوته إلى جانب الحركة الإنسانية التي ترمي إلى إلغاء الرقيق، فكان عليه أن يقوم بمحاولة حاسمة لإلغاء تسخير الفلاحين في حفر القناة.
وأما إنجلترا فهي تهدف إلى منع الفرنسيين من إنشاء مستعمرات فرنسية لهم في مصر، وهي تريد في نفس الوقت توفير العدد اللازم من الفلاحين للاهتمام بزراعة القطن التي كانت مصانع إنجلترا في أشد الحاجة إليه نظرا لقيام الحرب الأهلية الأمريكية، لقد ربط الإنجليز بين مشروع القناة والرق. وحاولوا الخفض من شأن مشروع القناة لاتصاله بمسألة تسخير الفلاحين، وأفلحوا في إحداث كثير من القلق والاضطراب في دوائر شركة القناة.
وسرت إنجلترا للجفاء الذي ساء علاقة إسماعيل باشا بالقنصل الفرنسي العام دي بوفال، فذلك القنصل قد بذل كل جهد مستطاع في تأييد دي لسبس في كل ما قام به، وفي كل مطالبه من الحكومة المصرية بشأن القناة، ولم تحزن الحكومة البريطانية كثيرا لسحب الحكومة الفرنسية له من مصر، وكانت إنجلترا تبني كثيرا من الآمال على موقف إسماعيل بإزاء امتياز القناة، وترى في مطالب إسماعيل باشا بإلغاء السخرة وإرجاع ملكية الأراضي لمصر مسألة قد تؤدي إلى فشل المشروع الفرنسي وعدم إنجازه.
ولقد اعتقدت شركة القناة في وقت ما أن تفكير إسماعيل باشا الجدي في إلغاء السخرة وتأييد إنجلترا له ضربة قد تذهب بالمشروع كله، واضطربت لذلك دوائرها، وأخذت تفكر في تعديل سياستها إزاء العمال المصريين، ولقد وجدت الصحافة الإنجليزية في موقف إسماعيل باشا تأييدا لتشديد مهاجمتها لمشروع القناة، وفعلا انخفضت أثمان أسهم القناة، وساد الذعر بين المساهمين.
अज्ञात पृष्ठ
على أن دي لسبس لم يفقد الأمل في نجاح مشروعه، فهو يلتجئ إلى نابليون الثالث لحماية المشروع الفرنسي.
واضطر إسماعيل باشا إلى أن يلتجئ إلى الباب العالي يطلب تأييده أمام فرنسا، فهو يخشى بطبيعة الحال غضب الحكومة الفرنسية، والتجأ الباب العالي من جانبه إلى إنجلترا، فأبدى سفير إنجلترا في استامبول رأيه في أن الامتياز الممنوح لا قيمة له طالما لم يوافق الباب العالي عليه، ولكن الحكومة العثمانية لم تكن تجرؤ على اتخاذ مثل هذه الخطوة وتلغي الامتياز، وخاصة بعد أن سار المشروع الفرنسي في دور التنفيذ مدة أربع سنوات، فالحكومة الفرنسية لا بد وأن تحتضن المشروع حتى تحافظ على مصالح وأموال رعاياها.
وانتهز السفير البريطاني فرصة وجود إسماعيل باشا في العاصمة التركية سنة 1863 ليحضه هو وحكومة الباب العالي على الصمود أمام فرنسا، فإنجلترا لن تقوم بتأييد الاثنين إلا إذا حافظا على مصالحهما واستقلالهما، وبين للفريقين أنه لا مناص من وضع حد لتسخير الفلاحين المصريين، ولا بد من أن تدفع الشركة أجورا معقولة لهم، ونبه إلى أن عقد الامتياز لا يصبح ملزما إلا إذا وافقت على كل شروطه الحكومة العثمانية، فهي إذن تستطيع تعديل الشروط التي تراها منافية لمصلحتها ولمصلحة مصر، وليس للحكومة الفرنسية إذن حق الاحتجاج، وأن على الدولة العثمانية اتخاذ كل التدابير لحماية مصالحها لا تخشى في ذلك لومة لائم، وأن تبلغ قراراتها للدول الكبرى، وقد ذكر السير هنري بلور الحكومة العثمانية أن الحكومة الإنجليزية لن ترضيها أن ترى سيادة الباب العالي وحكومة الوالي في مصر ستارا لنفوذ دولة أجنبية، وكان الهدف الذي ترنو إليه الحكومة الإنجليزية من كل هذا هو أن توقع شركة القناة في أزمة مالية كبيرة وأن تقضي على الثقة فيها.
ولكن آمال إنجلترا في القضاء على المشروع انهارت حين علمت أن إسماعيل باشا حين رجع إلى مصر وصل إلى اتفاق مع شركة القناة، فهذا الاتفاق مع الشركة فيه اعتراف ضمني بمركزها وبقيمة المشروع، فلقد أخذت الحكومة المصرية على عاتقها حفر الترعة العذبة من القاهرة إلى وادي الطميلات في مقابل تنازل الشركة عن حقوقها في الأراضي الواقعة على جانبي الترعة، واتفق إسماعيل باشا أيضا مع الشركة على تقصير المدد التي تدفع فيها الحكومة المصرية الأقساط المستحقة من ثمن الأسهم.
ثارت ثائرة إنجلترا لذلك، ووبخت الحكومة البريطانية قنصلها العام، وبذلت جهدها لإلغاء الاتفاقية، وأرسلت إلى إسماعيل تنذره بأن دي لسبس ينتقص من سلطة الوالي، وأن الخطر لا شك محدق بمركزه إذا استمر في هذه الخطوة واستمع للفرنسيين، ولكن إسماعيل باشا وجه لهذا الإنذار أذنا صماء.
وحين أراد السلطان عبد العزيز زيارة مصر، عارضت إنجلترا في هذه الزياة خوفا من أن تحاول الشركة الاتصال به في مصر والتأثير عليه، واهتمت إنجلترا بمراقبة المشرفين على أمور الشركة في مصر، ومعرفة مدى اتصالهم بحاشية السلطان، ولهذا الغرض أرسل السفير البريطاني في استامبول سكرتيره إلى مصر.
وكان المشرفون على الشركة في مصر من جانبهم يتوقون لزيارة السلطان العثماني منطقة القناة، فلقد كانت خطة الشركة في مثل هذه الظروف دعوة العظماء وأولي الأمر لرؤية المشروع وهو في دور التنفيذ وزيارة مناطق الحفر، وكانت ترى في ذلك دعاية لها وتقوية لمركزها في مصر والخارج.
ولقد حاول دي لسبس الاتصال فعلا بحاشية السلطان، ولكن إنجلترا ارتاحت تماما لعدم زيارة السلطان مناطق الحفر، وكانت قد طلبت منه بالفعل عدم زيارة هذه المناطق، ولقد انقاد السلطان لمشورة إنجلترا، ولم يكتف بذلك، بل بعث بمذكرة سياسية إلى كل من الحكومتين الإنجليزية والفرنسية يبين فيه وجهة نظره فيما يختص بضرورة تعديل شروط الامتياز فيما يتعلق بالسخرة واسترداد الأراضي حول القناة من الشركة، وكما كانت الحكومة الإنجليزية تراقب الحالة بدقة عن كثب، كانت الحكومة الفرنسية متنبهة للموقف، فهي تحذر إسماعيل باشا عواقب القيام بعمل يمس مشروع القناة قبل أن يحيطها علما بذلك، وكان القنصل الفرنسي العام في مصر من ناحيته متيقظا كل التيقظ يخابر حكومته في كل الأمور المتصلة بمشروع القناة، وما تقوم به الحكومة المصرية أو قنصل إنجلترا في مصر من خطوات قد تؤثر في مستقبل ذلك المشروع.
ولقد استمر النزاع قائما بين إسماعيل باشا وشركة قناة السويس إلى أن قبل إسماعيل باشا تحكيم الإمبراطور نابليون الثالث، ففض ذلك النزاع، وذلك بأن أجيب والي مصر إلى تعديل الشرطين الخاصين بتسخير الفلاحين المصريين وبامتلاك شركة القناة للأراضي سالفة الذكر، نظير دفع إسماعيل باشا تعويضا للشركة يبلغ ثلاثة ملايين من الجنيهات تدفع على خمسة عشر عاما، وبذا رجع إلى حوزة مصر 180 ألف فدان وبقي للشركة 30 ألفا.
ولم تستطع إنجلترا أن تعارض في تحكيم إمبراطور الفرنسيين ولا في الحكم الذي أصدره، وبذا زاد مركز شركة القناة قوة، وزادت الثقة بها، وتمكنت من أن تسير في تنفيذ مشروعها حتى استطاعت أخيرا إنجازه.
अज्ञात पृष्ठ
وبعد أن تم الاتفاق بين إسماعيل باشا والشركة، لم يجد الباب العالي - وخاصة بعد أن أصلح إسماعيل باشا علاقته به - بدا من الموافقة على الامتياز الممنوح لشركة قناة السويس، فأصبح مركزها بذلك قانوينا، ولم تعد إنجلترا بمستطيعة مهاجمة المشروع من هذه الناحية؛ وقوي مركز الشركة نتيجة لذلك، ووضع حد نهائي لمحاولة إنجلترا عرقلة المشروع.
ولولا تأييد كل من فرنسا والنمسا للمشروع، ولولا صبر فردنند دي لسبس ومثابرته، ولولا عطف إسماعيل باشا على المشروع، لنجحت محاولات إنجلترا في القضاء نهائيا على المشروع.
وافتتحت القناة في سنة 1869، وهنأ وزير الخارجية الإنجليزية لورد كلارندن دي لسبس، كما هنأ الشعب الفرنسي والحكومة الفرنسية، ومنحت الحكومة الإنجليزية دي لسبس النياشين، واستقبل في لندن استقبالا مشهودا.
الفصل الثالث
ديزريلي وقناة السويس
شراء إنجلترا لأسهم الخديو في القناة سنة 1875
ولما تم وصل البحرين الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، أصبحت قناة السويس التي توصل بينهما من أهم المجاري المائية البحرية في العالم، ولو أنها فصلت بين قارتين، آسيا وأفريقية، إلا أنها ربطت بين الشرق والغرب، وأحكمت الصلة بينهما، وأصبحت أقصر وأقرب طريق بين الدول الأوربية الإمبراطورية ومستعمراتها الشرقية.
وقدرت إنجلترا حق القدر قيمة مشروع القناة بالنسبة لها ولإمبراطوريتها وتجارتها وحياتها كأكبر دولة بحرية استعمارية ظهرت في العالم، فلقد قيض لها رجل من أنبغ أبناء فرنسا، جاهد طوال حياته ليخدم بطريقة غير مباشرة مصالحها المادية.
وتمتاز هذه الطريق الجديدة بأن بريطانيا تستطيع ببحريتها المتفوقة حماية تجارتها وسفنها، ومن الوقت الذي افتتحت فيه هذه الطريق أصبحت إلى حد كبير تحت رحمة القوة البحرية، تحت رحمة قوة بريطانيا البحرية، وخاصة بعد الكارثة السياسية والحربية الكبرى التي حلت بفرنسا في الحرب الفرنسية الألمانية سنة 1870.
وستصبح إنجلترا أولى الدول في المرور في القناة الجديدة، ولم تعد أهمية القناة في نظرها قاصرة على وقت السلم، بل كذلك في وقت الحرب، إذ أصبحت القناة الطريق الرئيسية لمرور السفن والقوات والمعدات الحربية البريطانية إلى شرقي أفريقية والشرقين الأوسط والأقصى وأستراليا ونيوزيلند. أصبحت القناة الطريق الرئيسية لمد نفوذ بريطانيا وسلطانها في شرقي العالم وفي آسيا، وخاصة في وقت بدأ يطغى فيه الإمبريالزم والاستعمار على عقول الناس في إنجلترا وفي غرب أوروبا.
अज्ञात पृष्ठ
ولذا ستهتم كل الحكومات البريطانية مهما تعددت ألوانها الحزبية أو اختلفت برامجها السياسية لا بحياد القناة؛ وإنما بحرية المرور فيها لكل السفن التجارية والحربية في وقت السلم والحرب.
وتبعا لاهتمام إنجلترا بحرية المرور في القناة وسلامة القناة في كل الأوقات، ستزداد في نظرها أهمية مصر التي تخترق القناة أجزاءها الشرقية، لقد ربطت السياسة الإنجليزية مصير مصر ومستقبلها بمصير القناة، وأصبحت مشكلة القناة إلى حد كبير مشكلة مصر.
ونشأت الفكرة التي تقول: إن من الواجب على الحكومة الإنجليزية بعد أن تبينت أهمية القناة الحيوية لها ، شراء الشركة جميعها والإشراف إشرافا تاما على إدارة القناة، وربما ظن بعض الناس أن الخديو إسماعيل كان يفضل أن تستولي شركة إنجليزية على إدارة القناة، ولقد ثارت فعلا في سنة 1874 الإشاعة التي تقول: إن الخديو والباب العالي كانا يفكران جديا في بيع القناة لبريطانيا؛ لأن بريطانيا أكثر الدول اهتماما بالقناة بعد فتحها، ويقال: إن هذا كان من رأي الجنرال ستانتون قنصل إنجلترا العام في مصر أيضا، فهو الذي خاطب حكومته في هذا الشأن، وأيده بعض أعضاء الوزارة الإنجليزية، ولكن جلادستون رئيس الوزارة ومعه لورد جرانفل وجها لهذه الفكرة أذنا صماء، إذ رفضا أن تقوم إنجلترا بتعويض حملة أسهم القناة عما لحق بهم من خسارة مادية، ويقال أيضا: إن فردنند دي لسبس ذهب إلى لندن لهذا الغرض، ولكن وزير الخارجية جرانفل رفض المناقشة مع أي فرد أو هيئة في شروط بيع القناة، ولو تحققت هذه الفكرة لتناقضت مع المبدأ الأساسي الذي قامت عليه الشركة العالمية لقناة السويس، فإن وضع هذه القناة تحت إشراف دولة واحدة يتناقض تماما مع الفكرة العالمية التي قام عليها الامتياز الذي منح للشركة.
وربما كان فردنند دي لسبس نفسه يفكر، أمام الصعوبات المادية والخسارة التي لاقتها شركة القناة في سنيها الأولى، في أن تباع الشركة للدول البحرية الأوربية، وذلك حتى يضمن تماما دوليتها وحيادها. ولكن الحكومة البريطانية لم توافق على هذه الفكرة، وكذلك الحكومة العثمانية ما كانت لتنصت أبدا لمثل هذه المشاريع التي تتعارض بطبيعة الحال مع حقوق سيادتها، فشركة القناة شركة مصرية خاضعة للقوانين والتقاليد العثمانية.
وربما كانت إنجلترا تظن في بعض الأوقات أن مصلحتها تقضي بأن تدير القناة شركة دولية لا فرنسية، ولقد أعلن لورد داربي وزير الخارجية البريطانية في سنة 1874 أنه لا يمانع في ذلك، وكرر هذا الرأي في سنة 1875، على أساس أن وجود هذه الطريق العالمية العظيمة في يد شركة خاصة قد يثير كثيرا من الصعوبات والتعقيدات، ولكن مثل هذه الأفكار لم تخرج إلى حيز التنفيذ، وظلت شركة القناة كما هي.
وبينما كان ديزريلي زعيم المحافظين في إنجلترا، ورئيس الحكومة الإنجليزية، موجها نظره إلى تطور المسألة الشرقية في سنة 1875 إذ وصل إلى علمه وجود مفاوضات في باريس بين الحكومة المصرية وشركة فرنسية لرهن أسهم الخديو إسماعيل في قناة السويس، ولقد اتصل فردريك جرينورد أحد البارزين من رجال الصحافة الإنجليزية والمحرر في مجلة ال «پال مال» بلورد داربي وزير الخارجية البريطانية، وأكد نبأ هذه المفاوضات، وبين أن مصلحة إنجلترا تقتضي أن تسرع الحكومة البريطانية فتشتري هذه الأسهم، والسبب في تقديم الخديو إسماعيل هذه الأسهم للرهن أو البيع هو ما أصاب ميزانية مصر من عجز عن سداد أقساط الديون المتراكمة أو فوائدها الفادحة، وكان عليه أن يجد في شهر نوفمبر في خلال إسبوعين مبلغ أربعة ملايين من الجنيهات.
وكان أمام الخديو إسماعيل إما رهن هذه الأسهم أو تقديمها للبيع، ووضعت الشركة الفرنسية التي كانت تجرى معها هذه المفاوضات شروطا قاسية لإقراض الخديو المبلغ المطلوب، جعلته يتردد كثيرا في التصديق النهائي على شروطها.
وحين عرضت الفكرة على الحكومة الإنجليزية لم يرحب بها داربي كثيرا، ولم يكن ذلك عن قناعة أو تفكير صحيح، ولكن أفق خياله كان ضيقا، وتنقصه الجرأة في كثير من الأمور.
ولكن رئيس الوزارة بنجامن ديزريلي لحظ بسرعة أهمية الصفقة لإنجلترا من الناحية السياسية والإمبراطورية، وخاصة من الناحية السياسية. وكتب للملكة فكتوريا في 18 نوفمبر سنة 1875 يقول:
إن خديو مصر على وشك الإفلاس المالي، وإنه يرغب في بيع أسهمه في قناة السويس، واتصل لذلك الغرض بالجنرال ستانتون ... إنها مسألة ملايين أربعة على الأقل، ولكنها تعطي لمالكها نفوذا عظيما إن لم يكن متفوقا في إدارة القناة، وإنه حيوي لسلطة جلالتك ومركزك في هذا الوقت العصيب أن تصبح القناة ملكا لإنجلترا ... ولقد حاولت أن أقنع داربي، ونجحت في إقناعه بأهمية تحول مصالح الخديو إلينا.
अज्ञात पृष्ठ
ولقد حاول ديزريلي بالفعل أن يقنع زملاءه في الوزارة بأهمية الصفقة لإنجلترا، ونال في آخر الأمر موافقتهم جميعا على مبدأ شراء الحكومة الإنجليزية لأسهم الخديو إسماعيل في قناة السويس، بعد أن تمسك عدد منهم بمعارضة الفكرة إلى آخر لحظة، ولقد استصوبوا جميعا في آخر الأمر رأي رئيسهم؛ لأن الحوادث - كما اعترفوا هم بذلك - قد أيدت وجهته، وأثبتت بعد نظره.
رأى ديزريلي أنه يجب على الحكومة الإنجليزية ألا تتأخر يوما واحدا، حيث إن حالة مصر المالية سائرة في طريق الانهيار السريع، والخديو إسماعيل في أشد الحاجة إلى المال، والمنافسون للحكومة الإنجليزية متيقظون، ولقد ظل الخديو إسماعيل فترة كارها لأن يضع نفسه بين يدي الحكومة الإنجليزية وتحت تصرفها، إذ كان يفهم تماما معنى شراء إنجلترا لهذه الأسهم من الناحية السياسية. ولكن كان من الصعب إن لم يكن من المستحيل إيجاد المبلغ اللازم له في فرنسا أمام المعارضة الشديدة التي قامت بها الحكومة الإنجليزية.
ولقد خشي الدوق ديكاز وزير الخارجية الفرنسية في ذلك الوقت، وكان شديد الحرص على صداقة إنجلترا، فهي التي وقفت إلى جانب فرنسا في أزمة ربيع سنة 1875 الشديدة، وأنقذتها من أظفار ألمانيا، خشي ديكاز أن يتدخل لتأييد الشركة الفرنسية إذ كان يعرف ما سيكون لذلك التدخل من أثر على موقف الحكومة الإنجليزية بالنسبة لفرنسا، إذن لتزعزع مركز فرنسا في أوروبا، ولتخاذلت قوتها وتضعضعت أمام الخطر الألماني الذي كان يتهدد دائما حكومة المحافظين في فرنسا؛ ولذا فلا عجب إذا وجد ألا يقدم للشركة الفرنسية أية معونة، وعلى ذلك انتهى الأمر بفشل مسألة الرهن ومعها مشروع الشركة الفرنسية.
كانت هذه الشركة قد طلبت في الواقع ربحا فاحشا على رأس المال، 18٪ فائدة للمبلغ الذي تقدمه للخديو إسماعيل، فإذا عجز حاكم مصر عن أن يدفع لها ذلك المال في وقت معلوم يضيع حقه في 15٪ من الأرباح السنوية لشركة قناة السويس، وتصبح الأسهم ملكا للشركة، واتفق بين الفريقين على جعل يوم 26 نوفمبر سنة 1875 الموعد النهائي للموافقة على هذه الشروط.
وكان فردنند دي لسبس مدير شركة قناة السويس يؤيد هذه الشركة التي ستقرض الخديو إسماعيل، وكان يحاول إقناع الرأسماليين الفرنسيين بجمع المال اللازم لها، ولقد طلب بالفعل من الحكومة الفرنسية - وكانت حكومة المحافظين - التدخل لصالح الشركة وتأييدها سياسيا، وإزالة العقبات المالية الموجودة أمامها.
ولكن الحكومة الفرنسية في ذلك الوقت كانت ضعيفة مترددة، تهتم أولا وقبل كل شيء بمركزها في أوروبا ومراقبة الخطر الألماني وكسب الأصدقاء، هذا من الناحية الخارجية، وأما من الناحية الداخلية، فكان مركزها مزعزعا لانقسام الملكيين على أنفسهم، يهددها الحزب الجمهوري باستمرار؛ ولذا كانت في حاجة شديدة إلى تأييد إنجلترا السياسي لها وإلى عدم إثارة مشاكل خارجية قد تودي بحكم المحافظين في فرنسا وبمركز فرنسا في أوروبا.
وكانت الحكومة الإنجليزية قد بينت موقفها بالضبط في ذلك الموضوع، فلقد أعلن داربي وزير الخارجية الإنجليزية لجافارد ممثل فرنسا في لندن، بأن الحكومة البريطانية كانت ترى في ملكية الخديو لجانب كبير من أسهم شركة قناة السويس وسيلة للاطمئنان بأن القناة ليست ملكا للفرنسيين وحدهم؛ ولذا فليس أمام إنجلترا إلا أن تعارض معارضة شديدة في وقوع هذه الأسهم في يد شركة فرنسية؛ فالخديو إذا تم الرهن لن تسمح حالته المالية بسداد المبلغ ولا فوائده، فسينتهي الأمر إذن بوقوع هذه الأسهم في يد الشركة الفرنسية نهائيا.
وإن إنجلترا، كما أضاف داربي، تعتبر موقفها هذا ضروريا تمليه أبسط وسائل الدفاع عن مصالحها، فقناة السويس - كما يرى وزير الخارجية البريطانية في ذلك الوقت - هي سبيل المواصلات البريطانية إلى الهند، ولبريطانيا أربعة أخماس التجارة التي تمر بها، وأنه يرى لذلك أن مصلحة بريطانيا في حماية قناة السويس وإدارتها أكبر بكثير من مصلحة أية دولة أخرى.
وأرسلت حكومة لندن تعليمات بذلك إلى ستانتون معتمدها في مصر، فعليه أن يبين للخديو إسماعيل في جلاء وقوة بأن الحكومة البريطانية لن تسمح برهن هذه الأسهم لدى شركة فرنسية، ولا بد من وقف المفاوضات بين عاهل مصر والشركة الفرنسية مدة؛ حتى تعطى الحكومة البريطانية فرصة لإبداء رأيها في الموضوع.
وعرض ديزريلي لشراء نصيب الخديو في أسهم القناة أربعة ملايين من الجنيهات، وقدم الأمر إلى مجلس الوزراء البريطاني الذي نظر في الموضوع، ووافق على الثمن في 24 نوفمبر، وفي 25 نوفمبر أمضى العقد في القاهرة، وأودعت الأسهم دار قنصلية بريطانيا، لقد تم للإنجليز الاستيلاء على أسهم الخديو إسماعيل في خلال عشرة أيام.
अज्ञात पृष्ठ
ولما تمت موافقة الحكومة البريطانية على شراء الأسهم، كان لا بد من النظر بسرعة في كيفية تدبير المبلغ اللازم للشراء، فالبرلمان الإنجليزي لم يكن منعقدا، ولا يمكن تدبير المبلغ بغير موافقته، ولا يمكن عقده بسرعة للنظر في هذه المسألة، ولكن الموضوع لم يكن يقبل الانتظار، وإلا ضاعت الصفقة من إنجلترا؛ ولذا تحول ذهن ديزريلي إلى أصدقائه من آل روثتشيلد الماليين المعروفين في إنجلترا، وكان ديزريلي متأكدا من تعاون هذا المصرف معه في سياسته المصرية، ولكنه لم تكن هناك سابقة لمثل هذا العمل الخطير، فماذا يحدث لو رفض البرلمان الإنجليزي حين يجتمع اعتماد ذلك المبلغ، ولكن ديزريلي أخذ المسئولية على نفسه، ومن ناحية ثابتة كان لبيت رثتشيلد ثقة لا تنتهي بديزريلي والحكومة البريطانية التي ضمنت هذا القرض.
وافق إذن بيت رثتشيلد على إقراض الحكومة الإنجليزية مبلغ أربعة ملايين من الجنيهات بفائدة مخفضة، وتم لديزريلي نهائيا إجراء صفقته، وبذلك أصبحت الحكومة البريطانية تملك خمسي الأسهم وأكبر مساهم في قناة السويس.
ولقد أحس زعيم المحافظين بإنجلترا بعظم الصفقة التي قام بها، فلقد كانت نجاحا لا نظير له، وكتب في 24 نوفمبر للملكة فكتوريا يقول بأنها قد نالت الصفقة، وأن الفرنسيين قد غلبوا على أمرهم بعد أن بذلوا جهودهم ... ولقد سلك بيت روثتشيلد مسلكا بديعا، فقدم المال اللازم بفائدة قليلة ... ولقد قدم دي لسبس في آخر لحظة عرضا مغريا للخديو، ولو نجح لأصبحت القناة ملكا لفرنسا ولأغلقتها أمام إنجلترا.
وفرحت الملكة فكتوريا فرحا عظيما بإنجاز هذا العمل، وجاءتها التهاني من دول أوروبا باستثناء روسيا التي أرادت أن تجامل فرنسا، واعتبر ليوبولد ملك البلجيك هذا العمل كأعظم حادث في السياسة الحديثة، ولقد قابل الرأي العام الإنجليزي هذه الصفقة بحماس كبير، وطرب المعارضون للحكومة من الأحرار لهذه الصفقة، إذ سرهم أن تنال بريطانيا هذا النصيب المهم من أسهم شركة قناة السويس، ولم يهتم الرأي العام البريطاني كثيرا بانتقاد جلادستون زعيم المعارضين للحكومة لهذه الصفقة، فرأيه في هذه المسألة كان شخصيا لا يمثل حزب الأحرار، ودافعه الأول كان الغيرة من ديزريلي والحسد له؛ ولذا فانتقاده لم ينظر إليه.
لقد خطب نورثكوت في البرلمان الإنجليزي قائلا - ما ملخصه: إن شراء هذه الأسهم كما نعتقد في مصلحة إنجلترا ومصلحة مصر، ومصلحة الشركة التي أصبحنا شركاءها، وإنا لنشعر بالود نحو هذه الشركة العظيمة ونحو مؤسسها ومتبنيها، ولدينا الرغبة في المساهمة في هذا المشروع الخطير، وإني أعتقد أن إنجلترا ارتكبت خطأ كبيرا في عدم الاعتقاد بقيمة المشروع في أول الأمر، وأؤمل أننا لسنا متأخرين كثيرا في المساهمة في هذا المشروع الآن بعد أن نضج وأثمر ... وسيقدر لهذا المشروع أن يكون ملك البشرية جميعا على مدى الدهر، وإنه من دواعي الاغتباط الكبير أن نرى أن إنجلترا قامت بمهمتها في تأمين مستقبل ذلك المشروع العظيم.
وأبدى لورد هارتنجتن - وهو من زعماء الأحرار - رأيه بأن على إنجلترا أن تغتبط اليوم إذ «انتقلت إليها حقوق سيادة الخديو على القناة»! هكذا فهم بعض الساسة الإنجليز صفقة شراء أسهم الخديو في القناة، وكانت نتيجة لهذه الصفقة أن اضطرت شركة القناة إلى قبول ثلاثة أعضاء إنجليز في مجلس إدارتها.
وكان لهذه الصفقة دوي كبير في كل أرجاء أوروبا، وكانت دليلا ساطعا على أن إنجلترا غادرت نهائيا السياسة السلبية التي استنها مستر جلادستون في وزارته الأولى، وأنها أصبحت الآن تتبع سياسة خارجية نشيطة، وبدأ ديزريلي سياسة الإمبريالزم «التسلط الاستعماري» التي ستبلغ أوجها في نهاية ذلك القرن «التاسع عشر» باحتلال مصر والتصميم على البقاء فيها وتقسيم أفريقيا والإشراف على مناطق كبيرة في آسيا.
وجدت الملكة فكتوريا في هذه الصفقة ضربة موجهة ضد بسمرك المستشار الألماني الذي سبق أن أعلن أن إنجلترا لم تعد قوة سياسية كبيرة يخشى خطرها، والواقع أن المستشار الألماني بسمرك سر كثيرا لهذه الصفقة؛ ففيها - من ناحية - إذلال جديد لعدوته فرنسا وهزيمة لسياستها، وفيها - من ناحية ثانية - تمهيد لتدخل الإنجليز في مصر، ومن ذلك الحين أخذ ينصح الحكومة الإنجليزية بضرورة أخذ مصر، فهو يعتقد أنه إذا فعل الإنجليز ذلك ، فلن يغفر لهم الفرنسيون أبدا.
ولقد نظرت الحكومة الفرنسية إلى هذه الحركة من جانب الحكومة الإنجليزية كخطوة أولى تمهيدية لاحتلال الإنجليز لمصر، أو على الأقل للتدخل في أمورها المالية، ورأت أن هذا العمل ليس إلا استغلالا لسوء حالة مصر المالية، فالمبلغ الذي دفعته إنجلترا كان أقل من ثمن السوق وليس فيه إنصاف لمصر.
قوت هذه الصفقة من مركز ديزريلي في الحكومة الإنجليزية ومن مركز المحافظين في إنجلترا، ومن مركز إنجلترا في أوروبا والعالم، كما زادت من نفوذ إنجلترا في مصر، حرمت هذه الصفقة مصر من كل فائدة من قناة السويس، فأصبح المصريون يرون أن هذه القناة التي تسير في أرض مصر، وقسمت بين أجزاء مصر، وقامت على تسخير العمال والفلاحين المصريين وإهدار حقوقهم ودمائهم، وحرمان الزراعة منهم مدة طويلة، لم تجن مصر منها فائدة تذكر، بل أصبحت كارثة على حياتها ومستقبلها طيلة خمسة وسبعين عاما، لقد جعلت القناة لمصر مركزا استراتيجيا خاصا في الشرق الأدنى زاد اهتمام الأمم الإمبريالية الاستعمارية به إلى حد أن ضحت هذه الدول بمصالح مصر ونموها واستقلالها ومستقبلها في سبيل الإشراف عليه والتحكم فيه.
अज्ञात पृष्ठ
على أنه يظهر أن ديزريلي لم يفهم تماما إلى سنة 1880 عظم أهمية القناة في المواصلات الإمبراطورية إلى الشرق، فكان يرى أن الأستانة هي التي تشرف على الطريق إلى الهند لا مصر ولا قناة السويس.
ولذا كان يفضل دائما الاستيلاء على آسيا الصغرى ذاتها، ويرى أن احتلال إنجلترا لمصر وقناة السويس في الوقت الحاضر لن يفيدها كثيرا، بل سيفسد إلى حد كبير علاقاتها مع فرنسا.
ولذا لم تعد الحكومة الإنجليزية في عهده توجه انتباها كبيرا لعروض بسمرك، كان المستشار الألماني في ذلك الوقت يرى أن تستولي إنجلترا على مصر وتشرف على قناة السويس كنصيبها من ممتلكات الدولة العثمانية التي أخذت في الضعف والتدهور، ففي مصر والقناة - كما يرى - تعويض كبير لإنجلترا إذا سيطرت الدولة الروسية، وهي صديقته الشرقية، على شرقي البلقان وعلى مداخل البحر الأسود، ولقد حرص بسمرك حرصا شديدا على توجيه نظر الحكومة البريطانية لانتهاز فرصة المسألة الشرقية واقتناص مصر.
ففي مذكرات مطولة له بين أنه إذا استشير فيما يجب أن تكون عليه سياسة إنجلترا الخارجية، فإنه يقترح أن تنتهج بريطانيا العظمى نفس السنن الذي تنتهجه روسيا، فإذا كانت روسيا تريد أن تستحوذ على النقط الاستراتيجية اللازمة لها بالسيطرة على المضايق؛ البوسفور والدردنيل، والإشراف على الأستانة، فعلى الحكومة الإنجليزية أن تقابل ذلك بالسيطرة على مصر وقناة السويس، وكما يقول: «إنه من الخير لبريطانيا أن تأخذ قناة السويس والإسكندرية بدلا من أن تعلن الحرب على روسيا، وبذلك وحده تتوثق عرى السلم في أوروبا.»
وهو يرى أنه إذا خشيت الحكومة البريطانية من اتباع مثل هذه السياسة، عداء فرنسا ومناوأتها، فما عليها إلا أن تبحث مع الفرنسيين أمر تقسيم الشرق الأدنى إلى مناطق نفوذ، فتوافق فرنسا على تفوق النفوذ الإنجليزي في مصر وقناة السويس، نظير موافقة الإنجليز على تفوق النفوذ الفرنسي في سوريا.
ولكن الحكومة الإنجليزية - حكومة المحافظين - ما كانت تقبل بسهولة مثل هذه الاقتراحات، فرئيسها ديزريلي «لورد بيكونزفيلد» بالرغم من أنه هو الذي عقد صفقة قناة السويس، فاشترى أسهم الخديو إسماعيل فيها، وبالرغم من تعلقه الكبير بمصر وحضارتها وآثارها، إلا أنه كان في ذلك الوقت لا يرى في احتلال الإنجليز لمصر وسيلة لدرء الخطر الروسي عن الشرق الأدنى؛ فالأستانة لا مصر ولا قناة السويس هي مفتاح الطريق إلى الهند.
ولقد أبدى بيكونزفيلد عجبه والشك الذي خالج نفسه من كثرة عروض بسمرك، فإنجلترا كانت تظن أن غرضه هو إتلاف العلاقات الإنجليزية الفرنسية الطيبة، وضرب عصفورين بحجر واحد، إرضاء إنجلترا وإذلال فرنسا.
كذلك لم يصغ الوزراء الإنجليز لنوبار باشا حين ذهب إلى لندن في سنة 1877 ليعرض عليهم قبول فكرة بسط الحماية البريطانية على مصر، وأهملوه إهمالا شديدا إلى حد أن نعى عليهم جهلهم بأمور السياسة، وصرح لسفير ألمانيا في لندن بأن الأسد البريطاني مستغرق في نومه، وأن أظفاره ستسرق منه دون أن يستيقظ.
على أنه حين تعقدت المسألة الشرقية في سنة 1877، وقامت الحرب بين روسيا وتركيا ، وضحت الحكومة البريطانية موقفها للدولة الروسية فيما يختص بمصر وقناة السويس، فهي لن تقبل أبدا امتداد الحرب إلى مصر والقناة، وتعتبر الاعتداء عليها عملا عدوانيا موجها إلى إنجلترا ذاتها، صرح بذلك وزير الخارجية الإنجليزية للسفير الروسي في لندن.
كانت إنجلترا تخشى أن تمتد أعمال الروس العسكرية إلى قناة السويس ومصر بصفتهما جزءا من الدولة العثمانية التي أصبحت في حالة حرب مع روسيا، ولكن رد روسيا جاء مطمئنا: «فبالنسبة لقناة السويس ومصر، فنحن لن نمسهما، فليست لدينا المصلحة ولا الرغبة ولا الوسائل للقيام بمثل ذلك العمل ... ونحن على استعداد للاتفاق مع حكومة لندن على كل المسائل ... وليست لنا مصلحة في معاكسة إنجلترا في ممتلكاتها في الهند أو في مواصلاتها، فالحرب الحالية لا تتطلب ذلك.» لم تكن روسيا تريد إفساد علاقاتها مع إنجلترا في الوقت الذي تصطلي فيه الجيوش الروسية بنار الحرب مع تركيا.
अज्ञात पृष्ठ