فتقدم الحكيم وجس نبضه وتأمله طويلا، ثم صب ماء في قدح وغطس في الماء الخرقة التي غطسها حينما داوى خادم السر وليم، وهم بسقي الماء للملك، فقال الملك: «قد جسست نبضي فأعطني يدك لأجس نبضك؛ لأنني أنا أيضا لي مشاركة في هذه الصناعة.» فمد الحكيم يده فقبض الملك عليها، ثم قال: «لا اضطراب ولا انزعاج وما هذا شأن من يسم الملوك.» ثم التفت إلى البارون وقال له: «إن عشت أو مت فاصرف هذا الطبيب مكرما مبجلا.» وقال للطبيب: «وأنت يا صاح، احمل تحيتنا إلى السلطان صلاح الدين. وأنا إن مت فهو بريء من دمي، وإن عشت كافأته مكافأة الأبطال.» ثم رفع رأسه وتناول الكأس وقال: «إني أشرب هذه الكأس على شرف أول فارس يدق رمحه في باب أورشليم، وخزي أول فارس يرتد عن هذا الجهاد.» ثم كرعها كلها وألقى رأسه على وسادته ونام. وحينئذ أشار الحكيم إلى الحضور أن يخرجوا من الخيمة ولا يبقى فيها معه إلا البارون ده فو.
الفصل العاشر
ستنكشف الأسرار من طي رمسها
وتبدي لك الأيام ما كنت جاهلا
وقف مركيز منسرات ورئيس الهيكليين في باب خيمة الملك، فرأيا حولها حلقة من الحرس بالحراب والقسي، محيطة بها إحاطة الهالة بالقمر لكي لا يدنو منها أحد، والملك نائم وهم صامتون منكسون رءوسهم كأنهم في جنازة. فقال الرئيس لرفيقه: «قد انقلب فرح هؤلاء الكلاب إلى نوح، وجلبتهم إلى سكينة، والدهر في الناس قلب!»
فأجابه المركيز: «أصبت، والكلاب يضرب المثل بأمانتها لأسيادها، ولا سيما إذا كان أسيادها يجارونها في هرجها ومرجها كهذا الملك.»
فقال الرئيس: «صدقت، وهذا هو شأنه دائما.»
فقال المركيز: «لو كان صلاح الدين كغيره من ملوك المشرق لأراحنا منه بهذه الكأس، ولكنه أمين صادق منزه عن الغدر، وقد بلغني أنه طلب من ريكارد أن يقلده رتبة الفرسان.»
فقال الرئيس: «معاذ الله! لن نشرك أحدا من أعدائنا في هذا الفخر.»
وكانا قد بلغا فرسيهما وخدمهما فارتأيا أن يذهبا ماشيين يستنشقان بنسيم العشاء، فصرفا الخدم والفرسين ورجعا يتهاديان في مشيهما في طريق غير مطروق، ويتكلمان عن الحصار ولكن لم يطيلا الكلام فيه؛ لأنهما لم يجدا ما يسرهما، ثم التفت المركيز إلى الرئيس وقال له: «علام لا تطرح عنك هذا البرقع الأسود، وتتكلم مع صديقك علانية؟» فتبسم الرئيس وقال: «إن البرقع الأبيض يغطي الوجه كما يغطيه البرقع الأسود.» فجر المركيز يده على وجهه وقال: «قد نزعت البرقع، فهات أخبرني بما تراه من أمر هذا الجهاد، وما ينالنا منه من النفع والضر .»
अज्ञात पृष्ठ