لما خرج ريكارد ملك الإنكليز من بلاده قاصدا الأرض المقدسة تبعه جمهور من الأمراء الاسكتلنديين هم ورجالهم، وكانوا يركبون لركوبه وينزلون لنزوله ويحاربون تحت لوائه، ولكنهم كانوا ينصبون خيامهم وحدهم مستقلين بأنفسهم كأنهم من أمة أخرى وشعب آخر. وكذا كان الفرنسيون والإيطاليون والجرمانيون والدانماركيون والأسوجيون. بل كثيرا ما كان هؤلاء الشعوب يعاملون بعضهم بعضا بالجفاء والقسوة في غير وقت الحرب. وكان البارون ده فو أشد الناس كرها للاسكتلنديين، ولكن ارتباطه معهم في الجهاد ألجأه إلى كتم ما في صدره من الكره، بل كثيرا ما كان يبعث لهم بالطعام والدواء من عنده سرا لا علنا؛ عملا بوصية الكتاب القائل: «أحسنوا إلى مبغضيكم.» وقد تقدم في الفصل السابق أن الملك ريكارد أمره أن يخرج ويرى ما سبب صوت البوق والتهليل، فلم يبعد عن خيمة الملك حتى رأى جمهورا من العرب بجمالهم وخيولهم واقفين في قلب المعسكر وهم يضربون الأبواق والطبول، والجنود الإنكليزية متجمعة عليهم. وأول شخص التقى به كان السر وليم الفارس المتقدم ذكره في الفصول السابقة فتأفف من رؤيته، وكان قاصدا أن يمر به ولا يسأله عن سبب هذه الجلبة، لكن الفارس دنا منه وقال له: «لي معك كلام يا مولاي.» فقال البارون: «اختصر ما أمكنك؛ لأنني ذاهب بأمر الملك.» فقال الفارس: «أنا غرضي الملك؛ لأنني أتيته بالشفاء.»
فنظر إليه البارون ده فو من رأسه إلى قدمه كأنه يقيس طوله وعرضه، ثم قال له: «كان الأجدر بك أن تأتي الملك بالغنائم.» فاغتاظ الفارس من هذا الجواب ولكنه كظم الغيظ، وقال: «إن شفاء ريكارد هو الغنيمة الكبرى لنا ولكل النصارى، فهل لك أن تسمح لي بالدخول عليه؟»
فقال: «كلا، ما لم تخبرني بغرضك أولا؛ لأن خيام الملوك ليست مباحة لجميع الناس.»
فقال الفارس: «إن أمر الجهاد الذي يجمعني معك يضطرني أن أغضي الطرف عما تقول، وجلية الأمر أنني أتيت بطبيب من أطباء العرب، وهو قادر أن يشفي الملك.»
فقال البارون: «ومن يكفل لنا أن هذا الطبيب لا يدس السم للملك مع الدواء؟»
فأجابه الفارس: «إن حياته الكفالة.» فقال البارون: «إن كثيرين من هؤلاء الحمقى لا قيمة عندهم لحياتهم، فيسرعون إلى الموت كما يسرعون إلى الوليمة.»
فقال الفارس: «نعم، ولكن صلاح الدين المعروف عندنا بالشهامة وكرم الأخلاق قد بعث بهذا الحكيم، وبعث معه موكبا كبيرا يليق بشأنه، وهدايا للملك، وبعث إليه برسالة يرجوه فيها أن يستعمل علاج الحكيم لكي يشفى سريعا ويستعد لزيارته، فهل لك أن تأمر برفع الأحمال عن هذه الجمال واستقبال الحكيم بما يليق بمقامه.»
فقال البارون: «ومن يكفل لنا صدق صلاح الدين في هذا الأمر وموت ملكنا كاف وحده لتخليصه من مشقة الحرب كلها؟» فقال الفارس: «أنا أكفل أمانة صلاح الدين، أنا أكفلها بشرفي ودمي.»
فقال البارون: «وهذا أغرب من ذاك، ابن الشمال يكفل ابن الجنوب! الغربي يكفل الشرقي! ألا تخبرني يا مولاي كيف اتصلت إلى صلاح الدين والحكيم؟»
فقال الفارس: «كنت مرسلا إلى ناسك عين جدي برسالة سرية ...» فقاطعه البارون عن الكلام، وقال له: «أما تطلعني على الرسالة وجواب الناسك؟» فقال: «كلا، لا أستطيع ذلك.» فقال البارون: «أما تعلم أني من مشيري ملك الإنكليز وأهل سره؟»
अज्ञात पृष्ठ