وعجب محجوب أيما عجب، لماذا يرفض عم شحاتة تركي بائع السجائر الأستاذ علي طه؟ أيراه غير أهل لنسبه! ... أم يطمع الرجل أن تتم كريمته دراستها لتنفق على أسرته؟! ثم خطر له خاطر فسأل صاحبه: ألا يجوز أن مثريا كبيرا طمع في الفتاة فأراد أبوها أن يزوجها له؟! فرفع علي حاجبيه حيرة ولم ينبس بكلمة. وكان محجوب قد ذكر غرضه الأول من هذه الزيارة، فأراد أن يمهد له، وكان اعتراف علي قد أحدث في نفسه لذة كبيرة، فسالت نفسه نشاطا وحبورا، ولكنه قال لصاحبه بلسان الواعظ: لا يجمل بك على أية حال أن تستسلم للحزن، والحق أقول إنه مهما يكن السبب الحقيقي لهذه القطيعة فلا شك في تبعة فتاتك؛ فهبها كشيء لم يكن، وأودع العلة والمعلول سلة المهملات ...
فقال علي بحزن: لم يلتئم الجرح بعد! - هذا جزاء من يهتم بنظريتك في الحب، ألا ترى أن الكلاب تعالج الحب بطريقة أدعى إلى السعادة والراحة؟ ... نحن المسئولون عن شقائنا دائما ...
فلازم علي الصمت، واستطرد الواعظ: النسيان ... النسيان ... أترضى أن تكون من المجانين الذين يفسد الحب حياتهم؟
وساد الصمت، وفي تلك اللحظة امحى سبب قوي مما كان يبغض علي طه إليه، فلم يعد يمقته كما كان، خفت وطأة البغضاء، ومضى يقول لنفسه: ما يضيره لو فقد إحسان؟ فلا يزال ذا وظيفة وشباب وجمال! إحسان التي طالما أصلته نارا؛ فمن الراحة ألا يفوز بها منافسه وإن فاز بها ثالث غيرهما! ثم نهض قائما متوثبا للهجوم على غرضه، فمال نحو صاحبه وهو يصافحه، وقال بصوت لا يكاد يسمع: أستاذ علي، أخوك في حاجة إلى خمسين قرشا حتى آخر الشهر؟
ودس علي يده في جيبه ومدها إليه بما يريد، فتناولها محجوب قائلا: شكرا لك ... شكرا لك أيها الصديق الكريم.
وغادر المكتب راضيا، وتساءل وهو ينتف حاجبه الأيسر: متى يمتلئ جيبي بنقود الحكومة؟!
21
وأخذ أهبته؛ استحم، وكوى البدلة والقميص والطربوش، ولمع الحذاء، وحلق ذقنه، ورجل شعره، فبدا شخصا جديدا، وإن لم يزايله الهزال ولا الشحوب.
ذهب إلى دار جمعية الضريرات مبكرا، ووجدها دارا كبيرة، أنيقة، تحيط بها حديقة غناء وارفة الظلال، فسار إلى بهو عظيم مستطيل، يتصدره مسرح كبير، وقد تراصت به صفوف المقاعد الخضر، وعلى الجانبين أبواب الشرفات المطلة على الحديقة، ولم يكن سبقه إلى المكان إلا نفر قليل، فاتخذ مجلسه هادئا، ومضى يتفحص المكان بعينيه الساخرتين، ويتساءل: ترى هل يمكن حقا أن تنتهي به رحلته في هذه الدار إلى الحكومة؟! وكان تيار القادمين لا ينقطع، وكان في استقبالهم جماعة من الأوانس الحور، وبعد ثلث ساعة من جلوسه تكاثر عددهم، وتزاحموا نساء ورجالا، في أبهى الثياب وفاخر الحلل، فشاع الحسن في كل موضع، وتطاير في الجو شذا العطور، وزاغ بصر محجوب، وترددت عيناه الجاحظتان بين الوجوه الصبيحة، والنحور المتألقة، والظهور العالية، والصدور الناهدة. وجرى دمه بحيوية فائضة، وسرى القلق في أعصابه. وعجب لهذه الدنيا الباهرة، أين كانت خافية؛ هذه الثياب الفاخرة، وتلك الحلي النفيسة؟ إن واحدة منها تكفي للإنفاق على طلبة الجامعة جميعا. وهؤلاء النسوة، ما أكثرهن وما أجملهن، ولكن من المؤسف حقا أن كل امرأة يحوم حولها رجل أو أكثر، وأكثرهن يتكلمن الفرنسية بطلاقة، وهن المسلمات الظوالم! كأن الفرنسية لغة الدار الرسمية. ترى كيف يتفاهمن مع الضريرات؟! واجتاحته موجة من السخرية مفعمة حقدا، لا لغيرة على لغة البلاد، ولكن تلمسا لأسباب الكراهية. وتساءل: أين صاحب السعادة ابن الست أم سالم؟ وأرسل بصره ناحية المدخل فصادف مجيء سيدة باهرة المنظر، عرفها من النظرة الأولى، فذكر القناطر لعهد خلا، وذكر مهندس القناطر الشاب وزوجه الحسناء. أجل، كانت حرم حمديس بك دون غيرها، وقد جاء وراءها البك نفسه، وتبعته تحية وفاضل! وعلق بصره بالأسرة وهي تمضي إلى مقاعدها من الصف الأول، وتورد وجهه الشاحب، وعادت على ذاكرته رحلة الأهرام، فخال أنه يسمع صفقة باب السيارة وهو يغلق دونه! ... وقرض أسنانه وشعر برغبة جهنمية إلى البطش بهذه الفتاة الأنيقة المتعجرفة! ... آه لو تأبطت ذراعه حسناء من هؤلاء الحسان فسار بها أمام أسرة «قريبه»! تلك الأسرة الكريمة التي تجشمت المجيء إلى هذا البهو في سبيل الإحسان والرحمة! ينبغي أن يسود بلا قيد ولا شرط؛ فلا ضمير ولا خلق، ولكن متى يجلس معهم في الصفوف الأمامية؟! في لباس السهرة الفاخر في بدلة الصحافة هذه؟! وقبل أن يفيق من أفكاره رأى عن بعد الأستاذ سالم الإخشيدي يشق طريقه إلى الأمام في مشيته المتمهلة، ورزانته المعهودة، كأن البهو لا يحوي سواه ... وكان يحيي برأسه كثيرا من الطبقة العالية نساء ورجالا، فظل يتابعه بناظريه حتى جلس، وقد ملأه إعجابا وحسدا. هذه هي الحياة الحقة؛ الحياة الممتعة، الحياة التي ترضي الغرائز جميعا. الإخشيدي مثله الأعلى، ونعم المثل الأعلى هو. وشعر عند ذاك بيد توضع على كتفه، فالتفت إلى يمينه فرأى الأستاذ أحمد بدير يجلس في المقعد الملاصق، فتصافحا بحرارة، وسأل محجوب قائلا: ما الذي جاء بك يا أستاذ؟
فنظر إليه الشاب نظرة كأنما يقول له: ما الذي جاء بك أنت؟
अज्ञात पृष्ठ