إن السفيه إذا لم ينه مأمور
وقال الآخر:
فإن أنا لم آمر ولم أنه عنكما
ضحكت له حتى يلج ويستشري
وكيف يكون الصمت أنفع، والإيثار له أفضل، ونفعه لا يكاد يجاوز رأس صاحبه، ونفع الكلام يعمم ويخص، والرواة لم يرووا سكوت الصامتين، كما روت كلام الناطقين، وبالكلام أرسل الله أنبياءه لا بالصمت، ومواضع الصمت المحمودة قليلة، ومواضع الكلام المحمودة كثيرة، وطول الصمت يفسد البيان، وقال أبو بكر بن عبد الله المزني: طول الصمت حبسة. كما قال عمر: ترك الحركة عقلة، وإذا ترك الإنسان القول ماتت خواطره، وتبلدت نفسه، وفسد حسه، وكانوا يروون صبيانهم الإرجاز، ويعلمونهم المناقلات، ويأمرونهم برفع الصوت وتحقيق الإعراب؛ لأن ذلك يفتق اللهاة، ويفتح الجرح (الصوت)، واللسان إذا أكثرت تحريكه رق ولان، وإذا أقللت تقليبه وأطلت إسكاته جسا وغلظ، وقال عبابة الجعفي: لولا الدربة وسوء العادة لأمرت فتياننا أن يماري بعضهم بعضا، وأية جارحة منعتها الحركة ولم تمرنها على الإعمال، أصابها من التعقد على حسب ذلك المنع. (6) نصائح لطالب الخطابة
مر بشر بن المعتمر بإبراهيم بن جلبة الخطيب وهو يعلم فتيانهم الخطابة، فوقف بشر فظن إبراهيم أنه إنما وقف ليستفيد أو ليكون رجلا من النظارة، فقال بشر: اضربوا عما قال صفحا، واطووا عنه كشحا، ثم دفع إليهم صحيفة من تحبيره وتنسيقه، وكان أول ذلك الكلام: خذ من نفسك ساعة نشاطك، وفراغ بالك، وإجابتها إياك، فإن قليل تلك الساعة أكرم جوهرا، وأشرف حسبا، وأحسن في الأسماع، وأحلى في الصدر، وأسلم من فاحش الخطأ، وأجلب لكل عين، وعزة من لفظ شريف، ومعنى بديع، واعلم أن ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول بالكد والمطاولة والمجاهدة، وبالتكلف والمعاودة، ومهما أخطأك لم يخطئك أن يكون مقبولا قصدا، وخفيفا على اللسان سهلا، وكما خرج من ينبوعه، ونجم من معدنه، وإياك والتوعر فإن التوعر يسلمك إلى التعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك، ويشين ألفاظك، ومن أراع معنى كريما، فليلتمس له لفظا كريما، فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجنهما، وعما تعود من أجله إلى أن تكون أسوأ حالا منك قبل أن تلتمس إظهارهما، وترتهن نفسك بملابستهما وقضاء حقهما، وكن في ثلاث منازل، فإن أولى الثلاث أن يكون لفظك رشيقا عذبا، وفخما سهلا، ويكون معناك ظاهرا مكشوفا، وقريبا معروفا، أما عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت. وأما عند العامة إن كنت للعامة أردت، والمعنى ليس يشرف بأن يكون من معاني الخاصة، وكذلك ليس يتصنع بأن يكون من معاني العامة، وإنما مدار الشرف على الصواب ، وإحراز المنفعة مع موافقة الحال، وما يجب لكل مقام من المقال، وكذلك اللفظ العامي والخاصي، فإن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك، وبلاغة قلمك، لطف مداخلك، واقتدارك على نفسك، على أن تفهم العامة معاني الخاصة، وتكسوها الألفاظ الواسطة التي لا تلطف عن الدهماء، ولا تجفو عن الأكفاء، فأنت البليغ التام.
قال بشر: فلما قرئت على إبراهيم قال لي: أنا أحوج إلى هذا من هؤلاء الفتيان. قال أبو عثمان: أما أنا فلم أر قوما قط أمثل طريقة في البلاغة من الكتاب، فإنهم قد التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعرا وحشيا، ولا ساقطا سوقيا، وإذا سمعتموني أذكر العوام، فإني لست أعني الفلاحين والحشوة، والصناع والباعة، ولست أعني الأكراد في الجبال، وسكان الجزائر في البحار، ولست أعني من الأمم مثل اليبر والطيلسان، ومثل موقان وجيلان، ومثل الزنج وأمثال الزنج، وإنما الأمم المذكورون من جميع الناس أربع: العرب وفارس والهند والروم، والباقون همج وأشباه الهمج. وأما العوام من أهل ملتنا ودعوتنا ولغتنا وأدبنا وأخلاقنا، فالطبقة التي عقولها وأخلاقها فوق تلك الأمم لم يبلغوا منزلة الخاصة منا، على أن الخاصة تتفاضل في الطبقات أيضا.
قال بشر: فإن كانت المنزلة الأولى لا تواتيك ولا تعتريك، ولا تسنح لك عند أول نظرك، وفي أول تكلفك، وتجد اللفظة التي لم تقع موقعها، ولم تصر إلى قرارها وإلى حقها من أماكنها المقسومة لها، والقافية لم تحل في مركزها وفي نصابها، ولم تتصل بشكلها، وكانت قلقة في مكانها نافرة عن موضعها، فلا تكرهها على اغتصاب الأماكن والنزول في غير أوطانها، فإنك إذا لم تتعاط قريض الشعر الموزون، ولم تتكلف اختبار الكلام المنثور، لم يعبك بترك ذلك أحد، وإن أنت تكلفتها ولم تكن حاذقا مطبوعا ولا محكما لسانك، نصيرا بما عليك أو ما لك، عابك من أنت أقل عيبا منه، ورأى من هو دونك أنه فوقك.
فإن ابتليت بأن تتكلف القول، وتتعاطى الصنعة، ولم تسمح لك الطباع في أول وهلة، وتعصى عليك بعد إجابة الفكرة، فلا تعجل ولا تضجر، ودعه بياض يومك أو سواد ليلك، وعاوده عند نشاطك وفراغ بالك، فإنك لا تعدم الإجابة والمواتاة، إن كانت هناك طبيعة، أو جريت من الصناعة على عرق، فإن تمنع ذلك عليك بعد ذلك من غير حادث شغل عرض، ومن غير طول إهمال، فالمنزلة الثالثة أن تتحول من هذه الصناعة إلى أشهى الصناعات إليك وأخفها عليك، فإن لم تشتهه ولم تنازع إليه إلا وبينكما نسب، والشيء لا يحن إلا إلى ما يشاكله، وإن كانت المشاكلة قد تكون في طبقات؛ لأن النفوس لا تجود بمكنونها مع الرغبة، ولا تسمح بمخزونها مع الرهبة، كما تجود به مع المحبة والشهوة. (7) ما يجب على الخطيب وما لا يجب
قال بشر بن المعتمر: وينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينهما وبين أقدار المستمعين، وبين أقدار الحالات، فيجعل لكل طبقة من ذلك كلاما، ولكل حالة من ذلك مقاما، حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني، ويقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات، فإن كان الخطيب متكلما تجنب ألفاظ المتكلمين، كما أنه إن عبر عن شيء من صناعة الكلام واصفا أو مجيبا أو سائلا، كان أولى الألفاظ به ألفاظ المتكلمين، إذ كانوا لتلك العبارات أفهم، وإلى تلك الألفاظ أميل، وإليها أحسن وبها أشغف؛ ولأن كبار المتكلمين ورؤساء النظارين كانوا فوق أكثر الخطباء، وأبلغ من كثير من البلغاء، وهم تخيروا تلك الألفاظ لتلك المعاني، وهم اشتقوا لها من كلام العرب تلك الأسماء، وهم اصطلحوا على تسمية ما لم يكن له في لغة العرب اسم، فصاروا في ذلك سلفا لكل خلف، وقدوة لكل تابع.
अज्ञात पृष्ठ