وها نحن نحط لطلاب هذا الفن الطريق الذي سلكته العرب في تقوية ملكة البيان، معتمدين في النقل على أئمة هذا الشأن، مشيرين إلى تاريخ الخطابة، والمجودين فيها من أهل هذا اللسان قبل الإسلام وبعده، تلقيحا للعقول وإهابة بها إلى ما يصلحها ويزكيها بالبلاغة فنقول: (1) حد الخطابة وأقسامها
نقل ابن رشد أن الخطابة صناعة تتكلف الإقناع الممكن في كل مقولة من المقولات، وغايتها إقناع الجمهور فيما يحق عليهم أن يصدقوا به من الأمور السياسية والوظائف الشرعية، وقال أبو البقاء: الخطابة هي الكلام النفسي الموجه به نحو الغير للإفهام. قالوا: وليس للخطابة موضوع خاص تبحث عنه بمعزل عن غيره؛ ولذلك كان على الخطيب أن يلم بكل صنف من المعارف، فوجب عليه لبلوغ هذه الأمنية أن يتبحر في العلم، ويتفنن في ضروب الفهم، حتى كان شيشرون خطيب الرومان يوجب على الخطيب معرفة الفنون الأدبية، والرياضيات، والرسم، والتصوير، والنقش، والموسيقى وغير ذلك.
ومعنى إقناع الجمهور إرضاء السامعين بالبرهان، بحيث تكون البلاغة ملكة في الخطيب، وهناك يقتضي له من العلم الواسع، ونفاذ البصيرة، وحضور الذهن، وقوة التأثير، وطلاقة اللسان، ولطف البيان، ما يستميل به الجمهور إليه في موضوع، ويصرف أذهانهم عن أمر، ويوجه أنظارهم إلى آخر ويحرضهم ويقنعهم؛ ولذلك أدخل الحكماء الخطابة الشعر في أقسام المنطق، كما نقل عن أرسطو؛ لأن المقصود منه أن يوصل إلى التصديق، وأصولها عندهم ثلاثة؛ الأول: إيجاد المعاني الحقيقية بالإقناع من الأدلة والآداب، والثاني: تنسيق المعاني؛ أي سرد أجزائها على نظام واحد؛ ليحكم تركيب الخطة وارتباط أقسامها، بحيث تكون أبين غرضا وأحسن في النفوس وقعا، والثالث: التغيير الذي يراعى فيه حال السامع؛ لتصاغ له المعاني في ألفاظ تتشر بها نفسه، وتمتزج بأجزاء فهمه. ويمكن إرجاع الخطابة إلى قسمين: الخطابة المدنية والخطابة الدينية، فالمدنية يتصرف تحتها كل ما فيه إصلاح المدينة، والخطابة الدينية كل ما يرجع إلى تطهير النفوس؛ ليكون لأهلها مدنية فاضلة في الدنيا وسعادة شاملة في الأخرى.
الخطابة نوع من منثور الكلام، يأخذ من النثر تصوير الحقائق وإبلاغها النفوس، من دون إتعاب ذهن، ولا تكلف في الأداء، ومن النظم سلاسته وتأثيره في النفس، وقد كانت العرب في جاهليتها تقدم الشاعر على الخطيب، بفرط حاجتها إلى الشعر الذي يقيد مآثرها ويفخم شأنها، ويهول على عدوها ومن غزاها، ويهيب من فرسانها، ويخوف من كثرة عددها، ويهابها شاعر غيرها، قال أبو عمرو بن العلاء: فلما كثر الشعراء واتخذوا الشعر مكسبة وتسرعوا إلى أعراض الناس، صار الخطيب عندهم فوق الشاعر، وكان لكل قبيلة شاعر، كما كان لكل واحدة خطيب، الخطب والوصايا متقاربة، يقصد بالأولى قوم لا على سبيل التعيين والتخصيص، فتكون في المشاهد، والمجامع، والأيام، والمواسم، والتفاخر، والتشاجر، وأمام العظماء والملوك والأمراء والوفود، وفي الصلح وإشهار الحرب، وفي الخطوب والنوازل، أما الوصايا فتكون لقوم بعينهم في زمن مخصوص على شيء منصوص، وربما كانت من شخص لأهل بيته، أو سيد لقبيلته عند حلول مرض أو أجل أو هجرة في الأرض. (2) الخطابة والأنبياء
ذكروا أن العرب عنيت بالخطب في جاهليتها، أكثر من عنايتها بها في الإسلام، ولم يظهر لنا سر هذا؛ لأنا رأينا هدي النبيين والمرسلين على خلاف ذلك، رأينا الرسول - صلوات الله عليه - لم يتعلم الشعر وما ينبغي له، وكان سيد الخطباء بلا مراء، وكلامه خطب وحكم، وبسيرته الشريفة اقتدى كبار الصحابة، والتابعين، والخلفاء، والملوك والمرشدين، والعلماء العاملين، ولكن كثر الشعر أكثر من الخطب؛ لأن الشعر أقرب إلى تقييد المآثر والتأثير؛ ولأنه يحتمل من الخيال والمحال، ما لا يحتمله الخطاب بحال من الأحوال.
قال صاحب «الريحان والريعان»: إن ما تكلمت به العرب من أهل المدر والوبر من جيد المنثور ومزدوج الكلام، أكثر مما تكلمت به من الموزون، إلا أنه لم يحفظ من المنثور عشره، ولا ضاع من الموزون عشره؛ لأن الخطيب إنما كان يخطب في المقام الذي يقوم فيه في مشافهته الملوك، أو الحالات، أو الإصلاح بين العشائر، أو خطبة النكاح، فإذا انقضى المقام حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه بخلاف الشعر، فإنه لا يضيع منه بيت واحد، قال: ولولا أن خطبة قس بن ساعدة كان سندها مما يتنافسه الأنام، وهو أن النبي
صلى الله عليه وسلم
هو الذي رواها عنه فأطار ذكرها؛ ما تميزت عما سواها.
قال القلقشندي: وليس ما أشار إليه لرفض النثر عندهم وقلة اعتناءهم به؛ لسهولة حفظ الشعر، وشيوعه في حاضرهم وباديهم، وخاصهم وعامهم بخلاف الخطابة، فإنه لم يتعاطها منهم إلا القليل النادر من الفصحاء المصاقع؛ فلذلك عز حفظها، وقل عنهم نقلها، وقد كانت تقوم بها في الجاهلية سادات العرب ورؤساؤهم ممن فاز بقدح الفضل، وسبق إلى ذرى المجد، ويخصون ذلك بالمواقف الكرام، والمشاهد العظام، والمجالس الكريمة، والمجامع الحفيلة، فيقوم الخطيب في قومه فيحمد الله ويثني عليه، ثم يذكر ما سنح له من مطابق قصده وموافق طلبه من وعظ يذكر، أو فخر، أو إصلاح أو نكاح، أو غير ذلك مما يقتضيه المقام.
نعم، إن الخطابة صناعة الرسل - عليهم السلام - لأنهم يدعون إلى الله، ويكلفون بإرشاد الخلق، وهذا يقتضي البلاغة والبيان المتناهي لذلك قال موسى: رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي؛ وذلك لأنه كان به لثغة فخشي أن يعدها قومه عيبا، ويلووا بوجوههم عن دعوته، أما شعيب - عليه السلام - فقد سماه نبينا - عليه الصلاة والسلام - خطيب الأنبياء؛ لما ورد في الكتاب العزيز من أسلوبه البديع في البيان، وتلطفه في إبلاغ دعوته إلى أهل مدين الذين غلبت عليهم الشقوة قال تعالى:
अज्ञात पृष्ठ