حكى لي أحد قناصل فرنسا على عهد العثمانيين في هذه الحاضرة أنه كان قنصلا في طرابلس الغرب، وكان صديقا لأحد كبار عمال الأتراك هناك، وكان هذا لا يفتأ يطعن في العرب، ويبدي الاشمئزاز من حالهم، فلما عيل صبر القنصل الفرنساوي، وكان محبا للعرب يعرف لسانهم وتاريخهم ومدنيتهم فاتح صاحبه ذات يوم بالأمر، وسأله عن سر كراهيته للعرب، فأجابه العامل التركي: إني لا أعرف لذلك سببا إلا ما أراه من انحطاطهم، فقال له: سامحك الله إن العرب استولوا قرونا على كثير من البلاد التي استوليتم أنتم معاشر الترك عليها، كما استولوا على غيرها، وها هي آثار مدنيتهم ظاهرة إلى اليوم من بلاد إسبانيا إلى بلاد الصين، وأنتم قد حكمتم قرونا أيضا، فأين مدنيتكم إن لم تكونوا قضيتم على حضارة من سبقوكم وخربتم العامر منها؟! فإذا انحط العرب فبسياستكم أنفسكم، فدهش العامل التركي ولم ينبس ببنت شفة، ورجع عن النيل من العرب.
وعندي أن ذاك العامل لو درس ولو قليلا لغة العرب وتاريخهم، لما بدا منه هذا السخف في إسقاط أمة عظيمة جديرة بالتجلة، وهيهات أن يلبسها غير صورتها الحقيقية بمجرد ثرثرات يلوكها وترهات يدلي بها.
ومثل هذا العامل إذا تولى ولاية وكان ذا إرادة قوية يؤخر من تحت يده، ولا سيما إذا كانوا عربا عقودا من السنين إلى الوراء، وبهذه المناسبة أذكر لكم قصة وقعت لي بالذات مع وال من ولاة دمشق على عهد العثمانيين، وكان ثرثارا مثل أكثر عمالهم تظنه لأول وهلة على شيء من العلم والفهم، حتى إذا ما درست أخلاقه وجدته قاسيا جاهلا ليس عنده شفقة، ولم تتشبع روحه بالتربية الفاضلة وعلمه طلاء، كالقصب الذي يعلقه على صدره؛ ليتراءى لك لأول أمره ذهبا إبريزا، كتب إلي قائم مقام عجلون مرة يقول لي: إن أهل قضائه عزموا على أن ينشئوا ستين مكتبا أهليا لتعليم أحداثهم، وأنهم جمعوا لذلك المال فهو يرجو أن أنتخب له ستين معلما، فشرعت أبحث مدة ثلاثة أشهر عن كفاة يليقون للتعليم، فلم أجد سوى ثلاثة عشر، ولما عزمت على تسفيرهم من الغد أخذتهم إلى الوالي، وذكرت له قضيتهم؛ ليطلع على الأمر قبل أن يطلعه عليه جواسيسه، فكان أول سؤال سألهم إياه هل تعرفون التركية، فلما أجابوا بغير الإيجاب امتقع لونه، والتفت إلي قائلا: وكيف ذلك فقلت له: أرجو أن يتعلموا، ومهمتهم الآن تعليم أبناء الفلاحين مبادئ القراءة والكتابة والحساب، والأمور الدينية فقط فسكت وانصرفنا، وبعد ساعتين أتتني برقية من قائم مقام عجلون يتوسل إلي ألا أرسل المعلمين بعد أن كان يلح في إرسالهم، فعلمت عقيب ذلك أن الوالي أبرق لعامله في جبل عجلون بعد خروجي من عنده، يلومه على اعتماده علي في انتقاء معلمين لمدارس أهلية، ولما عاتبت الوالي في إحدى العشايا قال لي: وهل أنت كنت تظن أن الدولة تعطيكم سلاحا تقاتلونها به، إن من سياستنا ألا تتعلموا، فتألمت نفسي وأقسمت في سري أن هذه الدولة لا تدوم، وكل دولة تعد جهل الأمة سلاحها في التحكم برقاب من تحكمه تهلك وإياهم، والعدو العاقل خير من الصديق الجاهل.
رجع إلى العرب ومدنيتهم، وأن أخلاقهم كانت سببا في علوهم، فلما فسدت فسدوا وتراجع سلطانهم، فقد ذكر المؤرخون أن العرب أسسوا أيام جاهليتهم ممالك صغرى في العراق والشام، وانتشروا خلف شبه جزيرتهم، ومنهم من سكن بوادي مصر، وملكوا بالإرث جميع صحارى أفريقيا، منفصلين من أعلى شمال آسيا برمال كالبحار أمنوا بها هجمات الفاتحين، وانفردوا بحريتهم وعظمتهم؛ لجلالة أصولهم وشهامتهم، وفصاحة لغتهم الباقية على نقائها، واتجروا مع من يأتي إلى مراكزهم من تجار الجنوب والمشرق، واكتسوا معارف من جاورهم من الأمم، فكانت الأمة العربية متغلبة على من جاورها مدة أربعة آلاف سنة.
قال سيد يلبسو صاحب تاريخ العرب: وبما انفردت به الأمة العربية من جميل الأخلاق والعادات، كانت منذ نشأة أقدم الدول مدبرة لأمورها، متأهبة للإغارة على مجاوريها، فقد استولت على مملكتي مصر وبابل قبل الميلاد بتسعة عشر قرنا، ثم أخذ منها ما ملكته من البلاد الأجنبية، وانحصرت سلطاتها في مملكتها الأصلية، فأخذت تحارب الفراعنة وملوك العراق، ونجت من تسلط قورش ملك الفرس والإسكندر المقدوني، وبقيت على استقلالها زمن أخذ الرومان العالم القديم، ثم جاء النبي - عليه الصلاة والسلام - فربط علائق المودة بين قبائل جزيرة العرب، ووجه أفكارهم إلى مقصد واحد، فعلا شأنهم حتى امتدت سلطنتهم من نهر التاج - المار بإسبانيا والبرتغال - إلى نهر الكنج - أعظم أنهار الهند - وانتشر نور المعارف والتمدن في المشرق والمغرب، وأهل أوروبا إذ ذاك في جهل القرون الوسطى، وكأنهم نسوا ما وصل إليهم من أحاديث اليونان والرومان.
وقد عني العباسيون ببغداد، والأمويون بقرطبة، والفاطميون في القاهرة بنشر العلوم والفنون، ثم تمزقت ممالكهم وفقدوا شوكتهم السياسية، ولم تبق لهم إلا السلطة الدينية التي استمرت لهم في سائر أرجاء ممالكهم، وكان لهم من العلوم والصناعات والاكتشافات ما استفاده منهم نصارى إسبانيا حين طردوهم منها، فقد العرب في أواخر القرن الثامن بعد الميلاد حماستهم الحربية، وشغفوا بالمعارف، فما لبثت قرطبة، وطليطلة، والقاهرة، وفاس، ومراكش، والرقة، وأصفهان، وسمرقند تناظر بغداد في الأخذ بأسباب العلوم والمعارف، وقرئ ما ترجم إلى العربية من كتب اليونان في المدارس الإسلامية، وبذل العرب همتهم في الاشتغال بجمع ما ابتكرته العقول البشرية من العلوم والفنون، وأعرفوا في معظم البلاد خصوصا في الأصقاع المسيحية من أوروبا بابتكارات تدل على أنهم أئمة المعارف، وقد مارسوا العلوم الصحيحة على غاية النشاط من القرن التاسع إلى القرن الخامس عشر (من سنة 288-907ه).
وقال جيون في كلامه على حماية المسلمين للعالم في الشرق وفي الغرب: إن ولاة الأقاليم والوزراء كانوا ينافسون الخلفاء في إعلاء مقام العلم والعلماء، وبسط اليد في الإنفاق على إقامة بيوت العلم، ومساعدة الفقراء على طلبه، وكان من ذلك أن ذوق العلم ووجدان اللذة في تحصيله قد انتشرا في نفوس الناس من سمرقند وبخارى إلى فاس وقرطبة، وقد أنفق وزير واحد لأحد السلاطين - هو نظام الملك - مائتي ألف دينار على بناء مدرسة في بغداد - المدرسة النظامية - وجعل لها من الريع ليصرف في شئونها خمسة عشر ألف دينار في السنة، وكان الذين يغذون بالمعارف فيها ستة آلاف تلميذ، فيهم ابن أعظم العظماء في المملكة، وابن أفقر الصناع فيها، غير أن الفقير ينفق عليه من الريع المخصص للمدرسة، وابن الغني يكتفي بمال أبيه، وكان المعلمون ينقدون رواتب وافرة.
ذاك رأي سيديليو في العرب وأخلاقهم وما نشأ عنها، وهذا رأي جيون وإعجابه بمدنيتهم، فماذا وقع لتلك النفوس الأبية وذاك العمران المستمر؟ لا جرم أن لانحطاط الشعوب عوامل كثيرة طبيعية وأخلاقية، وبهذه العوامل أصيبت الأمة العربية كما أصيبت الأمة الإسبانية، فالعرب والإسبان يتشابهون من وجوه كثيرة، نشأ العرب كالإسبان من شبه جزيرتهم في الجنوب الغربي من أوروبا، وأولئك نشئوا من شبه جزيرتهم في الجنوب الغربي من آسيا، العرب فتحوا بلادا كثيرة، ومنها البعيد الذي وزعوا قواهم في استصفائه وإدارته، وكان يفصلهم عنها البحر، ففتحوا الأندلس وصقلية، بل وجميع الجزر الكبرى في جنوبي أوروبا، كما توسع الإسبان في فتوحهم على عهد شارلكان، فحكموا جزءا مهما من أوروبا، ثم ركبوا البحر، فاستعمروا معظم بلاد أميركا الجنوبية، ولو تأملنا عوامل الانحطاط التي فعلت في الإسبان لأثبتنا لها مثالا في مجتمعنا، فقد ذكر نوليه أن العنصر الإسباني أصيب بما استنزف دمه، وصرف من قواه كل طاهر وحي، وكثيرا ما أتت عليه أدوار هلكت في خلالها عناصره الحية وطبقاته العالية، فإن ديوان التفتيش الديني قضى على كل ما كان من إيمان، ومعتقد خاص، وفكر مستقل، وإرادة لا تقف أمام ما فيه المصلحة، ووجدان لا يلتوي ولا يتحول، وعلى ذلك العهد وبسوء هذه السياسة تداعت كثير من البيوت والأسر، ومنها ما كان بنوه من أهل الطبقة الممتازة بقرائحها وعقولها، فدعا فقدها إلى انقراض الصناعة والعلوم والآداب.
ولقد استعملت إسبانيا أقصى الشدة في قصاص من خالف دينها الذي تعتقد به، ثم أخذت تختار ممن تعدهم مؤمنين أناسا هم من أذكيائها، وتقضي عليهم بالتبتل والترهب، فلم يولد لهم، واندثرت أنسالهم وذراريهم، وما من زمن جاء على إسبانيا كان فيه السعد والرغد، والحياة والنماء على حصة موفورة أكثر من أيام الرومان ومن غيرها على عهد الحضارة العربية في القرون الوسطى، فكان إذ ذاك في إسبانيا أربعون مليونا من النفوس أرباب صنائع وأهل عمل، وفي تلك الأيام قامت فيها المدن الكبرى الجميلة التي لم نبرح نعجب بحسن هندستها وندهش بخرائبها، وعلى ذاك العهد كانت زراعتها ناجحة، وبفضل هندسة العرب كان الماء يجري إلى كل مكان في فلوات إسبانيا وقفارها.
ثم نشبت حروب شارلكان التي جن بها، وأهلك من الإسبانيين كل قوى الشكيمة في سبيلها، وكذلك ما تذرعت به إسبانيا من فتوحاتها في أميركا، وهي فتوحات فقد منها المحاربون الأشداء أصحاب العزائم والإرادات القوية، ثم أن طرد اليهود من إسبانيا (سنة 1492) وطرد العرب أجمع (سنة 1609-1610) قد حرم إسبانيا من شعب عامل نشيط، وفي أساطير الشعب الإسباني أن إسبانيا طلبت إلى الخالق منذ البدء سماء جميلة فنالتها، وطلبت بحرا جميلا فرزقته، وأنمارا طيبة ونساء حسانا ففازت بهما، ولما طلبت حكومة صالحة رد قولها؛ لأنها إذا تم لها ما تريد تصبح جنة أرضية لا محالة. قلنا: وهكذا كان شأن الشعب العربي، تفرق في جنوبي أوروبا وشمالي أفريقيا وغيرها، وجاءت عليه سبعة قرون، وهو السائد في العالم بسياسته وعلمه وصناعاته وآثاره، فكان قوله الفصل، وسياسته هي الرشيدة، فلما أخذ بعض ملوكه يحاربون العقل ويعادون الفلسفة، بل يقتلون أهلها، وجمدوا بأن أوصدوا باب الاجتهاد في كل شيء، وزهدوا في الصنائع النفيسة مدعين أنها مما يحظره الشرع، مع أن الشرع مرن يليق لكل عصر ومصر، تسربت إليهم الخرافات فأنشئوا يعتقدون بالقضاء والقدر على خلاف ما كان يعتقده أهل الصدر الأول، فقل فيهم أرباب البصيرة وضعفت فيهم الأسر الزكية، ثم إن الحروب والفتن الأهلية والخارجية تنازعتهم قرونا قد هلك فيها أناس من أهل الطبقة النبيلة فيهم، ومنهم من لم يعقب، والغني الذي خلف أولادا فطروا على الترف والرفاهية، فأسرفوا في أموالهم وقواهم في الموبقات، فدثروا ودثرت أنسالهم. ومما عاق مجتمعنا في ميدان الترقي تسلط رجال الدين على جمهور الشعب، وعلى أكثر الحكومات زمنا طويلا، فساقوها إلى دركات التأخر بحسب أهوائهم، وضعف مداركهم، وعلمهم الناقص ، ومن رجال الدين والقضاء من ليس لهم من العلم إلا العمائم، ومن الأخلاق إلا اختراع الطرف السافلة؛ لأخذ الأموال بالباطل، وما برحت الحكومات التي تسلطت على العرب تقرب عن قصد الجاهل من أهل تلك الطبقة على العالم، فيعبث الجاهل بالمقدسات، ويستحل المحرمات عن علم وعن غير علم، حتى جاء زمن على الأمة كانت فيه جاهلة متعصبة، فقيرة ذليلة، متسفلة في أخلاقها وعاداتها.
अज्ञात पृष्ठ