157

पुराना और नया

القديم والحديث

शैलियों

أما ابن شداد مؤلف السيرة الصلاحية فقد ولد بالموصل سنة 539 وحفظ بها القرآن الكريم في صغره، وتخرج بضياء الدين القرطبي وبابن الشيرجي والطوسي الخطيب وغيرهم، قرأ عليهم القراءات والتفسير والحديث والفقه والخلاف والأدب واللغة، وأعاد بالمدرسة النظامية وحج في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وزار بيت المقدس والخليل، ثم دخل دمشق والسلطان صلاح الدين محاصر قلعة كوكب، فذكر أنه سمع بوصوله فاستدعاه إليه فظن أن يسأله عن كيفية قتل الأمير شمس الدين، وكان أمير الحاج في تلك السنة من جهة صلاح الدين وقتل على جبل عرفات، فلما دخل عليه ذكر أنه قابله بالإكرام التام وما زاد على السؤال عن الطريق ومن كان فيه من مشايخ العلم والعمل وسأله عن جزء من الحديث ليسمعه عليه، فأخرج له جزءا جمع فيه أذكار البخاري وأنه قرأه عليه بنفسه، فلما خرج من عنده تبعه عماد الدين الكاتب الأصبهاني وقال له: السلطان يقول لك: إذا عدت من الزيارة وعزمت على العود فعرفنا بذلك فلنا إليك مهم، فأجابه بالسمع والطاعة، فلما عاد عرفه بوصوله فاستدعاه، وجمع له في تلك المدة كتابا يشتمل على فضائل الجهاد، وما أعد الله سبحانه وتعالى للمجاهدين، يحتوي على مقدار ثلاثين كراسة، فخرج إليه واجتمع به ببقعة حصن الأكراد وقدم له الكتاب الذي جمعه، وقال: إنه كان عزم على الانقطاع في مشهد بظاهر الموصل إذا وصل إليها، ثم إنه اتصل بخدمة صلاح الدين في مستهل جمادى الأولى سنة أربع وثمانين وخمسمائة، ثم ولاه قضاء العسكر والحكم بالقدس الشريف، ولما توفي صلاح الدين كان حاضرا وتوجه إلى حلب لجمع كلمة الإخوة أولاد صلاح الدين وتحليف بعضهم لبعض، وكتب الملك الظاهر غياث الدين بن صلاح الدين صاحب حلب إلى أخيه الملك الأفضل نور الدين علي بن صلاح الدين صاحب دمشق يطلبه منه فأجابه إلى ذلك، فأرسله الملك الظاهر إلى مصر لاستخلاف أخيه الملك العزيز عماد الدين عثمان بن صلاح الدين، وعرض عليه الظاهر الحكم بحلب ، فلم يوافق على ذلك، ثم ولي قضاءها ووقوفها، وكانت حلب في ذلك الزمان قليلة المدارس، وليس بها من العلماء إلا نفر يسير، فاعتنى ابن شداد بترتيب أمورها وجمع الفقهاء بها وعمرت في أيامه المدارس الكثيرة، وكان الملك الظاهر قد قرر له إقطاعا جيدا يحصل منه جملة مستكثرة، ولم يكن له خرج كثير فإنه لم يولد له ولا كان له أقارب، فتوفر له شيء كثير فعمر مدرسة للشافعية ودارا للحديث في حلب، ولما صارت حلب على هذه الصورة قصدها الفقهاء من البلاد، وحصل بها الاشتغال والاستفادة وكثر الجمع بها.

وكان بيد القاضي أبي المحاسن بن شداد حل الأمور وعقدها، ولم يكن لأحد معه في الدولة كلام، وكان سلطانها الملك العزيز أبو المظفر ابن الملك الظاهر ابن السلطان صلاح الدين، وهو صغير السن تحت حجر الطواشي شهاب الدين أبي سعيد طغرل وهو أتابكه، وتولى أمور الدولة بإشارة القاضي أبي المحاسن لا يخرج عنهما شيء من الأمور، وكان للفقهاء في أيامه حرمة تامة ورعاية كبيرة، خصوصا جماعة مدرسته، فإنهم كانوا يحضرون مجالس السلطان، ويفطرون في شهر رمضان على سماطه.

قال صاحب وفيات الأعيان بعد إيراد ما تقدم تحصيله: وكان القاضي أبو المحاسن المذكور سلك طريق البغاددة في ترتيبهم وأوضاعهم، حتى إنه كان يلبس ملبوسهم والرؤساء يترددون إليه، وكانوا ينزلون عن دوابهم على قدر أقدارهم لكل واحد منهم مكان معين لا يتعداه، ثم إنه تجهز إلى الديار المصرية لإحضار ابنة الملك الكامل ابن الملك العادل للملك العزيز صاحب حلب، وكان قد عقد له عليها، فسار في أول سنة تسع وعشرين وستمائة وعاد وقد جاء بها، ولما وصل كان قد استقل الملك العزيز بنفسه، ورفعوا عنه الحجر، ونزل الأتابك طغرل من القلعة إلى داره تحت القلعة، واستولى على الملك العزيز جماعة من الشباب الذين كانوا يعاشرونه ويجالسونه فاشتغل بهم، ولم ير القاضي أبو المحاسن وجها يرتضيه، فلازم داره إلى حين وفاته، وهو باق على الحكم وإقطاعه جار عليه، غاية ما في الباب أنه لم يبق له حديث في الدولة، وكانوا يراجعونه في الأمر، فكان يفتح بابه لأسماع الحديث كل يوم بين الصلاتين، واستمر على ذلك حتى توفي سنة اثنتين وثلاثين وستمائة بحلب، وصنف كتابه ملجأ الحكام عند التباس الأحكام يتعلق بالأقضية في مجلدين، وكتاب دلائل الأحكام تكلم فيه على الأحاديث المستنبط منها الأحكام في مجلدين، وكتاب الموجز الباهر في الفقه، وكتاب سيرة صلاح الدين وغير ذلك، وجعل داره خانقاه للصوفية.

هذان هما الرجلان اللذان تعلقا بخدمة صلاح الدين، وحرص عليهما مع إدلالهما عليه، فنفقت بضاعتها في سوقه، والدولة سوق يحمل إليها ما يروج فيها، ومع ما كانا فيه من السعة لم تلههما الدنيا عن التأليف والتدريس وإحياء معالم العلم والأدب، فأثرا بفضلهما في حياتهما، وبعد موتهما كتب العماد السيرة الصلاحية ممزوجة بالأدب، ومع هذا لم يفته الغرض من التاريخ، حتى إنه قال فيما تم على الأسطول من فصل: «فانشقت مرائر الفرنج، وأزاحت سفنها عن النهج، وقرنصت بزاة البيزانية، وتقلصت جباه الجنوية، وكرثت أدواء الداوية، وكثرت أسواء الإسبتارية، وزادت آلام الألمانية، وعادت أسقام الإفرنسيسية.»

مما دل على أنه كان يعلم أجناس المحاربين، ومما ذكره أيضا في ذكر ما تجدد لملك الإنكتير (إنكلترا) من المراسلة والرغبة في المواصلة قال: وصلت رسل ملك الإنكتير إلى العادل بالمصافحة على المصافاة، والمواتاة في الموافاة، وموالاة الاستمرار على الموالاة، والأخذ بالمهادات، والترك للمعادات، والمظاهرة بالمصاهرة، وترددت الرسل أياما، وقصدت التئاما، وكادت تحدث انتظاما، واستقر تزوج الملك العادل بأخت ملك الإنكتير، وأن يعول عليهما من الجانبين في التدبير، على أن يحكم العادل في البلاد، ويجري فيها الأمر على السداد، وتكون المرأة في القدس مقيمة مع زوجها، وشمسها من قبوله في أوجها، ويرضي العادل مقدمي الفرنج والداوية والاستبار ببعض القرى، ولا يمكنهم من الحصون التي في الذرا، ولا يقيم معها في القدس إلا قسيسون ورهبان، ولهم منا أمان وإحسان، واستدعاني العادل والقاضي بهاء الدين بن شداد، وجماعة من الأمراء من أهل الرأي والسداد، وهم علم الدين سليمان بن جندر، وسابق الدين عثمان، وعز الدين بن المقدم، وحسام الدين بشارة، وقال لنا: تمضون إلى السلطان وتخبرونه عن هذا الشأن، وتسألونه أن يحكمني في هذه البلاد، فلما جئنا إلى السلطان عرف الصواب، وما أخر الجواب، وشهدنا عليه بالرضا، وعاد الرسول إلى ملك الإنكتير بفصل أمر الوصلة وإراحة الجملة وإزاحة العلة، واعتقدنا أن هذا أمر قد تم إلى أن قال: وبلغ الخبر إلى مقدميهم ورءوسهم، فقصوه على قسوسهم، وعسروا على عروسهم، فجبهوها بالعذل واللذع، ثم رضيت على شرط الموافقة في الدين، فأنف العادل إلى آخر ما ذكر.

بيد أن الصراحة في كلام ابن شداد أكثر؛ لأنه لم يتقيد بالسجع والترصيع وأنواع البديع المريع، فقال في ذكر ملك الإنكتار: وهذا ملك الإنكتار شديد البأس بينهم، عظيم الشجاعة، قوى الهمة، له وقعات عظيمة، وله جسارة على الحرب، وهو دون الفرنسيس عندهم في الملك والمنزلة، لكنه أكثر مالا منه، وأشهر في الحرب والشجاعة، وكان من خبره أنه وصل إلى جزيرة قبرص، ولم ير أن يتجاوزها إلا وأن تكون له وفي حكمه، فنازلها وقاتلها فخرج إليه صاحبها، وجمع له خلقا كثيرا، وقاتلهم قتالا شديدا ... ولما كان يوم السبت ثالث عشر الشهر قدم ملك الإنكتار بعد مصالحته لصاحب جزيرة قبرص والاستيلاء عليها، وكان لقدومه روعة عظيمة، ووصل في خمس وعشرين شانية مملوءة بالرجال والسلاح والعدد، وأظهر الإفرنج سرورا عظيما حتى إنهم أوقدوا تلك الليلة نيرانا عظيمة في خيامهم. ولقد كانت النيران مهولة عظيمة تدل على عدة عظيمة كبيرة، وكان ملوكهم يتواعدوننا به، فكان المستأمنون منهم يخبروننا عنهم أنهم موقنون فيما يريدون أن يفعلوا من مضايقة البلد (عكا) حتى قدومه، فإنه ذو رأي في الحرب مجرب، وأثر قدومه في قلوب المسلمين خشية ورهبة.

وقال من فصل: كنت ذكرت وصول رسول منهم يلتمسون من جانب الإنكتار أن يجتمع بالسلطان، وذكرت عذر السلطان عن ذلك، وانقطع الرسول وعاد معاودا في المعنى، وكان حديثه مع الملك العادل ثم هو يلقيه إلى السلطان، واستقر أنه رأى أن يأذن له في الخروج، ويكون الاجتماع في المرج والعساكر محيطة بهما ومعهما ترجمان، فلما أذن في ذلك تأخر الرسول أياما عنده بسبب مرضه، واستفاض أن ملوكهم اجتمعوا عليه، وأنكروا عليه ذلك، وقالوا: هذه مخاطرة بدين النصرانية، ثم بعد ذلك وصل رسول يقول: لا تظن تأخري بسبب ما قيل، فإن زمام قيادي مفوض إلي، وأنا أحكم ولا يحكم علي، غير أني في هذه الأيام اعترى مزاجي التياث منعني عن الحركة، فهذا كان العذر في التأخير لا غير، وعادة الملوك إذا تقاربت منازلهم أن يتهادوا، وعندي ما يصلح للسلطان، وأنا أستخرج الإذن في إيصاله إليه، فقال له الملك العادل: قد أذن في ذلك بشرط قبول المجازاة على الهدية، فرضي الرسول بذلك، وقال: الهدية شيء من الجوارح قد جلب من وراء البحر وقد ضعف، فيحسن أن يحمل إلينا طير ودجاجة حتى نطعمها لتقوى ونحملها، فداعبه الملك العادل، وكان فقيها فيما يحدثهم به، فقال الملك: قد احتاج إلى فراريج ودجاج، ويريد أن يأخذها منا بهذه الحجة، ثم انفصل حديث الرسالة في الآخر، على أن قال الرسول: ما الذي أردتم منا إن كان لكم حديث، فتحدثوا به حتى نسمع، فقيل له عن ذلك نحن ما طلبناكم أنتم طلبتمونا، فإن كان لكم حديث فتحدثوا به حتى نسمع، وانقطع حديث الرسالة إلى سادس جمادى الأخرى، فخرج رسول الإنكتار إلى السلطان، ومعه إنسان مصري قد أسروه من مدة طويلة، وهو مسلم قد أهداه إلى السلطان فقبله وأحسن إليه، وأعاده مشرفا مكرما إلى صاحبه، وكان غرضه بتكرار الرسائل تعرف قوة النفس وضعفها، وكان غرضنا بقبول الرسائل تعرف ما عنده من ذلك أيضا.

وقال في مشورة ضربها في التخيير بين الصلحين بين الإنكتار والمركيس: واصل التعاقد، إن الملك (الإنكتار) قد بذل أخته للملك العادل بطريق التزويج، وأن تكون البلاد الساحلية الإسلامية والإفرنجية لهما، فأما الإفرنجية فلها من جانب أخيها والإسلامية له من جانب السلطان، وكان آخر الرسائل من الملك في المعنى أن قال: إن معاشر دين النصرانية قد أنكروا علي وضع أختي تحت مسلم بدون مشاورة البابا وهو كبير دين النصرانية ومقدمه، وها أنا أسير إليه رسولا يعود في ستة أشهر، فإن أذن فيها ونعمت، وإلا زوجتك ابنة أخي وما أحتاج إلى إذنه في ذلك، هذا كله وسوق الحرب قائم والقتال عليهم ضربة لازم.

وقال في عود الرسول من قبل ملك الإنكتار: وأدى الرسالة وهي أن الملك يسأل ويخضع لك أن تترك له هذه الأماكن الثلاثة عامرة، وأي قدر لها في ملكك وعظمتك، وما من سبب لإصراره عليها إلا أن الإفرنج لم يسمحوا بها، وقد ترك القدس بالكلية، فلا يطلب أن يكون فيه رهبان ولا قسوس إلا في القمامة وحدها، فأنت تترك له هذه البلاد، ويكون الصلح عاما، فيكون لهم كل ما في أيديهم من الدارون إلى أنطاكية، ولكم ما في أيديكم وينتظم الحال ويروج، وإن لم ينتظم الصلح فالإفرنج لا يمكنونه من الرواح ولا يمكن مخالفتهم، فانظر إلى هذه الصناعة في استخلاص الغرض باللين تارة والخشونة أخرى، وكان مضطرا إلى الرواح، وهذا عمله مع اضطراره، والله الولي في أن يقي المسلمين شره، فما بلونا أعظم حيلة وأشد إقداما منه.

سيرة صلاح الدين

अज्ञात पृष्ठ