وقد عرفت في الفصول السابقة فلسفة سقراط وأفلاطون، وتأثيرها في الرأي العام أثناء حياة هذين الفيلسوفين وبعد موتهما. أما الفيلسوف الذي أريد أن أحدثك عنه في هذا الفصل فمتصل بهذين الرجلين العظيمين من جهة، ومنفصل عنهما من جهة أخرى.
هو سقراطي، وهو أفلاطوني؛ لأنه كان كسقراط وكأفلاطون: يقيم فلسفته على أن الحقائق ثابتة، وعلى أن الشك سخيف، وعلى أن هذه الحقائق الثابتة تنتهي كلها آخر الأمر إلى حقيقة عليا. عنها صدرت وإليها تعود. وهي حقيقة الإله، الذي صدر العالم عنه والذي يعود العالم إليه، ولكنه يخالف سقراط، ويخالف أفلاطون في طريقة البحث والتفكير، والنتائج الفلسفية التفصيلة التي انتهى إليها. وربما كان من الحق أن نقول: إنه يخالف سقراط وأفلاطون مخالفة شديدة في تكوين عقله، وتوجيه هذا العقل إلى حقائق العلم وظواهر الحياة.
كما أن فلسفة سقراط وفلسفة أفلاطون تمثلان الحياة اليونانية في عصريهما، فإن فلسفة أرسطاطاليس تمثل هذه الحياة أيضا تمثيلا قويا صادقا، فهي الدليل الناطق بأن الفلسفة السقراطية قد نجحت فيما كانت تحاول من إضعاف النظم السياسية القائمة، وهي الدليل الناطق بأن الفلاسفة كانوا مصيبين في فهم الحياة السياسية والاقتناع بأنها سيئة، وبأنها منتهية للكوارث من غير شك.
كان عصر أرسطاطاليس عصر تطور غريب لم يشهد العالم القديم مثله، وقد بدأ هذا التطور ضئيلا ضيقا لم يجاوز شبه جزيرة البلقان حيث أخذ سلطان المقدونيين يعظم ويقوى ويجاوز حدود مقدونيا في عصر فيليب، وبينما كان سلطان المقدونيين يشتد داخل مقدونيا وينبسط خارجها كان الفساد يعظم، ويشيع في المدن اليونانية على اختلاف قوتها ونظمها السياسية؛ فلم يكن بد من أن تطمح هذه الدولة الناشئة إلى السيطرة على هذه المدن المشرفة على الفناء. ثم لم تكد تخطر هذه الفكرة لزعيم المقدونيين وملكهم فيليب حتى أخذ في تنفيذها، وكان كل شيء يسهل عليه هذا التنفيذ، وكان للفلسفة حظ عظيم في تسهيله، فهي قد عملت في هدم النظم السياسية القديمة، وأسرفت في ازدرائها حتى شككت الناس فيها وصرفتهم عنها. ثم لم تكتف بذلك بل أخذت تدعو إلى تغيير هذه النظم وإلى القضاء على هذه الحياة التي تضطر اليونانيين إلى الخصومة والعنف، وتورطهم في الحرب المتصلة المهلكة للنفوس والأموال. وظهر في البلاد اليونانية قوم يدعون سرا وجهرا إلى وجوب أن يقوم سلطان قوي قاهر يبسط قوته على هذه الأمة اليونانية، فيضبط أمورها ويكرهها على احترام السلم فيما بينها من جهة، ويوجه قوتها الحربية إلى الشرق وإلى الفرس من جهة أخرى. وليس من شك في أن هؤلاء الدعاة من الكتاب والأدباء والفلاسفة كانوا متصلين أشد الاتصال بقصر فيليب، وفي أن فيليب كان يمد أكثرهم بالمال والمعونة ويتخذهم قوة معنوية يمهد بها لقوته المادية الضخمة. وقد وفق فيليب في هذا، فظهرت في المدن اليونانية كلها أو أكثرها أحزاب سياسية تميل إلى مقدونيا، وترغب في محالفتها ومناصرتها، وكانت هذه الأحزاب بطبيعتها مخاصمة للديمقراطية أو للديمقراطية المتطرفة على أقل تقدير، وقد تم النصر لفيليب فقهر الأمة اليونانية واضطرها إلى أن تذعن لسلطانه، وتنتخبه قائدا عاما لجيوشها، وتكلفه حرب ملك الفرس، فلما مات فيليب نهض ابنه الإسكندر لتنفيذ خطته، فنفذها كما تعلم، وكما سنعرض لذلك في فصل غير هذا الفصل.
وكان أرسطاطاليس يوناني الأصل، ولكنه مقدوني النشأة، ولد في مستعمرة يونانية قريبة من مقدونيا يقال لها «ستاجيرا»، ولكنه نشأ في مقدونيا؛ لأن أباه نيكوماخوس كان طبيبا لملك من ملوكها، وقد تأثر من غير شك بحياة القصر المقدوني وعادات الأشراف المقدونيين، وظهرت نتائج ذلك واضحة جلية في حياته وفلسفته معا. فلم يكن أرسطاطاليس سقراطي السير ولا أفلاطونيا في حياته، وإنما كان رجلا عمليا يعيش كما يعيش غيره من الناس، مستمتعا بلذات الحياة كما يستمتع بها غيره من الناس، لا يضيق على نفسه ولا يتكلف زهدا ولا تورعا ولا حرمانا. وكان، كما سترى: عمليا في فهمه وتصوره وحكمه على الأشياء. وليس من شك في أنه كان مقدوني النزعة السياسية، يقدر فساد الحياة اليونانية العامة، كما يقدر قوة مقدونيا وقدرتها على ضبط الأمور. وقد رحل إلى أثينا حين بلغ العشرين، فاختلف إلى أساتذة البيان والفلسفة فيها، ولكنه لازم أفلاطون ملازمة خاصة.
فتن بأفلاطون وفتن به أفلاطون أيضا، حتى لقد يقال إن أفلاطون كان يؤثره وكان يسميه القراء، وكان يسميه العقل أيضا. وقد ظل ملازما لأفلاطون أعواما طوالا، فقد كان يختلف إلى الأكاديمية ويشترك في محاورتها الفلسفية المختلفة. فلما مات أفلاطون سنة 347 قبل المسيح وتفرق نفر من تلاميذه عن أثينا، ساح أرسطاطاليس في الأرض حينا، فزار آسيا اليونانية التي كانت خاضعة حينئذ لسلطان الفرس. وكما أن حياته في مقدونيا وفي البلاد اليونانية أقنعته بضعف السلطان اليوناني وفساد أمر اليونان، فإن حياته في آسيا أقنعته بضعف الفرس وفساد أمرهم. ولا شك في أن رجلا ذكي القلب رشيدا كأرسطاطاليس كان يقدر هذا الفساد العام في الشرق والغرب، ويرى كما كان يرى غيره من المفكرين أن الخير كل الخير هو أن تقوم دولة قوية، فتجمع كل هذه القوى المتفرقة الضائعة، وتوجهها إلى ضبط الأمر في العالم المتحضر. ولكن حياة أرسطاطاليس لم تكن في ظاهر الأمر سياسية، وإنما كان الرجل منصرفا إلى التفكير وإلى البحث الفلسفي. وقد عاد إلى أوربا، ودعاه فيليب إلى تربية ابنه الإسكندر وتأديبه، فعاش في القصر المقدوني أعواما. ومهما يكن من شيء، ومهما تسكت النصوص التاريخية فقد كانت لحياة أرسطاطاليس في قصر فيليب آثار سياسية مزدوجة: كان يشير على فيليب، وكان يكون الإسكندر تكوينا ملائما لأطوار العصر الذي يعيش فيه، ولآمال فيليب وآمال مقدونيا أيضا.
ثم مات فيليب، وأخذ الإسكندر في تنفيذ خطة أبيه - فعاد أرسطاطاليس إلى أثينا وأنشأ فيها مدرسته المعروفة باسم «لوكايون
Lycée »، واتصلت الرسائل بينه وبين تلميذه الملك؛ وكان الملك يرسل إليه الأموال والطرائف من آسيا معونة له على بحثه العلمي. على أن الصلة فسدت آخر الأمر بين الأستاذ وتلميذه؛ لأن ابن أخت الفيلسوف الذي كان مرافقا للملك اتهم بالائتمار بالملك، فقتله الإسكندر، ونتج عن ذلك فساد الأمر بينه وبين أستاذه.
مات الإسكندر، وانتفض اليونان على السلطان المقدوني، ورفعت الديمقراطية اليونانية برأسها، وأخذت في تتبع المقدونيين وأنصارهم؛ فخرج أرسطاطاليس من أثينا هاربا، ولكنه لم يلبث أن مات بعد سنة أو نحو السنة في جزيرة «أبوا» سنة 323 قبل المسيح.
المؤرخون القدماء والمحدثون مجمعون على أن أرسطاطاليس ترك من الآثار الفلسفية شيئا ضخما لم يسبق إلى مثله، ولا إلى ما يشبهه، ولكنهم يختلفون في مقدار هذه الآثار اختلافا عظيما جدا. وقد لا يكون من الخير أن نعرض لهذا الاختلاف ولا لتفصيل البحث عن كتب أرسطاطاليس وما بقي منها؛ فإنك تجد ذلك مفصلا في مقدمة كتاب «الأخلاق» الذي ترجمه إلى العربية أحمد لطفي السيد (باشا)، وفي مقدمة «نظام الأثينيين» الذي ترجمته أنا إلى العربية. وإنما نكتفي هنا بالإشارة إلى أن أرسطاطاليس كان ينهج في مدرسته منهجين مختلفين: منهج التعليم الخاص الذي لا يحضره ولا يشترك فيه إلا تلاميذ المدرسة وأعضاؤها، ومنهج التعليم العام الذي كان مباحا للكافة.
अज्ञात पृष्ठ