كان سقراط قد نيف على الخمسين حين ولد أفلاطون سنة 428 قبل المسيح؛ فكان أثر الحوادث التي امتلأ بها الثلث الأخير للقرن الخامس مختلفا في نفس الشيخ المجرب سقراط، وفي نفس الشاب الحدث أفلاطون: فبينما كان الشيخ ينظر إلى هذه الحوادث نظرة الفاهم لها، الذي لا يخفى عليه من أسبابها ونتائجها شيء، كان هذا الشباب ينظر إلى هذه الحوادث نظر المرتاع لها، الذي لا يقدرها ولا يكاد يفهمها.
ولعل هذا الاختلاف في النظر إلى الحوادث وفهمها والحكم عليها؛ ظاهرة مطردة في تاريخ الإنسانية كلها، على خلاف أجيالها وبيئاتها. فالإنسانية منقسمة دائما إلى الشيوخ والشبان، ونظر الشيوخ مخالف لنظر الشبان، وأثر الحادثة المعينة في نفس الشيخ غيره في نفس الشاب.
ومن هنا كان الاختلاف بين الأجيال، ومن هنا كان تطور الإنسانية المطرد، غير أن الحوادث تختلف قوة وضعفا؛ فمنها ما هو هول كله، ومنها ما هو لين كله، ونفوس الشيوخ والشبان تختلف اختلافا شديدا، فمنها الممتاز ومنها العادي.
فإذا اجتمعت الأحداث التي ليست في نفسها إلا هولا وإذا قضت المصادفة أن توجد بإزاء هذه الحوادث نفوس ممتازة راقية في حسها أو فهمها أو حكمها، كان من المعقول جدا أن يوجد الفيلسوف، أو أن يوجد الرجل العظيم؛ وكان من المعقول جدا أن يظهر الاختلاف بين الناس في فهمهم للأشياء وحكمهم عليها. وقد أرادت المصادفة أن تجتمع في هذا العصر، الذي كان أفلاطون يستقبل فيه الحياة وسقراط يستقبل فيه الموت، أحداث عظيمة خطيرة، لم تعهدها الإنسانية من قبل، وأقول الإنسانية، وأستعمل هذا اللفظ العام على عمومه متعمدا، فقد اعتادت الإنسانية الحروب، وتعرضت للأهوال، وتجشمت الخطوب منذ عرفت الحياة المنظمة، ولكنها لم تكن قد عرفت حربا، ولا تعرضت لهول، ولا تجشمت خطبا كتلك الحروب، وتلك الأهوال والخطوب التي تعرضت لها في آخر القرن الخامس قبل المسيح.
الأمر في تلك الحروب كالأمر في الحرب العظمى التي لم ننسها بعد، والتي لا نخطئ إن قلنا إن الإنسانية لم تعرف حربا تعدلها هولا وفظاعة. فإذا أردنا أن نعلل هذا فتعليله يسير، وهو أن العالم كان قد انتهى في سنة 1914 إلى حد من الرقي غير مألوف، وأن الحرب استفادت من رقي العالم، فأضافت إلى أهوالها المألوفة أهوالا لم يكن للناس بها عهد من قبل. كذلك الحال في تلك الحرب التي اضطرب لها العالم القديم في آخر القرن الخامس قبل المسيح، والتي شبت نارها حين كان الإنسان قد انتهى من الحضارة والعلم والقوة إلى حدود بعيدة جعلت هذه الحرب بدعا من الحروب التي سبقتها.
أنت تعلم أن هذه الحرب هي التي يعرفها التاريخ باسم حرب «بيلوبونيز» (Péloponèse) ، ولست في حاجة إلى أن أصف لك أهوالها، أو ألم بشيء من آثارها المنكرة في حياة العالم القديم؛ فقد تستطيع أن تظفر بما شئت من ذلك في كتب التاريخ، ولا سيما في كتاب «توسيديد» (Thucydide)
الأثيني الذي اشترك في هذه الحرب، وكتب في تاريخها كتابا هو آية من آيات الفن القديم.
نشبت هذه الحرب بين أثينا وإسبرطا في نحو العصر الذي ولد فيه أفلاطون، ولم تلبث أن اشتملت بلاد اليونان جميعا، ثم لم تلبث أن تجاوزت بلاد اليونان الحقيقية إلى المستعمرات اليونانية في آسيا الصغرى وفي إيطاليا وصقلية، ثم لم تلبث أن تجاوزت العالم اليوناني إلى العالم الشرقي، فتدخلت فيها الفرس، ثم تدخلت فيها أمم أخرى غير الفرس، إما خاضعة لأمر الفرس، وإما مخالفة للفرس وإما مناوئة للفرس، وعلى هذا النحو انتهت هذه الحرب إلى أن أحدثت اضطرابا عالميا أخذت كل الشعوب الحية يومئذ منه بحظ. ولم تدم سنة أو سنتين، وإنما اتصلت ربع قرن، ولم تقتصر آثارها على إزهاق النفوس وسفك الدماء وتدمير المدن، وإزالة السلطان وتبديد ألوان الثروة، وإنما كانت لها آثار أخرى أبعد من هذه الآثار، وأشد عملا في الحياة الإنسانية، أريد بها الآثار العقلية والسياسية والاجتماعية؛ فقد أظهرت هذه الحرب فساد القديم من أكثر وجوهه، وضرورة العدول عنه إلى شيء آخر، وأظهرت ضعف ما كانت تقوم عليه الجماعات المختلفة من أسس ونظم وعقائد، واضطرت الإنسان إلى أن يبحث عن أسس أخرى ونظم أخرى يقيم عليها الاجتماع الجديد.
اشترك سقراط في هذه الحرب، فأدى واجبه كما كان يؤديه كل أثيني، ولكنه كان شيخا، وأكبر الظن أنه لم يقدر خطر الحرب، ولم يحاول التعمق في درس آثارها في الحياة الإنسانية المقبلة، وإنما كان منصرفا عن ذلك إلى فلسفته التي قدمنا تلخيصها في الفصل الماضي. واشترك أفلاطون في هذه الحرب فأدى واجبه كغيره من الأثينيين أيضا، ولكنه لم يكن كسقراط معنيا بفلسفته ومهمته التي كلفه إياها «أبلون» (Apollon) ، فلم تكن له فلسفة، ولم يكن «أبلون» قد عهد إليه بشيء، وإنما نشأ في هذه الحرب طفلا، ثم شب فإذا الحرب ما زالت قائمة، وإذا هو مضطر إلى أن يأخذ بنصيبه منها، وقد قلنا إن هذه الحرب عبثت بالنظم المختلفة عبثا شديدا، ويكفي أن نلاحظ أنها أدركت أثينا وهي خاضعة للنظام الديمقراطي المتطرف فما زالت بها حتى عدلت عن نظامها الديمقراطي إلى نظام أرستقراطي، ثم إلى نظام ديمقراطي معتدل، ثم إلى نظام أرستقراطي يشبه الطغيان أو هو الطغيان، ثم انتهت بسقوط أثينا ونزولها عن كل ما كان لها من سلطان في البر والبحر، ثم انتهت بها إلى نظامها الديمقراطي القديم.
وكل هذه الاضطرابات والثورات، لم تقع دون سفك للدماء وعبث بالأرواح والأموال داخل المدينة، مع ما كانت تسفك الحرب من دماء، وتزهق من أرواح، وتبدد من أموال خارج المدينة. أضف إلى هذا كله شيئا آخر خاصا بأفلاطون، وهو أنه كان أرستقراطي المولد: كان ينتهي من جهة أمه إلى «سولون» (solon) ، وكانت أسرة أبيه تزعم أنها تنتهي إلى «كدروس» (Codros)
अज्ञात पृष्ठ