عندما كنا ننادي بالعروبة كان الكثيرون ناسين أو متناسين أن في الدنيا عروبة، وعندما استعرب الجميع استعرابا سياسيا سكت أنا، ولكن ظللت عربي اليد والوجه واللسان. قلت: اليد، مع أني لست طعانا ولا ضرابا؛ لأني - كابن ثابت الأنصاري - أجزع لرؤية الدم، ولكني إذا حرمت السيف والرمح فما حرمت القلم، فأنا ممن يدافعون باليدين كما دافع البحتري عن سيده المتوكل، وباللسان كحسان، والله حسبي.
فالشعوبية التي سألني الأستاذ الملاح كبحها فسأكون عند ظنه بل قد كنت، وإنني أرجو منه ومن جميع إخواننا العرب الخلص أن يكافحوها في جميع الأقطار، وإذا كان الملاح يحسب الدعوة إلى اللغة العامية والحرف اللاتيني شعوبية - وهي شعوبية حقا - فهذه أضعف ما تكون عندنا، وهي عرض زائل، وقد هب مثل هذا الزعزع عبر العصور ولكنه يذهب كما تذهب ريح صرصر. إن العواطف زائلة، أما الرياح التي يرسلها الله بشرا بين يدي رحمته فباقية.
ولو لم يكن الأستاذ مطلعا على ما كتبته في أوان مختلفة حول هذين الموضوعين لما خصني بهذه الكلمة وأنا ممتثل لها وسأظل للفصحى نصيرا، وللحرف العربي ظهيرا، حتى لا نفقد لوننا وكل ما يفقد لونه حتى الزيت والخمر يخسر كثيرا ...
إن اللسان والحرف هما الجامع قبل الدين والجنس، وإذا لم نبق موحدين؛ كتابا وكلاما، خسرنا قيمتنا الاجتماعية وضعنا بين الشعوب كما تضيع مياه النهر في البحر العجاج.
والفرق بيننا وبين من تظنهم أنت - يا سيد محمود - شعوبيين؛ فهو أن هؤلاء يحاولون التجديد الذي لم يحسنه بعضهم. وإلى هؤلاء، وهم من عندنا وعندكم، أقول: جددوا في اللغة ما شئتم، ولكن لا تفرنجوها. وليكن تجديدكم تطعيما، فالتطعيم ضروري جدا، ولا تتحسن الأجناس إلا به، أما قلع الشجرة وغرس سواها فنكبة. اصقلوا الخشب ولا تدهنوه. ابقوا على العرق؛ لنظل معروفين بسماتنا بين الأمم.
وبعد يا أستاذ فلنتصارح: المطمورة تكسر السكة - المحراث - فأول من يتهم بالشعوبية هم الموارنة، وأحسب أنكم تعنون ذلك، أما أنا فعلى هذا أجيب: إن نصرتنا للفصحى قديمة العهد، أي منذ كانت وكنا، وقد أغنيناها حين كان أكثرنا سريانا، ثم زدنا ثروتها أضعاف الأضعاف حين استعربنا؛ فالكتب النفيسة التي ترجمناها عن اليونانية، عدنا فعربناها وتنكرنا للسريانية. أظنك تجهل تافيليوس الرهاوي، الماروني رئيس ديوان المنجمين، قد ترجم الإلياذة قبل سليمان البستاني. كان هذا العالم أقرب المقربين إلى الخليفة المهدي، وهو أول من عني بوضع الحركات السريانية الخمس طبقا للحركات اليونانية، فاستقامت له ترجمة أسماء الأعلام.
فلا توص حريصا على مقاومة الشعوبية، فأسلافنا الجهابذة الأعلام قد بيضوا وجهنا، ولا يزال فينا من يبيض الوجه، ولكنهم قليلون. إن تأثر الجبل بالغرب لا يضير بشرط ألا يكون متطرفا. فشعراء المهجر قد جددوا وظلوا محافظين، وشعراء لبنان المقيمين نحوا نحوا آخر في تجديدهم، ولكنهم جددوا ولم يهدموا كما يفعل غيرهم من شعراء الأقطار الأخرى، فكافح أنت من عندك وعلي بمن عندي فاليد الواحدة لا تصفق.
يقولون: لغتنا صعبة وألفاظها عويصة، وأنا أقول لهم: دعوا العويص واكتبوا السهل صحيحا تخلصوا من هذا التبرم باللغة وقواعدها. من لا يفهم ما يكتبه سعيد فريحة؟! وإني لواثق أنه لا يفتح معجما ولا يفتش عن عبارة، فلماذا لا يكتبون مثله؟! ولماذا يلجئون إلى طلاسمهم؟!
لقد حدثتك عن هذا؛ لأنك تقصد هذا، فلبنان السياسي لا شعوبية فيه، وإن وجدت فهي عندنا، كما هي عندكم، وكما كانت في كل عصر، فقل معي: قاتل الله ثلاثة أشياء: شهوة الحكم، والمال، وتناحر الرجال.
2
अज्ञात पृष्ठ