Orientalists in the Balance
المستشرقون في الميزان
प्रकाशक
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
संस्करण संख्या
السنة السابعة العدد الأول رجب ١٣٩٤ هـ أغسطس ١٩٧٤ م
शैलियों
مدخل
...
المستشرقون في الميزان
بقلم: الأستاذ عبد العزيز القاري
المدرس بالجامعة الإسلامية
تاريخ حركة الاستشراق متى وكيف بدأت وما هي أسباب نشوئها.
من القرن الخامس الميلادي حتى أواخر القرن الرابع عشر الميلادي فترة من تاريخ أوروبا النصرانية يسمونها هم (العصور الوسطى) ويعدونها عصورا مظلمة حيث كانت شعوب الفرنجة تعيش حياء همجية بائسة في ظلال كنيسة متسلطة مستبدة ولكن كان أبرز حدث في تاريخ هذه الفترة هي تلك النافذة التي فتحت في جنوب أوروبا الغربي لتطل منه على الحضارة الإسلامية وذلك بوصول طلائع المسلمين إلى الأندلس وإقامتهم صرح الحضارة الإسلامية فيها والتي امتدت إلى أواخر القرن الرابع عشر الميلادي أي حوالي سبعة قرون
كانت فيها الأندلس مركزا حضاريا في هذا الجزء من أوروبا يشع عليها آثاره في زحف هادئ في معظم الأحيان ثم في صورة هجمات قوية كادت تخترق فرنسا إلى قلب أوروبا في أحيان أخرى.
وكان لهذه الحضارة الإسلامية أثر كبير على حياة الشعوب الأوروبية فأخذ الفرنجة يرتادون الأندلس كمركز حضاري ثقافي عظيم ينهلون فيه من مناهل العلوم
1 / 124
والحكمة ويكفي أن نتصور قرطبة - أعظم حواضر الأندلس الإسلامية - وقد أضحت مكونة من مائتين وخمسين ألفا من القصور والمساكن الراقية يسكنها ألف ألف من المسلمين والنصارى واليهود، وأنه كان فيها دكان النسخ الواحد يستخدم مائة وسبعين جارية في نقل المؤلفات النادرة لطلاب الكتب، وأنه كان في قصر الخليفة أربعمائة ألف كتاب١.
ومهما وصفنا أو أثنينا على حضارتنا تلك فإن شهادة الأوروبيين أنفسهم أبلغ في هذا المجال فلنستمع للكاتب الأسباني بلاسكو أبانيز يقول في كتاب له اسمه ظلال الكنيسة:
في خلال سنتين اثنتين استولى الغزاة على ملك قضى مستردوه سبعة قرون كاملة في استرداده، ولم يكن في الواقع فتحا فرض على الناس برهبة السلاح بل حضارة جديدة بسطت شعابها على جميع مرافق الحياة، ولم يتخل أبناء تلك الحضارة زمنا عن فضيلة حرية الضمير وهي الدعامة التي تقوم عليها كل عظمة حقة للشعوب فقبلوا في المدن التي ملكوها كنائس النصارى وبيع النهود ولم يخش المسجد معابد الأديان التي سبقته فعرف لها حقها واستقر إلى جانبها غير حاسد لها ولا راغب في السيطرة عليها ونمت على هذا ما بين القرن الثامن والقرن الخامس عشر أجمل الحضارات وأغناها في العصور الوسطى، في الزمن الذي كانت فيه أمم الشمال فريسة للفتن الدينية والمعارك الهمجية يعيشون عيشة القبائل المستوحشة في بلادهم المتخلفة، وبينما كانت شعوب الفرنجة والسكسون والجرمان يعيشون في الأكواخ ويعتلي ملوكهم وأشرافهم قمم الصخور في القلاع المظلمة ومن حولهم رجال هم عالة عليهم يلبسون الزرد ويأكلون طعام الإنسان الأول قبل التاريخ كان العرب الأندلسيون يشيدون قصورهم القوراء ويرودون الحمامات للمساجلة في مسائل العلم والأدب وتناشد الأشعار وتناقل الأخبار. ا -هـ٢.
_________
أثر العرب في الحضارة الأوروبية للعقاد ص١١٥-١١٩ (ط دار المعارف بمصر ١٩٦٣) .
٢ أثر العرب في الحضارة الأوروبية للعقاد ص١١٥-١١٦.
1 / 125
ويقول ستانلي لاين بول المؤرخ الإنكليزي واصفا تلك الحضارة بعبارة موجزة مملوءة بالمعاني " " إن حكم عبد الرحمن الثالث الذي قارب خمسين سنة أدخل على أحوال إسبانيا تجديدا لا يلم الخيال - على أجمع ما يكون - بحقيقة فحواه " ١ ا-هـ.
وكانت هناك نافذة أخرى فتحت أمام أوروبا من الشرق وهي الحملات الصليبية على بلاد الإسلام فقد جلب الصليبيون معهم إلى أوروبا كثيرا من عادات المسلمين وأزيائهم وأنماط حياتهم ووسائلهم في الحرب والبناء فارتفعت الحصون والقلاع والكنائس في أوروبا متخذة في أشكالها هندسة البناء الشرقي الإسلامي، هذا إلى جانب ما حملوا هم أو حمله إليهم سفراء المسلمين وبعثاتهم من أنواع الثقافة وتحت الحضارة الإسلامية في العصور المختلفة حتى عصر العثمانيين. ولا شك أن عالم الكنيسة النصرانية أيقن أن زحف المسلمين هذا لم يكن زحفا عسكريا فحسب، بل كان حضارة تمتد وتبسط نفوذها وتنشر معالمها في كل بقعة تصل إليها فتغير من حياة الشعوب وأفكارهم وعقائدهم وأسلوب حياتهم ...
وكان بداية ظهور تأثير الحضارة الإسلامية على شعوب أوروبا أن ملوك الفرنجة بدءوا يحاولون التخلص من نفوذ الكنيسة وتسلطها الرهيب، وقد كانت الكنيسة في تلك العصور إذا أعطت صكا بالرضا والغفران لواحد منهم استقر ملكه واطمأن على كرسيه فإن غضبت على أحدهم فحكمت عليه بالكفر والجحيم نهش الناس ملكه ومزقوه إربا إربا..
ووضع كثير من المفكرين الذين فتحت الحضارة الإسلامية أعينهم وضعوا الكنيسة موضع المناقشة والاتهام، حتى تجلت تلك المناقشات عن حركة انشقاقية في قلب الكنيسة عرفت فيما بعد باسم الكنيسة البروتستانتية..
_________
المصدر السابق ص١١٦.
1 / 126
وحاولت الكنيسة في رومة إيقاف هذا المد ففتحت محاكم التفتيش تنكل وتحرق وتقتل كل من رفع راية العصيان في وجهها أو حاول التخلص من سيطرتها فعرف الأوروبيون حينذاك أبشع عصور الاضطهاد الديني والفكري فحنقوا ليس على الكنيسة فحسب بل على الدين الذي حملت تلك الكنيسة رايته وارتكبت الفظائع باسمه وكان بداية نشوء العلمانية..
ورغم بطش الكنيسة فإنها عجزت عن إيقاف التيار فاضطرت إلى أن تدافع عن نفسها بطريقة أخرى، فبدأت بالاهتمام بدراسة اللغات الشرقية وفي مقدمتها اللغة العربية..
فكانت طلائع المستشرقين من القسس والرهبان فانكبوا على دراسة اللغة العربية وكان رجال الكنيسة يشكلون وحدهم الطبقة المتعلمة في أوروبا ويهيمنون على الجامعات ومراكز العلم فيها..
وأنشئ أول مركز لدراسة اللغة العربية في الفاتيكان لتخريج أهل جدل يقارعون فقهاء المسلمين ويجادلون البروتستانت..
ورحل أول فريق من الرهبان إلى المغرب للغاية نفسها فقتل منهم هناك عدد كثير ورحل آخرون إلى المشرق، إلى سوريا ومصر..
وأمر الفاتيكان بإدخال اللغة العربية واللغات الشرقية الأخرى في مدارس الأديرة والكاتدرائيات، وعمل على إنشاء كراسٍ لهذه اللغات في الجامعات في إسبانيا وفرنسا وإيطاليا، وأصبحت جامعة باريس تشكل أهم مركز للدراسات العربية والشرقية.. واستعين بعدد من علماء اللاهوت وبعدد من المستشرقين اليهود ممن أجادوا تلك اللغات للقيام بتدريسها في تلك المدارس ولتولى تلك الكراسي في الجامعات..
ثم توسعت الدراسات الشرقية والعربية أكثر عندما أمر بابا الفاتيكان الخامس في أوائل القرن الرابع عشر بإنشاء كراسٍ للغات: العربية والعبرية والكلدانية في عدد من الجامعات الرئيسية في أوروبا وهي:
1 / 127
جامعة باريس، وأكسفورد، وبولونيا، وجامعة الفاتيكان نفسه مع تنصيب أستاذين لكل من هذه اللغات في كل كرسي، وتكليفهم بترجمة نصوص عربية وعبرية وكلدانية للرد على منتقدي الدين المسيحي..١
كان أول ما اتجه إليه المستشرقون في دراستهم العربية: كتب الفلسفة والمنطق والرياضيات فترجموا كتب ابن رشد والغزالي وابن سينا وأرسطو ونحوهم ثم توجهوا إلى العناية بآداب اللغة العربية والحضارة الإسلامية، وإلى دراسة الإسلام نفسه..
وذلك حسبما يستجد من ظروف ومقتضيات، إذ أن الجامعات الأوروبية وقد كانت تحت السيطرة الكاملة للكنيسة تعتمد دراسة اللاهوت فحسب حتى أوائل العصر الصناعي فبدأت تهتم بالاختصاصات المختلفة تحت ضغوط النهضة الصناعية..
ولكن الذي لا ننساه أن الاستشراق بدأ من الفاتيكان، ورواد الاستشراق هم من رجال الكنيسة وعلماء اللاهوت وظلوا هم المشرفين على هذه الحركة المسيرين لها وكان هدفهم الدفاع عن الكنيسة ومواجهة الضغوط الشديدة المتزايدة من المفكرين المتمردين على سلطانها ممن فتحت الحضارة الإسلامية متنفسا لهم ومهدت لهم الفرصة للتفكير والنهوض..
ولذلك بدأت تلك الدراسات العربية ضيقة ومحدودة بحدود الأهداف التي أنشئت من أجلها، فكانت اللغة العربية تدرس كواحدة من اللغات السامية ولم تحظ باهتمام كاف كلغة لحضارة مستقلة كان لها تأثير كبير وفضل عظيم على أوروبا..
إلى أن فوجئت الدول الاستعمارية بالعالم الإسلامي يبدأ انتفاضاته من جديد بعد أن قضى قرونا طويلة يرزح تحت نير استعمارها البغيض.. فاضطرت مراكز الدراسات الإسلامية إلى أن توسع دائرة دراستها حسب مقتضيات الوضع الجديد..
_________
١) المستشرقون لنجيب العقيقى ١/١٣٤.
1 / 128
دراسات المستشرقين للإسلام والعربية:
لو كان الأمر مقتصرا على مجرد الجمع واستيعاب المصادر والمعلومات والتنسيق والترتيب، فإن المستشرقين بلغوا في ذلك غاية كبرى من الدقة والإتقان، وليس ذلك ببدع في عالم الدراسات في أوروبا الذي تطورت وسائله وأساليبه بشكل كبير..
لكن المستشرقين يتدخلون بشخصياتهم وآرائهم وأهوائهم الخاصة فيفسرون الحوادث ويناقشون النصوص التشريعية، ويحللون قضايا اللغة العربية وشخصيات الحضارة الإسلامية، كل ذلك يدرسونه من وجهة نظرهم ويطلون عليه من نافذتهم الخاصة فيلقون عليه ظلالا معينة تغير معالم الصورة الأصلية، وفي غالب الأحيان تعطينا دراساتهم صورة غربية مشوهة لحضارة شرقية، وتقدم لنا الإسلام نفسه من خلال نظرة علمانية أونصرانية هذا مع أنه توفرت للمستشرقين من الإمكانيات والعوامل المساعدة ما لم يتوفر لأحد، خاصة عندما بسطت أوروبا نفوذها وسيطرتها الاستعمارية على منطقة العالم الإسلامي وفتحت الأجواء فسيحة للمستشرقين يتجولون في المنطقة بحرية تامة ويعبثون بمصادر الثقافة فيها ومعالم الحضارة.
بل ويستولون على كثير من المخطوطات الثمينة التي تشكل بمجموعها صرح المكتبة الإسلامية الكبرى، فينهبون هذه المخطوطات وينقلونها إلى أوروبا..
حتى أضحى بإمكاننا أن نجزم أن ٩٠% من المخطوطات الثمينة نهبت وانتقلت إلى الغرب إلى مكتبات وجامعات أوروبا وأمريكا، وذلك على أيدي المستشرقين الذين كانوا ينتقونها بخبرة ومعرفة دقيقتين.. ولولا تنبه حكومة الخلافة العثمانية في أواخر أيامها إلى هذه الخطة ومدى خطرها على تراث المسلمين فعمدت إلى نقل كمية كبيرة من تلك المخطوطات إلى تركية لجزمت بأن التراث كله نهب وانتقل إلى يد المستشرقين. ووضعت أوروبا النصرانية تحت يد المستشرقين كل الإمكانيات التي يحتاجونها للتعمق في دراساتهم للعالم الإسلامي واللغة العربية..
1 / 129
فكيف يصعب بعد ذلك على المستشرقين إن يبرزوا للعالم إنتاجا ضخما منسقا وغزيرا في مادته، إنها نتيجة طبيعية لتلك العوامل المساعدة والجهود المبذولة.. ولا نكون مجاملين لأحد عندما نقول إن دراسات المستشرقين أدت خدمات في مجالين:
١- استيعاب المصادر وجمع المعلومات بشكل واسع، وربما ساعدهم على ذلك اهتمامهم بالاختصاص والاختصاص الدقيق بحيث يقضي أحدهم فترة طويلة من عمره في بحث واحد يتفرغ له..
٢- الترتيب والتنسيق في منهج البحث والتأليف، والإحصاء والفهرسة وعنايتهم بهما عناية كبيرة وكان ذلك شيئا جديدا على الدارسين في الفترة التي ظهرت فيها دراسات المستشرقين إلى عالم القراء..
وتنبهت الأوساط العلمية والدارسون في العالم الإسلامي إلى هذا المنهج المنسق الذي ظهر في دراسات المستشرقين فاستفادوا منه في بحوثهم ودراساتهم..
نعترف بهذه الخدمات التي أدتها دراسات المستشرقين مع أننا لا نتدخل الآن ولا نجزم بالنوايا والأهداف، وهل كان أداء هذه الخدمات مقصودا بإخلاص أم أن وراء الأكمة ما وراءها..
ندع ذلك لما سيأتي في آخر البحث حيث سنكشف حقيقة ذلك بشكل لا يدع مجالا للشك أو التردد..
إلا أننا نجد في دراسات المستشرقين عيوبا علمية عديدة تكشف لنا عوار تلك الدراسات بشكل تهبط معه قيمتها إلى درجة قريبة من الصفر!!
ولا نتجنى في الحكم ولا نجزم بغير دليل وكتب المستشرقين في متناول كل باحث بل هي أسرع انتشارا بيننا من كتبنا المعتمدة نفسها!!
١- من المتفق عليه بين الباحثين أنه لكي يصدر الباحث حكما صحيحا ودقيقا في أي قضية علمية أو تاريخية ينبغي أن تتوفر له أسباب عديدة أساسية:
1 / 130
فنظرته للإنسان يجب أن تكون نابعة من تصور سليم وفهم دقيق للنزعات والخصائص الإنسانية، ولكي يستطيع تفسير الحادثة التاريخية يجب أن يكون متفهما ليس لملابساتها فحسب بل لطبيعة الأمة التي تتعلق تلك الحادثة بتاريخها، ومتفهما للتاريخ كله التي تعد تلك الحادثة جزءا صغيرا من أجزاء بنائه المتكامل..
وعندما يناقض ثقافة أو شريعة ما ينبغي أن تصدر مناقشته عن تصور سليم كلي لخصائص تلك الثقافة ومميزات تلك الشريعة وأسسها وإلا فإنه يخلط بين الأشياء خلطا يفقد رأيه كل قيمته العلمية..
وكذلك الأدب تختلف فيه المقاييس والأذواق من أمة لأخرى، ولكل أمة لون من ألوان الفنون والآداب يكون مستحسنا لديها حسب أذواقها ومقاييسها وقد لا يكون كذلك في أذواق أمة أخرى ومقاييسها.. فلا يكون الحكم دقيقا ولا التحليل سليما إذا لم يتذوق الدارس لأدب أمة ما بذوقها هي أولا.. فإذا ما حاول الإنجليزي أن يحكم على الأدب العربي بذوق إنجليزي فإنه يخلط شعبان برمضان ولا يكون لدارسته الأدبية حينئذ أية قيمة علمية..
وهذا الأساس في الدراسات الأدبية لا شك مفقود لدى المستشرقين فتذوقهم للغة العربية وآدابها ضعيف لأنهم لم يستطيعوا التخلص من تأثير أذواقهم الأوروبية، وإنك واجد أثر هذا الذي أقول في سائر دراساتهم للأدب العربي واللغة العربية، مع أنهم أحيانا يعبرون عن ضيق صدورهم بهذه الناحية كما ذكر أحد تلاميذهم من العرب وهو الدكتور صفاء خلوصي (في مقالة نشرت في مجلة الإذاعة البريطانية العدد٢٩٥ مايو ١٩٧٣) إذ قال: قال لي أحد المستشرقين الذين مضوا للقاء ربهم: باعتقادي أن المرء يجب أن يولد عربيا ليتذوق الشعر العربي حق التذوق فإذا استطعت أن تكتب لنا كتابا بالإنجليزية يساعدنا في تذوق الشعر العربي على الوجه الصحيح فسيكون عملك هذا عظيما. ا- هـ.
٢- فإذا انتقلت من العربية لغتها وآدابها إلى الإسلام عقيدته وشريعته وتاريخه وحضارته فهناك ترى الخلط العجيب، إذ كيف يتسنى للمستشرقين أن يتفهموا طبيعة الإنسان المسلم وخصائصه أولا وهم ينظرون إليه بل إلى أهل
1 / 131
الشرق جميعا من نافذة أوروبية ترى أن الشعوب الأوروبية أعلى وأشرف عرقا وجنسا وأن بقية الشعوب دونها رتبة.
كما أنهم يعدون الشعوب المسلمة أدنى في التفكير ويقولون بأن عقلية المسلم- ذرية- ساذجة أي أنه لا يتمتع بالفهم الكلي الشمولي ولا يدرك الأمور إلا بواسطة جزئياتها. كما ذكر المستشرق-جب- في كتابه (وجهة الإسلام) ١.
ولذلك لا نستغرب إن رأينا جميع المستشرقين يطبقون تقسيم التاريخ الأوروبي إلى ثلاثة عصور- العصور الأولى والعصور الوسطى وعصر النهضة الحديثة- يطبقون هذا التقسيم على تاريخ الشعوب جميعا حتى المسلمين، وهذا يعد منهم نقصا علميا فاحشا وجمودا عجيبا إذ أن لكل أمة تاريخها المستقل بأدواره ومراحله وخصائصه..
ثم تأتي العقدة الكبرى المستحكمة- عقدة النصرانية - ومعظم المستشرقين من رجال الكنيسة وعلماء اللاهوت يتبعهم قليل من اليهود..
ونحن لا نبالغ إذا قلنا إن سيطرة روح العداء النصرانية تخيم على سائر المستشرقين وتؤثر على مفاهيمهم وأفكارهم وأن هذه الروح أفسدت سائر دراساتهم للإسلام وهذا يشمل المستشرقين جميعا على اختلاف أشكالهم حتى العلمانيين منهم.. ولندع واحدا من هؤلاء العلمانيين وهو ممن يقال انهم منصفون في دراستهم وهو المستشرق غوستاف لوبون يقول في كتابه (حضارة العرب) ٢.
قد يسأل القارئ بعدما تقدم لم ينكر تأثير العرب علماء الوقت الحاضر الذين يضعون مبدأ حرية الفكر فوق كل اعتبار ديني كما يلوح؟ لا أرى غير جواب واحد عن هذا السؤال الذي أسأل نفسي به أيضا وهو أن استقلالنا الفكري لم يكن في غير الظواهر بالحقيقة وأننا لسنا من أحرار الفكر في بعض الموضوعات كما نريد، فالمرء عندنا ذو شخصيتين: الشخصية العصرية التي كونتها الدراسات
_________
(١) السنة لمصطفى السباعي (ط الدار القومية بمصر ص٣٠)
٢ ط الرابعة ١٣٨٤ ص٥٧٧.
1 / 132
الخاصة والبيئة الخلقية والثقافية، والشخصية القديمة غير الشاعرة التي جمدت وتحجرت بفعل الأجداد وكانت خلاصة لماض طويل، والشخصية غير الشاعرة وحدها ووحدها فقط هي التي تتكلم عند أكثر الناس وتمسك فيهم المعتقدات نفسها مسماة بأسماء مختلفة وتملي عليهم آراءهم فيلوح ما تمليه عليهم من الآراء حرا في الظاهر فيُحترم، والحق أن أتباع محمد ظلوا أشد من عرفته أوروبة من الأعداء إرهابا عدة قرون وأنهم عندما كانوا لا يرعدوننا بأسلحتهم كما في زمن شارل مارتن والحروب الصليبية أو يهددون أوروبا بعد فتح القسطنطينية كانوا يذلوننا بأفضلية حضارتهم الساحقة وأننا لم نتحرر من نفوذهم إلا بالأمس وتراكمت مبتسراتنا الموروثة ضد الإسلام والمسلمين في قرون كثيرة وصارت جزءا من مزاجنا وأضحت طبيعة متأصلة فينا تأصل حقد اليهود على النصارى الخفي أحيانا والعميق دائما، وإذا أضفنا إلى مبتسراتنا الموروثة ضد المسلمين مبتسرنا الموروث الذي زاد مع القرون بفعل ثقافتنا المدرسية البغيضة القائلة إن اليونان واللاتين وحدهم منبع العلوم والآداب في الزمن الماضي أدركنا بسهولة سر جحودنا العام لتأثير العرب العظيم في تاريخ حضارة أوروبة..
ويتراءى لبعض الفضلاء أن من العار أن يُرى أن أوروبة النصرانية مدينة لأولئك الكافرين في خروجها من دور التوحش فعار ظاهر كهذا لا يقبل إلا بصعوبة. ا-هـ.
ولا أظن أن الأمر بعد هذا الاعتراف من هذا المستشرق يحتاج إلى أي إيضاح إلا أن نقول أن عددًا من المستشرقين الذين تهاوت الغشاوة عن أعينهم فأدركوا إدراكًا جازمًا حقيقة هذا الدين وصدق الرسول ﷺ. كانت عقدة الغرور الأوروبية تعود فتتغلب على عقولهم فإذا بهم يعربون في غرور وصلف عن الأسى الذي يحز في نفوسهم الحاقدة وعن عدم مقدرتهم لاتباعه الحق مع معرفتهم له: ﴿قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ ..
وينقل عن المستشرق الفرنسي رينان وهو من أشهرهم أنه قال:
1 / 133
إنني لم أدخل مسجدًا من غير أن أهتز خاشعًا وأشعر بشيء من الحسرة على أنني لست مسلما١.
٣- ذكرنا اتهام المستشرق- جب - لعقلية المسلم بأنها عقلية (ذرية) لا تدرك الأشياء إدراكًا كليًا، ونحن لن نناقش هذه التهمة لكننا نقول إن المستشرقين في دراساتهم الإسلامية يصدرون عن عقلية عجيبة لا هي بالذرية التي تدرك الأشياء بجزئياتها ولا هي بالكلية التي تدركها إدراكا كليا..
فدراسة عقيدة الإسلام أو شريعته أو حضارته أو تاريخه تحتاج إلى فهم كلي شامل لطبيعة هذا الدين وخصائصه ومقوماته حينئذ فقط تكون دراسة أي جزء من أجزاء البناء الإسلامي المتكامل سليمة ومجدية هذا من جهة..
ومن جهة أخرى إن دراسة أي جزء من أجزاء بناء الثقافة الإسلامية يجب أن تكون وفق المنهج الإسلامي المتميز باصطلاحاته وقواعده إذ أن كل جزء من أجزاء ثقافتنا له مصطلحات ورموز وقواعد إن لم يدركها الدارس يتخبط في دراسته ويخلط الحابل بالنابل حتى يصل إلى مستوى علمي رديء فيه يسمى عند علمائنا حاطب ليل..
لكننا نرى المستشرقين في سائر دراساتهم فقدوا هاتين الناحيتين أو هم تجاهلوها فهم يفهمون الإسلام كما تهوى أفئدتهم بل كما تخيل إليهم نفوسهم غير الشاعرة المطبوعة على الروح النصرانية الحاقدة..
فأنى لهم أن يدركوا حقيقة الإسلام الكلية الشاملة التي إن فقدت لدى باحث - أي باحث - اطرحنا أحكامه ودراساته جانبًا لأنه حينئذ سيهيم على غير هدى في خضم (تراث) متلاطم الأمواج تلاطم بحر الظلمات..
إننا نجد المستشرقين في دراساتهم للإسلام فقدوا إدراكه حتى بالجزئيات فإذا درسوا الحديث أو الشريعة كان من مصادرهم الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني
_________
١ حضارة العرب لغوستاف لوبون ص٥٧٩.
1 / 134
والعقد الفريد لابن عبد ربه وربما اعتمدوا عند الحاجة على أغرب من ذلك من المصادر الواهية المختلطة. فإن علم بعضهم المصادر الحقيقية من أمهات كتب الحديث والفقه فأنى لهم التمييز بين المرويات وتجريد الصحيح من الموضوع والراجح من مسائل الفقه من المرجوح.
وكم اعتمدوا في دراستهم التاريخية على (الإمامة والسياسة) المنسوب لابن قتيبة أو (بدائع الزهور ووقائع الدهور) وربما (ألف ليلة وليلة) وقد صار لها شأن عظيم لديهم فحرصوا على ترجمتها إلى لغاتهم وأحاطوها بعنايتهم.
وإن علم بعضهم أن تاريخ الإسلام يؤخذ من مصادره الحقيقية ككتب ابن جرير وابن كثير وابن إسحاق ونحوها فأنى لهم تحقيق ما في هذه المصادر الجامعة من الأخبار والتمييز بين سقيمها وصحيحها وهل تتحمل أفئدتهم وتقبل أهواؤهم تجشم المشاق الهائلة في سبيل ذلك كله..
إن الدارس المنصف لا يحتاج إلى أكثر من عقلية (ذرية) لكي يدرك أن حقيقة الإسلام لن يجدها عند أبي جهل كما أن حقيقة مريم الصديقة الطاهرة لن يجدها عند اليهود، وأن من يبحث عن الذهب والفضة والجواهر الكريمة لا يذهب إلى الحداد..
والمستشرقون يعترفون بناحية النقص الخطيرة هذه التي ذكرها في دراساتهم في بعض المناسبات يقول العلامة مصطفى السباعي ﵀ عن حديثه عن المستشرقين في كتابه (السنة):
قال لي المستشرق (آربري) رئيس قسم الدراسات العربية والإسلامية في جامعة كمبردج: إننا نحن المستشرقين نقع في أخطاء كثيرة في بحوثنا عن الإسلام ومن الواجب ألا نخوض في هذا الميدان لأنكم أنتم المسلمين العرب أقدر منا على الخوض في هذه الأبحاث.١ ا-هـ.
_________
١ السنة ومكانتها في التشريع للسباعي ص٢٢.
1 / 135
والأمثلة كثيرة على ما ذكرنا من دراساتهم لكنني سأكتفي بمثالين منها وعلى من يريد الاستقصاء الرجوع إلى كتبهم المتوفرة..
في مجموعة بحوث عن المغازي ومؤلفيها نشرت في مجلة - الثقافة الإسلامية- وهي مجلة استشراقية كانت تصدر في الهند يقول المستشرق الألماني (يوسف هوروفتس) في معرض كلامه عن موقف العلماء من الشعر:
ومن هؤلاء الفقهاء من لم يشتهر بقول الشعر ولكن اشتهر بتذوق الفن الشعري في عصره ونقده له مثل أحد الفقهاء الستة الذين ذكرهم عبيد الله - يقصد عبد الله ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود - قال: أعني سعيد بن المسيب وهو ابن امرأة أبي هريرة وأحد أركان علم الحديث. ثم يذكر الروايات التي استند إليها في رأيه هذا فإذا بها من الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ومنها قوله:
وفي كتاب الأغاني خبر يبين إعجاب هذه الجماعات بالكلام البليغ في جميع الظروف فيروى عبد الله بن عمر: خرجت حاجا فرأيت امرأة جميلة تتكلم بكلام رفثت فيه فأدنيت ناقتي منها ثم قلت لها: يا أمة الله ألست حاجة أما تخافين الله؟ فسفرت عن وجه يبهر الشمس حسنا ثم قالت: تأمّل يا عمي فإني ممن عنى العرجي بقوله:
من اللاء لم يحججن يبغين حسبة ... ولكن ليقتلن البرئ المغفلا
قال فقلت لها: مهلا فإني أسأل الله ألا يعذب هذا الوجه بالنار ...
قال وبلغ ذلك سعيد بن المسيب فقال أما والله لو كان من بعض بغضاء العراق لقال لها: اعزبي قبحك الله، ولكنه ظرف عباد الحجاز١ ا-هـ.
ونحن لن نناقش صحة هذا الرأي عن تذوق العلماء عن الشعر وقد كان كثير منهم يتذوقه تذوق الناقد الخبير وإن كنا نقف عند قول - هورفتس -: في كل الظروف. مرتابين من مقصده؟ إلا أننا نبغي بهذا المثال الإشارة إلى نوع
_________
(١) المغازي ومؤلفوها ترجمة حسين نصار (ط- الحلبي بمصر ص٧-٨) .
1 / 136
المصدر الذي عول عليه في هذه المسألة ألا وهو كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني الذي يقول عنه بعض علماء الأسانيد والرجال: إنه كان أكذب الناس١.
المثال الثاني: ما ذكره المستشرق المجري جولد زيهر في كتابه (مذاهب التفسير الإسلامي) عن حديثه عن تأويلات المعتزلة عند تفسيرهم للقرآن حسب ما تمليه عليهم آراؤهم في الاعتقاد، فقد ضرب مثالا بالشريف المرتضى في محاولته في كتابه الغرر في تأويل قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ بأن حرف- إلى - هو كلمة بمعنى النعمة.. يقول جولد زيهر: فالمرتضى في قوله: ﴿وُجُوهٌ ... إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ يستبعد اعتراض المشبهة بتجريد لفظ إلى من طابعه الحرفي وتفسيره على أنه جمع مفرده ألًا أي نعمة، أي ناظرة نعم ربها..ا- هـ.
هكذا فهمها هذا المستشرق الذي استعرض عضلاته العلمية في كتابه هذا متطفلا على علم التفسير: أن لفظة-إلى- بمعنى النعمة جمع مفردة ألًا بينما أصغر طالب علم عندنا يستطيع بمراجعة القاموس أن يعرف أن إلىً وألًا مفردان يجمعان على آلاء. فيكون المعنى الذي تكلفه المرتضى قسرا: وجوه ناظرة نعمة ربها..
هذا مع أن هذا المستشرق يعد لدى المستشرقين أعلمهم بعلوم الإسلام إذ قضى فترة طويلة في بلاد المسلمين يدرس على علمائهم وممن درس عليهم اللغة العربية الشيخ طاهر الجزائري..
ويكفينا هذان المثالان نموذجا لما ذكرنا من عيوب دراسات المستشرقين في خلال هذه الدراسة العاجلة..
_________
ميزان الاعتدال (ط الحلبي بمصر ٣: ١٢٣) .
1 / 137
المستشرقون في ميزان الإسلام:
آيات كثيرة في القرآن تنبهنا إلى حقيقة دائمة إلى يوم القيامة هي أن العلاقة بيننا وبين أهل الكتاب ستبقى صراعا مريرا بين إيمان وكفر..
وأن أهل الكتاب - وهم اليهود والنصارى- سيبذلون قصارى جهودهم لتدميرنا وإخضاعنا لهم واتباعنا لملتهم..
ولنترك وقائع التاريخ تتكلم لتثبت لنا هذه الحقيقة:
يقول التاريخ إن الحركة الاستشراق وجه جديد لنشاط الكنيسة الصليبية التخريبي في بلاد المسلمين لا شك في ذلك ولا امتراء..
وهذا حكم لا ندعيه نحن فقط فيقال إنه مجازفة أو مبالغة ولكن الصليبيين أنفسهم يثبتونه، وما سجله التاريخ والدارسون من أهل الغرب:
يقل المستشرق المسلم - دود كاون - محاولا إضفاء مسحة من البراءة على أهداف حركة الاستشراق البريطانية في القرون الأخيرة ابتداء بالقرن السادس عشر الميلادي وذلك عند ذكره لشركة الهند الشرقية التي كنت طليعة الاستعمار البريطانية الوحشي للهند المسلمة يقول:
كان هناك نوع آخر من مستخدمي الشركة لا يهمه جمع ثروة أو الظهور كملك صغير فالرجال المنتمون إلى هذه الفئة كانوا يكرسون حياتهم لفهم ودراسة ثقافات الهند المتباينة وآدابها وأديانها المختلفة وقد ترك كثيرون من هؤلاء الرجال مؤلفات قيمة تدل على سعة أفكارهم وعطفهم على الشعب بل لشعوب التي رأوا أنفسهم مسئولين عنها. ا-هـ١.
ولعل هذا المستشرق يريد بالعطف المذكور إراقة دماء المسلمين بحارًا
_________
١ من محاضرة ألقاها المستشرق المذكور في جامعة الملك عبد العزيز بجدة والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
1 / 138
والهزات العنيفة التي منيت بها أمام تأثير هذه الحضارة فاتخذت هذه الكنيسة منذ البداية موقف المقاومة الشرسة والعداوة المستحكمة تجاه المسلمين وحضارتهم..
وعندما بدأت دولة المسلمين يتصدع بنيانها في الأندلس أو في بيت المقدس ووجدت الكنيسة الصليبية الفرصة سانحة قامت بهجمات وحشية بربرية على المسلمين وأراقت دماءهم بغير حساب مكافأة لهم على جميلهم الذي أسدوه لأوروبا حينما علموا شعوبها كيف تكون الحضارة.. وكيف يمارس الإنسان دينه دون إكراه أو كما يعبرون هم - علموهم حرية الضمير - ونشط ما يسمى - بالتبشير - واتخذت هذه الحركة هدفًا واحدًا وضعته نصب أعينها منذ تلك الحقب إلى اليوم وهو تدمير هذه الحضارة الإسلامية والقضاء على الإسلام واستئصال شأفة المسلمين.. بالمسائل المشروعة وغير المشروعة، والأساليب الممكنة والوحشية على قدم سواء..
٢- رأت الكنيسة الصليبية بعد تجارب مريرة في العالم الإسلامي أن أخطر وأنجع الوسائل التي يمكن أن تستخدمها هو - التعليم - فاستغلته إلى أبعد الحدود وفتحت المدارس والكليات الصليبية ليس في أوروبا فحسب بل في قلب العالم الإسلامي منتهزة فرصة وقوعه تحت السيطرة الاستعمارية الأوروبية وكان من تلك الكليات - الكلية الإنجليزية - في بيروت التي غير اسمها فيما بعد بالجامعة الأمريكية ومثلها الجامعة الأمريكية في القاهرة وكلية أخرى في إسلامبول بتركية وبدأت الكنيسة حملات ثقافية وتعليمية لتشويه الإسلام في نفوس أبنائه ولكن بشكل سافر وأسلوب بذيء فيه الكثير من التحدي والاستفزاز والاستهانة بمشاعر المسلمين وعقلياتهم..
يقول - بنروز - رئيس الكلية الإنجيلية في بيروت في منتصف القرن العشرين النصراني:
1 / 140
"لقد برهن التعليم أنه أثمن الوسائل التي استطاع المبشرون أن يلجئوا إليها في سعيهم لتنصير سورية ولبنان"ا-هـ١.
وقد كانت آمال الكنيسة الصليبية عريضة حينذاك فقد كان كهنتها ينتظرون أن يقع المسلمون في شباكهم بسهولة وينقلبوا نصارى في فترة وجيزة ويكفروا بدينهم وقرآنهم ونبيهم صلى الله عليه سلم.
حتى إن أحد زعمائهم كان يقول في مطلع هذا القرن وبكل استفزاز وغرور: متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب يمكننا أن نرى حينئذ العربي يتدرج في سبيل الحضارة التي لم يتعده إلا محمد وكتابه. ا-هـ.
نشرت ذلك مجلة (العالم الإسلامي) الصليبية الفرنسية٢.
ولكن الكنيسة الصليبية تلاشت آمالها أمام صخرة من الصمود الإسلامي من الشعوب الإسلامية فقد كانت تلك الحملات الاستفزازية سببًا لنفور المسلم في كل قطر ويقظته لما يدبر له من مكائد الكنيسة فلم تثمر جهودها الواسعة شيئًا وكان عدد المنتصرين لايكاد يذكر حتى القليل المتنصرون كانوا يتظاهرون بذلك لأسباب مختلفة ليس منها الانخداع بأباطيل الكنيسة وخرافاتها.. وفوجئ رجال الكنيسة أن الإسلام رغم كل ما بذلوه لمحاربته يزحف بشكل رائع وبأبسط الوسائل. ومن بحوثهم يظهر أنهم يعتبرون أخطر وسائل انتشار الإسلام هو -السلوك الإسلامي - الذي كان يظهر به المسلمون الذين كانوا يجوبون أقطار إفريقيا أو جنوب شرق آسيا من التجار وغيرهم فقد كانت أخلاقهم ومعاملاتهم وحدها كفيلة بنشر هذا الدين العظيم..
فقدرت الكنيسة حينئذ قوة هذا الدين وتماسكه ومدى تأثيره في النفوس وأنه حضارة متكاملة الجوانب شديدة البنيان لم تستطع معاولهم التأثير عليها، جاء في مقدمة كتاب بعنوان - العالم الإسلامي - نشره القسيس صموئيل زويمر
_________
(١) التبشير والاستعمار ص ٤٥ (ط الثالثة ١٣٨٤هـ) .
٢ الغارة على العالم الإسلامي (ط السلفية ١٣٥٠هـ) .
1 / 141
وكان رئيس الإرسالية الصليبية في البحرين في مطلع هذا القرن ونشرت بعض فصوله مجلة العالم الإسلامي الصليبية جاءت فيه هذه العبارة:
"إن الكنيسة المسيحية ارتكبت خطأً كبيرًا بتركها المسلمين وشأنهم إذ ظهر لها أن أهمية الإسلام تأتي في الدرجة الثانية بالنسبة لثمانمائة مليون وثني رأت أن تشتغل بهم رأت هذا وهي لم تعرف عظمة الإسلام وحقيقة قوته وسرعة نموه إلا منذ ثلاثين سنة فقط" (١) .
٢- لما تنبهت الكنيسة الصليبية لهذه الحقيقة وزالت عن أعينها غشاوة الغرور بدأت تغير أسلوبها وتتبع أسلوبا آخر فيه الكثير من الخبث والفعالية..
ودفعها إلى ذلك أيضا ما رأت من وثبة العالم الإسلامي فجأة على مستعمريه الأوروبيين وبداية عهد الاستقلال والنهضة.. فعقدت ثلاثة مؤتمرات صليبية هامة أولها في القاهرة سنة ١٩٠٦م وثانيها في أدنبرة سنة ١٩١٠ وثالثها في لكنو بالهند سنة ١٩١١م وكان من أهم نتائج هذه المؤتمرات الذي نفذ مباشرة العناية بتوسيع دائرة دراسات رجال الكنيسة للإسلام واللغة العربية وتعميقها وذلك بإنشاء مدارس خاصة بتعليم رجالها العاملين في البلاد الإسلامية تعلم فيها اللغة العربية والعلوم الإسلامية وتاريخ الأوضاع الإسلامية والأمور الاجتماعية التي اقتبسها هؤلاء من بلاد الإسلام وتنشأ مكتبة ضخمة في كل مدرسة تحوي أمهات الكتب العربية وغير العربية المتعلقة بالإسلام..
وفي بريطانيا بالذات وبعد هذه المؤتمرات بخمس سنين أنشئ معهد الدراسات الشرقية في جامعة لندن بعد أن شكلت لجنة بأمر من الحكومة البريطانية لدراسة حاجة بريطانيا لهذا النوع من الدراسات كما أشار إلى ذلك المستشرق داود كاون.. وربما قيل وما علاقة هذا بذاك فإن الحكومة البريطانية أو جامعة لندن أو غيرهما من الحكومات والجامعات الأوروبية ليس من الضروري أن تكون متضامنة مع الكنيسة في خططها لأنها جهات علمانية، ولكن الحقائق تقول إن
_________
١ الغارة على العالم الإسلامي (ط السلفية ١٣٥٠هـ) .
1 / 142
الكنيسة عمدت إلى إظهار هذه الجامعات وخاصة مراكز الدراسات الشرقية فيها بمظهر علماني كخطة معينة، وإن التنسيق قائم بين الحكومات الاستعمارية والكنيسة الصليبية بل وكانت الشركات الكبرى الصناعية تشارك أحيانا كثيرة في تلك الجهود لأن مصالح الجميع التقت حول العالم الإسلامي، ولم يكن اسم - التبشير - الذي أطلقه رجال الكنيسة الصليبية على نشاطاتهم الهدامة إلا من قبيل التمويه والخداع وإلا فإنهم لم يكونوا مخلصين للإنسانية في يوم من الأيام وخاصة الشعوب الإسلامية وقد كانوا دائما في كل قطر إسلامي يحلون فيه طلائع جيوش الاستعمار وجواسيسه وعملاءه، وكان معظم المستشرقين موظفين في السلك السياسي للدول الاستعمارية أو في مخابراتها..
وقد اعتنت بهم تلك الحكومات وأمدتهم بالإمكانيات وقدمت لهم الحماية الكاملة لما رأت من فعالية جهودهم ونشاطهم حيث اطلعوا على أسرار العالم الإسلامي وعلومه ولغاته..
في مقالة للقسيس صموئيل زويمر نشرتها مجلة العالم الإسلامي الصليبية جاء ما يأتي:
"اتفقت آراء سفراء الدول الكبرى في عاصمة السلطنة العثمانية على أن معاهد التعليم الثانوية التي أنشأها الأوروبيون كان لها تأثير على حل المسألة الشرقية يرجح على العمل المشترك الذي قامت به دول أوروبا كلها "١ ا-هـ.
ومن العجيب أنه في نفس الوقت الذي عقدت فيه مؤتمرات رجال الكنيسة الصليبية والتي قرروا فيها أهمية توسيع دائرة الدراسات الإسلامية والعربية لاستخدامها في تحقيق مآربهم عقد مؤتمر اقتصادي استعماري في برلين بألمانيا كان من أهم قراراته ما ذكره رئيس غرفة التجارة في هامبورغ وهو قوله:
"إن نمو ثروة الاستعمار متوقف على أهمية الرجال الذين يذهبون إلى
_________
١ الغارة على العالم الإسلامي ص٧٢.
1 / 143
المستعمرات وأهم وسيلة للحصول على هذه الأمنية إدخال الدين المسيحي في البلاد المستعمرة لأن هذا هو الشرط الجوهري للحصول على الأمنية المنشودة حتى من الوجهة الاقتصادية.
ومن أسرار التاريخ المفجعة أن نعلم أن الكنيسة الصليبية تعاونت مع الصهيونية وحكومة بريطانيا على سلب فلسطين من المسلمين وتقديمها هدية رخيصة لليهود وأن روتشيلد الثري الصهيوني كان يساعد الجميع١.
ولا آتي بسر خفي إذا قلت أيضا أن معظم مراكز الدراسات الإسلامية والعربية في بريطانيا أسست بعد مؤتمري أدنبره ولكنو الصليبيين وبعد اللجنة التي أمرت الحكومة البريطانية بتكوينها لما أحست بأن مصالحها الاستعمارية في العالم الإسلامي تحتم استخدام هذه الدراسات كوسيلة فعالة..
وهذا شيء لا ندعيه نحن بل يصرحون به أنفسهم وهم لا يخفون أيضًا أن عددًا من تلك الكراسي كان يؤدي عمله بتمويل من بعض الشركات الصناعية أو أصحاب المصالح من المتمولين، يقول المستشرق -جون بيرتون - رئيس قسم الدراسات العربية بجامعة أندروز في مقالة نشرتها مجلة الإذاعة البريطانية٢:
"لم تتأسس دائرة الدراسات العربية بوصفها الحاضر في جامعة سانت أندروز إلا في سنة ١٩٦٨م وقد حصل ذلك إلى حد ما نتيجة لتقرير رفع إلى الحكومة (؟) يحث الجامعات على الاعتراف بخطورة دراسة حياة الشعوب العربية الحديثة ولقد أصبح استقلال العرب ومطامحهم القوية منذ الحرب عاملًا خطيرًا متناميًا في السياسة العالمية".ا-هـ.
وعن كرسي الدراسات الإسلامية في جامعة كمبردح يذكر المستشرق روبرت سارجنت أن أول كرسي أنشئ في الجامعة سنة ١٦٣٢م حينما تعهد
_________
١ التبشير والاستعمار ص١٨٢.
٢ مجلة هنا لندن العدد ٣٠١ نوفمبر ١٩٧٣م.
1 / 144