بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله خالق الإنسان، الذي علمه البيان والصلاة والدائمة على سيدنا محمد نبيه وصفوته من الأكوان، وعلى آله وأصحابه ما أبنّ أبان، وأعرب لسان وأبان.
وبعد، فقد ذكرت في هذا الكتاب الموسوم بنزهة الألباء في طبقات الأدباء، معارف أهل هذه الصناعة الأعيان، ومن قاربهم في المعرفة والإتقان، وبينت أحوالهم وأزمانهم على غاية من الكشف والبيان، فالله ينفع به، إنه الكريم المنان.
أول من وضع علم العربية
اعلم أيدك الله تعالى بالتوفيق، وأرشدك إلى سواء الطريق، أن أول من وضع علم العربية، وأسس قواعده، وحد حدوده، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ﵁، وأخذ عنه أبو الأسود ظالم بن عمرو بن سفيان الدؤلي، وهو منسوب إلى الدئل بن بكر بن كنانة. والدئل، على "فُعِل" اسم دُوَيبة، تسمى الرجل بها، قال سيبويه: وليس في كلام العرب اسم على وزن "فُعِل" غيره، وأنشد:
1 / 17
جاءوا بجيش لو قيس معرسه ... ما كان إلا كمعرس الدئل
وحكى غيره: رُئِم، اسم للسبة، ووعل [لغة] في الوعل. والديل في عبد القيس، والدول في حنيفة.
وسبب وضع علي ﵁ لهذا العلم، ما روى أبو الأسود، قال: دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ﵁، فوجدت في يده رقعة، فقت: ما هذه يا أمير المؤمنين؟ فقال: إني تأملت كلام الناس فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء -يعني الأعاجم- فأردت أن أضع لهم شيئًا يرجعون إليه، ويعتمدون عليه؛ ثم ألقى إليّ الرقعة، وفيها مكتوب: "الكلام كله اسم، وفعل، وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبئ به، والحرف ما جاء لمعنى"، وقال لي: "انحُ هذا النحو، وأضف إليه ما وقع إليك، واعلم يا أبو الأسود أن الأسماء ثلاثة: ظاهر، ومضمر، واسمٌ لا ظاهر ولا مضمر؛ وإنما يتفاضل الناس يا أبا الأسود فيما ليس بظاهرٍ ولا مضمر" وأراد بذلك الاسم المبهم.
قال أبو الأسود: فكان ما وقع إليّ: "إن" وأخواتها ما خلا "لكن". فلما عرضتها على علي ﵁،
1 / 18
قال لي: وأين لكنّ؟ فقال: ما حسبتها منها؛ فقال: هي منها فألحقها، ثم قال: ما أحسن هذا النحو الذي نحوت! فلذلك سمي النحو نحوًا.
أبو الأسود الدؤلي
وكان أبو الأسود فيمن صحب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ﵁؛ وكان من المشهورين بصحبته ومحبته ومحبة أهل بيته، وفي ذلك يقول:
يقول الأرذلون بنو قُشيْرٍ ... طوال الدهر لا تنسى عليا!
فقلت لهم: فكيف يكون تركي ... من الأعمال ما يحصى عليا
أحب محمدا حُبًّا شديدًا ... وعباسا وحمزة والوصيَّا
فإن يك حبهم رشدًا أصبه ... وفيهم أسوة إن كان غيّا
فكم رشدًا أصبت وحزت مجدًا ... تقاصر دونه هام الثريا
وكان ينزل البصرة في بني قشير، وكانوا يرجمونه بالليل لمحبته عليًّا ﵁ وأهل بيته؛ فإذا ذكر رجمهم له، قالوا: إن الله يرجمك؛ فيقول لهم: تكذبون، ولو رجمني الله أصابني، ولكنكم ترجمون فلا تصيبون.
وروى أن سبب وضع علي ﵁ لهذا العلم أنه سمع أعرابيًا يقرأ: "لا يأكُلُه إلا الخاطئين" فوضع النحو.
ويروى أيضًا أنه قدم أعرابي في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ﵁ فقال: من يقرئني شيئًا مما أنزل الله على محمد ﷺ فأقرأه رجل سورة براءة، فقال:] أن الله بريءٌ من المشركين ورسولِه [بالجر، فقال الأعرابي: أو قد برئ الله من رسوله! إن يكن الله برئ من رسوله فأنا أبرأ منه! فبلغ عمر ﵁ مقالة الأعرابي، فدعاه فقال: يا أعرابي، أتبرأ من رسول الله! فقال: يا أمير المؤمنين، إني قدمت المدينة، ولا علم لي بالقرآن، فسألت من يقرئني، فأقرأني هذا
1 / 19
سورة براءة، فقال:] أن الله بريءٌ من المشركين ورسولِه [، فقلت: أو قد برئ الله تعالى من رسوله! إن يكن برئ من رسوله، فأنا أبرأ منه. فقال له عمر ﵁: ليس هكذا يا أعرابي، فقال: كيف هي يا أمير المؤمنين؟ فقال:] أن الله بريءٌ من المشركين ورسولُهُ [فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ ممن برئ الله ورسوله منه. فأمر عمر ﵁ ألا يقرئ القرآن إلا عالمٌ باللغة، وأمر أبا الأسود أن يضع النحو.
وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى وغيره: أخذ أبو الأسود النحو عن علي بن أبي طالب ﵁.
وروى أيضًا أن زياد بن أبيه بعث إلى أبي الأسود، وقال له: يا أبا الأسود، إن هذه الحمراء قد كثرت وأفسدت من ألسن العرب، فلو وضعت شيئًا يصلح به الناس كلامهم، ويعرب كتاب الله تعالى! فأبى أبا الأسود، وكره إجابة زياد إلى ما سأل، فوجه زياد رجلًا وقال له: اقعد على طريق أبي الأسود؛ فإذا مر بك فاقرأ شيئًا من القرآن، وتعمّد اللحن فيه. فقعد الرجل على طريق أبي الأسود، فلما مر به رفع صوته فقرأ:] أن الله بريء من المشركين ورسوله [بالجر، فاستعظم أبو الأسود ذلك، وقال: عز وجه الله أن يبرأ من رسوله! ورجع من حاله، إلى زياد، وقال: يا هذا، قد أجبتك إلى ما سألت، ورأيت أن أبدأ بإعراب القرآن، فابعث إليَّ ثلاثين رجلًا؛ فأحضرهم زياد، فاختار منهم أبو الأسود عشرة، ثم لم يزل يختارهم حتى اختار منهم رجلًا من عبد القيس، فقال: خذ المصحف وصبغًا يخالف لون المداد، فإذا فتحت شفتيَّ فانقط واحدة فوق الحرف، وإذا ضممتهما فاجعل النقطة إلى جانب الخرف، وإذا كسرتهما فاجعل النقطة في أسفله، فإن أتبعت شيئًا من هذه الحركات غنَّةً فانقط نقطتين.
فابتدأ بالمصحف حتى أتى على آخره، ثم وضع المختصر المنسوب إليه بعد ذلك.
1 / 20
وروى عاصم قال: جاء أبو الأسود الدؤلي إلى زياد وهو أمير بالبصرة؛ فقال: إني أرى العرب قد خالطت هذه الأعاجم، وفسدت ألسنتها، أفتأذن لي أن أضع للعرب ما يعرفون به كلامهم؟ فقال له زياد: لا تفعل، قال: فجاء رجل إلى زياد، فقال: أصلح الله الأمير! "تُوفِّي أبانا وترك بنونًا"، فقال له زياد: "تُوُفِّيَ أبانا وترك بنونا! "، ادع لي أبا الأسود؛ فلما جاءه قال له: ضع للناس ما كنت نهيتك عنه؛ ففعل.
ويروى أيضًا، أن أبا الأسود الدؤلي قالت له ابنته: ما أحسنُ السماءِ! فقال لها: نجومها، فقالت: إني لم أرد هذا، وإنما تعجبت من حسنها؛ فقال لها: إذن فقولي: ما أحسنَ السماءَ! فحينئذ وضع النحو؛ وأول ما رسم منه باب التعجب.
وحكى أبو حاتم السجستاني، قال: ولد أبو الأسود في الجاهلية، وأخذ النحو عن علي بن أبي طالب ﵁.
وروى أبو سلمة موسى بن إسماعيل، عن أبيه، قال: كان أبو الأسود أول من وضع النحو بالبصرة.
وزعم قوم أن أول من وضع النحو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج.
وزعم آخرون أو أول من وضع النحو نصر بن عاصم.
فأما زعم من زعم أن أول من وضع النحو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ونصر بن عاصم فليس بصحيح؛ لأن عبد الرحمن بن هرمز، أخذ النحو عن أبي الأسود، وكذلك أيضًا نصر بن عاصم أخذه عن أبي الأسود، ويقال عن ميمون الأقرن.
والصحيح أن أول من وضع النحو علي بن أبي طالب ﵁؛ لأن الروايات كلها تسند إلى أبي الأسود، وأبو الأسود يسند إلى علي بن أبي طالب ﵁؛ فإن رويَ
1 / 21
عن أبي الأسود أنه سئل فقيل له: من أين لك هذا النحو؟ فقال: لفقت حدوده من علي بن أبي طالب ﵁.
ويحكى عن يحيى بن معين ﵁ أنه قال: مات أبو الأسود الدؤلي ﵁ في الطاعون الجارف سنة تسع وستين. قال يحيى: ويقال: إنه مات قبل الطاعون؛ وذلك في خلافة أبي خبيب عبد الله بن الزبير.
وأخذ عن أبي الأسود الدؤلي
عنبسة الفيل، وميمون الأقرن، ونصر بن عاصم، وعبد الرحمن بن هرمز، ويحية بن يعمر.
عنبسة الفيل
فأما عنبسة الفيل، فهو عنبسة بن معدان، وكان معدان رجلًا من أهل ميسان، قدم وأقام بها، وكان يقال له: معدان الفيل.
وسبب ذلك أن عبد الله بن عامر كان له فيل بالبصرة، وقد استكثر النفقة عليه، فأتاه معدان، فتقبل بنفقته، وفضل في كل
1 / 22
شهر، فكان يدعى معدان الفيل، فنشأ له عنبسة، فتعلم النحو على أبي الأسود، وروى الشعر، وانتسب إلى مهرة ابن حيدان، وروى لجرير شعرًا، فبلغ ذلك الفرزدق، فقال يهجوه:
لقد كان في معدان والفيل زاجرٌ ... لعنبسة الراوي علي القصائدا
ويروى أن بعض عمال البصرة سأل عنبسة عن هذا البيت وعن الفيل، فقال عنبسة: لم يقل: "الفيل"، وإنما قال: "اللؤم"، فقال لعنبسة: إن أمرًا تفر منه إلى "اللؤم" لأمر عظيم!.
ويروى عن أبي عبيدة معمر بن المثنى أنه قال: اختلف الناس إلى أبي الأسود الدؤلي يتعلمون منه العربية، فكان أبرع أصحابه عنبسة بن معدان المهري، واختلف الناس إلى عنبسة، فكان أبرع أصحابه ميمون الأقرع.
وروي أيضًا عن أبي عبيدة أنه قال: أول من وضع النحو أبو الأسود الدؤلي، ثم ميمون الأقرن، ثم عنبسة الفيل، ثم عبد الله بن أبي إسحاق، ثم عيسى بن عمر. ففي هذه الرواية ميمون الأقرن قبل عنبسة، وفي تلك الرواية عنبسة قبل ميمون.
نصر الليثي
وأما نصر بن عاصم الليثي، فإنه كان فقيهًا عالمًا بالعربية، فصيحًا، قال عمرو بن دينار: اجتمعت أنا والزهري، ونصر بن عاصم، فتكلم نصر، فقال
1 / 23
الزهري: إنه ليفلق العربية تفليقًا. قال المدائني: وكان يرى الخوارج؛ ثم تركهم ورجع عنه، وقال في ذلك:
فارقت نجدة والذين تزرقوا ... وابن الزبير وشيعة الكذاب
وهوى النجارين قد فارقته ... وعطية المتجبر المرتاب
وقرأن القرآن أيضًا على أبي الأسود، وقرأ أبو الأسود على علي ﵁، فكان أستاذه في القراءة والنحو. مات سنة تسع وثمانين في أيام الوليد بن عبد الملك.
ويقال: إنه مات بالبصرة لسنة تسعين في أيام الوليد أيضًا.
أبو داود الأعرج
وأما الأعرج؛ فهو أبو داود عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وكان مولى لمحمد بن ربيعة بن الحارث بن المطلب.
وكان أحد القراء، عالمًا بالعربية، وأعلم الناس بأنساب العرب، وخرج إلى الإسكندرية، وأقام بها إلى أن مات سنة سبع عشرة ومائة في أيام هشام بن عبد الملك.
يحيى بن يعمر
وأما يحيى بن يعمر العدواني؛ فيكنى أبا سليمان، وهو رجل من عدوان بن
1 / 24
قيس بن غيلان بن مضر، وكان عالمًا بالعربية والحديث، ولقي عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وغيرهما من الصحابة.
وروى عنه قتادة، وكان من الفصحاء، وكان قد ولاه يزيد بن المهلب القضاء بخراسان، فقال له يومًا: هل تشرب النبيذ؟ فقال: ما أدعه في صباحي ومسائي، فقال له: أنت ونبيذك؛ وعزله عن القضاء.
ويروى أن الحجاج بن يوسف قال له: أتجدني ألحن؟ فقال: الأمير أفصح من ذلك، فقال: عزمت عليك لتخبرني! فقال: يحيى: نعم! فقال له: في أي شيء؟ فقال: في كتاب الله تعالى؛ فقال: ذلك أشنع؛ ففي أي شيء من كتاب الله تعالى؟ قال: قرأت] قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم [فرفعت "أحبُّ" وهو منصوب، فقال له الحجاج: طول لحيتك أوقعك - وكان طويل اللحية - فقال له رجل ممن حضر: أيها الأمير، حدثني كعب الأحبار أنه مكتوب في بعض الكتب أن اللحية مخرجها من الدماغ، فمن تفرط لحيته في طولها يخف دماغه، ومن خف دماغه قل عقله، ومن قل عقله كان أحمق، والأحمق لا يسمع عنه؛ فقال الحجاج [ليحيى]: لا تساكني ببلد أنا فيه؛ ونفاه إلى خراسان وبها يزيد بن المهلب؛ فكان عنده.
قال محمد بن سلام: أخبرني أبي أن يزيد بن المهلب، كتب إلى الحجاج: إنا لقينا العدو، ففعلنا وفعلنا، واضطررناه إلى عرعرة الجبل؛ فقال الحجاج: ما لابن
1 / 25
المهلب وهذا الكلام! فقيل له: إن يحيى بن يعمر عنده، فقال: ذاك إذن! وكان يستعمل الغريب من كلامه، فمن ذلك أنه قال لرجل خاصمته امرأته: أأن سألتك ثمن شكرها وسرك، أنشأت تمطلها وتضهلها!.
الشكر والسر: النكاح. ويروى: "وشبرك" والشبر: العطاء. وخاصم رجل رجلًا في غلام، فقال: باعني غلامًا أبّاقًا، فقال له يحيى: ألا قلت: أبوقًا! ومات يحيى بن يعمر بخراسان سنة تسع وعشرين ومائة، في أيام مروان بن محمد.
ابن أبي إسحاق الحضرمي
وأما ابن أبي إسحاق، فهو أبو بحر عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي. وكان قيمًا بالعربية والقراءة، إمامًا فيهما؛ وكان شديد التجريد للقياس. ويقال: إنه كان أشد تجريدًا للقياس من أبي عمرو بن العلاء، وكان أبو عمرو بن العلاء أوسع علمًا بكلام العرب ولغاتها وغريبها.
ويروى أن بلال بن أبي بردة جمع بينهما، قال يونس: قال أبو عمرو: فغلبني ابن أبي إسحاق يومئذ بالهمز،
1 / 26
فنظرت فيه بعد ذلك. ويقال إنه أول من علل النحو.
وقال محمد بن سلام: سمعت رجلًا يسأل يونس عن عبد الله بن أبي إسحاق وعلمه، فقال: هو والبحر سواء، أي هو الغاية.
وقال يونس: كان أبو عمرو أشد الناس تسليمًا للعرب، وكان عبد الله بن أبي إسحاق وعيسى بن عمر يطعنان على العرب، وكان موالي ابن أبي إسحاق الحضرمي مواليًا، وهم بني عبد شمس بن عبد مناف، وكان يردّ كثيرًا على الفرزدق ويتكلم في شعره، فقال فيه الفرزدق:
فلو كان عبد الله مولى هجوته ... ولكن عبد الله مولى مواليًا
فقال له ابن أبي إسحاق: ولقد لحنت أيضًا في قولك: "مولى مواليا" وكان ينبغي أن تقول: "مولى موال" والحليف عند العرب مولى، ومنه قول الأخطل:
أتشتم قومًا أثبتوكم بنهشل ... ولولاهم كنتم لعكلٍ مواليا
وروى أبو عمرو أن ابن أبي إسحاق سمع الفرزدق ينشد:
وعض زمان يا بن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحتا أو مجلفُ
1 / 27
فقال له ابن أبي إسحاق: على أي شيء ترفع "أو مجلف"؟ فقال: على ما يسوءك وينوءك؛ قال أبو عمرو: فقلت للفرزدق: أصبت! وهو جائز على المعنى، أي لم يبق سواه.
وقرأ عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي على يحيى بن يعمر؛ وقرأ أيضًا هو
وأبو عمرو بن العلاء على نصر بن عاصم، وكانا رفيقين.
وكان هو وأبو عمرو وعيسى بن عمر في وقت واحد، وتوفيَ قبلهما بالبصرة سنة سبع عشرة ومائة في أيام هشام بن عبد الملك.
عيسى بن عمر الثقفي
وأما عيسى بن عمر الثقفي، فكنيته أبو سليمان - ويقال: أبو عمر - وكان ثقة عالمًا بالعربية والنحو والقراءة، وقراءته مشهورة.
وكان فصيحًا يتقعر في كلامه، ويعدل عن سهل الألفاظ إلى الوحشي والغريب؛ فمن ذلك أنه لما ضربه يوسف بن عمر بن هبيرة في سبب ثياب استودعها؛ قال: إن كانت إلا أثيابًا في أسيفاط، قبضها عشاروك. وذلك أن بعض أصحاب خالد بن عبد الله القسري أودعه وديعة، فلما نزع خالد بن عبد الله عن إمارته بالعراق، وتقلد مكانه يوسف بن عمر، كتب إلى واليه بالبصرة أن يحمل إليه عيسى بن عمر مقيدًا، فدعا به وبالحداد، وأمره بتقييده، وقال: لا بأس عليك، إنما أراد
1 / 28
الأمير أن يؤدب ولده، قال: فما بال القيد إذن! فبقيت مثلًا بالبصرة، فلما أتى به يوسف بن عمر، سأله عن الوديعة فأنكرها، فأمر به فضرب بالسياط، فلما أخذه السوط جذع، فقال: أيها الأمير، والله إنما كانت أثيابًا في أسيفاط، قبضها عشاروك؛ فرفع السوط عنه، وكل به حتى أخذ الوديعة منه.
وقال علي بن محمد بن سليمان: رأيت عيسى بن عمر طول دهره يحمل في كمه خرقة يحمل فيها سكر العشر والأجاص اليابس، وريما رأيته واقفًا عندي أو سائرًا، أو عند ولاة أهل البصرة، فتصيبه نهكة على فؤاده، فيخفق عليه حتى يكاد يغلب، فيستغيث بإجاصة وسكرة يلقيهما في فمه، ثم يمتصهما فإذا ازدرد من ذلك شيئًا سكن عليه؛ فسألته عن ذلك، فقال: أصابني هذا من الضرب الذي ضربني يوسف بن عمر، فعالجته بكل شيء، فلم أجد له أصلح من هذا.
وصنف كتابين في النحو، يسمى أحدهما الجامع، والآخر الإكمال. وفيهما يقول الخليل بن أحمد - وكان الخليل قد أخذ عنه:
ذهب النحو جميعًا كله ... غير ما أحدث عيسى بن عمر
1 / 29
ذاك إكمال وهذا جامعٌ ... فهما للناس شمس وقمر
وهذان الكتابان لم نرهما ولم نرَ أحدًا رآهما.
وقال يحيى بن المبارك اليزيدي:
يا طالب النحو ألا فابكه ... بعد أبي عمرو وحماد
وابن أبي إسحاق في علمه ... والزبن في المشهد والنادي
عيسى وأشباهٌ لعيسى وهل ... يأتي لهم دهر بأنداد
ويونس النحوي لا تنسه ... ولا خليلا حية الوادي
وتوفي سنة تسع وأربعين ومائة.
ويشهد لهذا ما روي عن الأصمعي أنه قال: توفي عيسى بن عمر قبل أبي عمرو بهمس سنين، وكان ذلك في خلافة أبي جعفر المنصور، وكان أبو عمرو قد توفي سنة أربع وخمسين ومائة، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
أبو عمرو بن العلاء
وأما أبو عمرو بن العلاء، فهو العلم المشهور في علم القراءة واللغة والعربية،
1 / 30
وكان من الشأن بمكان. واسمه زبان؛ ويروى أن الفرزدق جاء معتذرًا إليه من أجل هجو بلغه عنه، فقال له أبو عمرو:
هجوت زبان ثم جئت معتذرًا ... من هجو زبان، لم تهجو ولم تدعْ
فهذا يدل على أن اسمه زبان؛ واختلفوا في اسمه اختلافًا كثيرًا، ومنهم من قال: اسمه كنيته.
1 / 31
أخذ النحو عن نصر بن عاصم الليثي، وأخذ عنه يونس بن حبيب البصري، والخليل بن أحمد، وأبو محمد يحيى بن المبارك اليزيدي وكان يونس بن حبيب يقول: لو كان أحد ينبغي أو يؤخذ بقوله كله في شيء، كان ينبغي أن يؤخذ بقول أبي عمرو بن العلاء كله في العربية، ولكن ليس من أحد إلا وأنت آخذ من قوله وتارك.
وروى الأصمعي عن الخليل بن أحمد، عن أبي عمرو بن العلاء، أنه قال: أكثر من تزندق بالعراق لجهلهم بالعربية.
وحكى الأصمعي قال: غدوت ذات يوم إلى زيارة صديق لي، فلقيني أبو عمرو بن العلاء، فقال: إلى أين يا أصمعي؟ قلت: إلى صديق لي، فقال: إن كان لفائدة، أو لمائدة، أو لعائدة، وإلا فلا.
وروي أنه سئل عن قوله تعالى:] فعززنا بثالث [، فقال: المعنى شددنا، وأنشد:
أجد إذا ضمرت تعزز لحمها ... وإذا تشد بنعسها لا تنبس
تعزز، أي اشتد، ولا تنبس؛ أي لا تصوت.
ويروى عن أبي عمرو، قال: كنت هاربًا من الحجاج بن يوسف، وكان يشتبه
1 / 32
على "فرجة" هل هي بالفتح أو بالضم؟ فسمعت قائلًا يقول:
ربما تجزع النفوس من الأمر ... له فَرجة كحل العقال
بفتح الفاء من "فَرجة"، ثم قال: ألا إنه قد مات الحجاج؛ قال: فما كنت أدري بأيهما كنت أشد فرحًا، بقوله: "َرجة"، أو بقوله مات الحجاج! ويروى أن أبا عمرو سأل أبا خيرة عن قولهم: "استأصل الله عرقاتهم"، فنصب أبو خيرة التاء من "عرقاتهم" فقال له أبو عمرو: هيهات يا أبا خيرة! لأن جلدك! وذلك أن أبا عمرو استضعف النصب، لأنه كان قد سمعها [منه] بالجر، وكان أبو عمرو بعد ذلك يرويها بالنصب والجر.
وكان أبو عمرو يقول: إنما نحن بالإضافة إلى من كان قبلنا كبقل في أصول رقل، أي نخل طوال؛ وهذا يدل على كماله في فضله، قال الشاعر:
وما عبر الإنسان عن فضل نفسه ... بمثل اعتقاد الفضل في كل فاضل
وإن أخس النقص أن يرمي الفتى ... قذى العين عنه بانتقاص الأفاضل
1 / 33
وحكى يونس بن حبيب البصري، عن أبي عمرو أنه قال: ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علم وشعر كثير.
وقال إبراهيم الحربي: كان أهل العربية كلهم أصحاب أهواء؛ إلا أربعة فإنهم أصحاب سنة: أبو عمرو بن العلاء، والخليل بن أحمد، ويونس بن حبيب البصري، والأصمعي.
ومما روي عن أبي عمرو لشيخ من نجد:
فاستقدرِ الله خيرًا وارضين به ... فبينما العسر إذ دارت مياسر
وبينما المرء في الأحياء مغتبطٌ ... إذ صار في الرمس تعفوه الأعاصير
يبكي غريب عليه ليس يعرفه ... وذو قرابته في الحيِّ مسرور
حتى كأن لم يكن إلا تذكره ... والدهر أيتما حال دهارير
وهذه الأبيات لعثمان بن لبيد العذري.
روى هشام بن الكلبي، قال: عاش عبيد بن شرية الجرهمي ثلثمائة
1 / 34
سنة، وأدرك الإسلام فأسلم، ودخل على معاوية بالشام وهو خليفة، فقال له: حدثني بأعجب ما رأيت، فقال: مررت ذات يوم بقوم يدفنون ميتًا لهم، فلما انتهيت إليهم اغرورقت عيناي بالدموع، فتمثلت بقول الشاعر:
يا قلب إنك من أسماء مغرور ... فاذكر وهل ينفعنك اليوم تذكير
قد بحت بالحب ما تخفيه من أحدٍ ... حتى جرت لك أطلاقًا محاضير
فلست تدري وما تدري أعاجلها ... أدنى لرشدك أم ما فيه تأخير
فاستقدر الله خيرًا به وارضينَّ به ... فبينما العسر إذ دارت مياسير
الأبيات إلى قوله:
يبكي غريب عليه ليس يعرفه ... وذو قرابته في الحي مسرور
قال: فقال لي رجل: أتعرف من قال هذا الشعر؟ قلت: لا، قال: إن قائله هذا الذي دفناه الساعة، وأنت الغريب الذي يبكي عليه ولست تعرفه، وهذا الذي خرج من قبره أمس الناس رحمًا به، وأسرهم بموته. فقال له معاوية: لقد رأيت عجبًا، فمن الميت؟ فقال: عثمان بن لبيد العذري.
وحكى الأصمعي قال: أنشدنا أبو عمرو:
فما جبنوا أنا نشد عليهم ... ولكن رأوا نارًا تحش وتسفعُ
قال: فذكرت ذلك لشعبة، فقال: ويلك! إنما هو "تحسَّ وتسفع" أي تحرق وتسوَّد.
قال الأصمعي: وقد أصاب أبو عمرو، لأن معنى "تحشُّ" توقد، وقد أصاب شعبة أيضًا، ولم أرَ أعلم بالشعر من شعبة.
وروى الأصمعي، عن أبي عمرو بن العلاء، قال: سمعت أعرابيًا يقول: فلان لغوب، جاءته كتابي فاختصرها، قال: فقلت له [أتقول]: جاءته كتابي! فقال: أليس بصحيفة! فحمله على المعنى.
وقد جاء ذلك كثيرًا في كلامهم. واللغوب: الأحمق، وله أسماء كثيرة ذكرناها مستوفاة في كتابنا الموسوم في أسماء المائق.
وتوفي أبو عمرو بن العلاء سنة أربع وخمسين ومائة في خلافة المنصور.
أبو معاوية النحوي
وأما أبو معاوية شيبان بن عبد الرحمن التميمي النحوي؛ فإنه كان مولى لبني تميم، وكان يعلم أولاد داود بن علي بن عبد الله بن عباس، وكان قارئًا محدثًا نحويًّا، من مقدمي النحويين. سكن الكوفة زمانًا، وانتقل عنها إلى بغداد.
حدث عن الحسن البصري، ويحيى بن أبي كثير، وحدث عنه عبد الرحمن بن مهدي وغيره.
وقال [أبو أحمد بن الحسن بن] عبد الله بن سعيد العسكري: إن شيبان
1 / 35
النحوي نسبة إلى بطن يقال لهم نحو بن شمس - بضم الشين - من بطن من الأزد.
وذكر أبو الحسين بن المنادي أن المنسوب إلى القبيلة هو يزيد النحوي، لا شيبان. قال أبو بكر عبد الله بن سليمان بن الأشعث: يزيد النحوي، هو يزيد ابن أبي سعيد، وهو من بطن من الأزد، يقال لهم بنو نحو؛ ليسوا من نحو العربية، ولم يرو أحدٌ منهم الحديث إلا رجلان؛ أحدهما يزيد هذا، وسائر من يقال له النحوي، فمن نحو العربية؛ شيبان بن عبد الرحمن النحوي،
وهارون بن موسى النحوي، وأبو زيد النحوي.
وسئل الإمام أحمد بن حنبل عن شيبان النحوي وعن هشام الدستوائي وعن حرب بن شداد، فقال: شيبان أرفع عندي، شيبان صاحب كتاب صحيح، قد روى شيبان عن الناس، فحديثه صحيح.
1 / 36