نزهة الأفكار في شرح قرة الأبصار
تأليف
الشيخ الإمام المجدد عبد القادر بن محمد بن محمد سالم المجلسي الشنقيطي المالكي الأشعري المتوفى سنة ١٣٣٧ هـ
شرح به النظم المسمى قرة الأبصار في سيرة النبي المختار للشيخ عبد العزيز اللمطي المالكي الأشعري
حققه وصححه جماعة من ذوي المؤلف
अज्ञात पृष्ठ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
صلى الله تعالى وسلم على محمد نبيه الكريم صلاة نستجير بها من عذاب الجحيم وتنال بها في الدارين نحن وأحبتنا أرفع التكريم بجاه من قال توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم.
الحمد لله الذى من علينا بجزيل الانعام وأتحفنا بما لا نطيق شكره من أياديه الجسام وتفضل علينا بالتوفيق لأجل نعمائه فآمنا به وبكتبه وملائكته وجميع أنبيائه وخصنا بخيرته من خلقه ونخبته من أصفيائه. ومن يكون آدم فمن دونه من الأنبياء في القيامة تحت لوائه أرسله إلى كافة الثقلين بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا وجعله للمقربين إماما وللأنبياء والمرسلين ختاما ولما به صلاح العباد في الدارين قواما ونظاما وخصه بالشفاعة الكبرى في الموقف الهائل حين تبرأ منها أكابر الرسل الأماثل صلى الله تعالى وسلم عليه وعليهم وعلى آله وأزواجه وأصحابه الأخيار ما همعت ديم معارفه على قلوب الأبرار وما تغنى الحمام بالأسحار وما دام النظر في سيره وشمائله قرة للأبصار وروضة تنزه للأفكار وعدد ما وصل إلى العباد من المواهب في هذه الدار وما يصل إليهم في تلك الدار وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا نظير وأن محمدا عبده ورسوله شهادة عبد معترف بالتقصير ونتوسل إلى ربنا اللطيف القدير أن يثبتنا عليها في الحياة الدنيا وبعد الممات وأن يبدل بمحض فضله وكرمه سيائتنا حسنات، إنه جواد كريم ورؤوف رحيم، له الفضل العظيم والطول العميم.
أما بعد فيقول العبد الفقير إلى رحمة مولاه الحليم الكبير المجلسي المالكي الأشعري عبد القادر بن محمد بن محمد سالم بن محمد سعيد بن عمر بن أبي السيد بن أبي بكر بن علي بن يمغدش ومعناه بالعربية السالم بن وديعة الله بن عبد الله بن أحمد بن يفت، ومعناه أخيار بن
1 / 1
يدر ومعناه بإعجام الدال الحسن وبإهمالها يعيش بن إبراهيم الأموي، وإبراهيم هذا يقال والله أعلم انه من ولد عمر بن عبد العزيز، لا يخفى أن الإشتغال بالعلوم من أشرف المكاسب والاعتناء بها من أفضل المراتب وشرف كل علم إنما هو بحسب شرف المعلوم فلهذا كان الإهتمام بعلم السيرة النبوية فضله عظيم وخطبه جسيم لأنه هو الكفيل ببيان أحوال نبينا العلية وأطواره الشريفة الزكية من لدن كان في بطن آمنة الشريفة حملا إلى انتقاله إلى دار كرامته ولحوقه بالرفيق الأعلى صلى الله تعالى عليه وسلم وشرف وكرم ومجد وعظم ولذا كان من أشرف العلوم قدرا وأرفعها منزلة وأطيبها ذكرا، فاليه ترتاح الأنفس والطباع وبه تلتذ الأفواه وتتشنف الأسماع وبرسمه ترشح المحابر والأقلام وباشادة ما اشتمل عليه تفرح الليالى واليام، فهو حديث لا يمل منه، يا ليتنا لم نله قط عنه، وقد اعتنى بالتأليف فيه من أهل الإسلام كثير من الأكابر الأجلة الأعلام فتبوؤوا من المجد السنام وحازوا من الشرف أعلى مقام وقربوا في تآليفهم للأنام ما كان من السيرة صعب المرام ما بين منثور يروق عند العيان ومنظوم يزري بالدر على نحور الخرد الحسان، جزاهم الله تعالى عنا أحسن الجزاء ومن علينا وعليهم بالعفو والإرضاء، ومن أجمع ما رأينا فيه كتاب "المواهب" وشرح الزرقاني عليه وفيه أنشد لسان الحال ما صدق المقال:
(هذا كتاب لو يباع بوزنه ... ذهبا لكان البائع المغبون)
ومن أشهر المختصرات المؤلفة فيه في هذه الأقطار النظم المسمى ب: "قرة الأبصار" فقد تداولته الكبار والصغار وهو كتاب قد طابق منه الإسم المسمى، فكم احتوى عليه من أخبار صاحب العز الأحمى والقدر المنيف الأسمى عليه أفضل السلام وأعلاه وأزكى الثناء وأعذبه وأحلاه، لكنه في هذه الناحية لا شرح له يحل رموزه ويفتح ألفاظه ويبرز كنوزه فحملني التطفل على الدخول في خدمة هذا الجناب العالي والانتماء إلى ظل حماه المتعالي على أن صرفت قصدي إلى شرح هذا الكتاب فشرحته بعون الملك الوهاب شرحا يبين ألفاظه لمن يتعاطاه من
1 / 2
الطلاب وذكرت فيه الغزوات النبوية وجل ما اطعلت عليه من بعث وسرية ولم آل جهدا في تبيين ما يحتاج إليه من البيان لكن من هو مثلي عرضة للذهول والنسيان وسميته "نزهة الأفكار في شرح قرة الأبصار" وإلى الله تعالى الضراعة في أن يجعله لوجهه الكريم وأن يحمينا نحن وأحبتنا من عذاب الجحيم وأن ينيلنا بمحض فضله رفيع الدرجات وأن يحلنا من الفردوس أعالي الغرفات. وجعلت اعتمادي في هذا الشرح على الزرقاني وشروحه وسيرة العراقي وشرح المناوي عليها وعيون الأثر وغير ذلك وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال الناظم رحمه الله تعالى وهو الشيخ العابد الحافظ الفائق لأقرانه عبد العزيز اللمطي نسبا المالكي مذهبا الأشعري اعتقادا المدني دارا وقد ألف كتابه هذا في بيت عائشة رضي الله تعالى عنها، كذا قاله شارح لهذا النظم رأيته ولم يعرف بنفسه والله تعالى أعلم.
1 / 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الكلام على البسملة هنا من ثمانية أوجه: معنى مفرداتها ومعنى تركيبها وإعرابها وسبب الإبتداء بها وحكمها وفضلها وقرآنيتها وكتابتها وأذكر جميعها إن شاء الله تعالى على طريق الاختصار وبالله تعالى التوفيق.
أما معنى مفرداتها فالباء يصح أنها للمصاحبة والمصطحبان هما العمل المبدو بها أو البادي ومدخول الباء والمراد منها التبرك والتبرك منسحب على جميع العمل فكأن المبتدئ بها يقول أفعل كذا متبركا فيه ببسم الله ويصح أن الباء للاستعانة وباء الاستعانة هي الداخلة على آلة الفعل، فكأن باسم الله هي الواسطة في حصول الفعل ببركة الإسم الشريفة فعآل المعنيين هنا واحد وقيل الباء للالصاق وقيل للاستعلاء المجازي والإسم هو اللفظ الدال بالوضع على معنى ما فيتناول الإسم النحوي وقسيميه وقوله تعالى وعلم آدم الأسماء كلها يعم جميع ذلك وهو هنا اسم جنيس أضيف إلى معرفة فيعم جميع أسماء الله تعالى فالتبرك بجيع الأسماء.
والله علم خاص بالذات الموصوفة بكل كمال المنزهة عن كل ما يتصف به الحوادث والأكثر على أنه غير مشتق وعلى أنه مشتق قال الإمام السنوسي الأقرب أنه مشتق من أله بالمكان إذا أقام به.
قال:
(ألهنا بدار لا تبين رسومها ... كأن بقاياها وشام على اليد)
وقيل مشتق من أله إلهة كعبد عبادة وزنا ومعنى فإله بمعنى مالوه أي معبود وقيل من لاه بمعنى ارتفع ومنه قيل للشمس إلهة، قال:
(تروحنا من اللهباء قسرا ... واعجلنا الإلهة أن تغيبا)
أو بمعنى احتجب، ومنه:
(لاهت فما عرفت يوما بخارجة ... يا ليتها برزت حتى عرفناها)
وقيل من وله غذا تحير لأنه تتحير في عظمته العقول ومذهب سيبويه أنه هو أعرف المعارف وحكي أنه ريئ في النوم فأخبر ان الله
1 / 4
فعل به خيرا كثيرا لقوله إنه هو أعرف المعارف والرحمن هو المنعم بالنعم التى لا تدخل تحت كسب العباد كبعث الرسل والرحيم المنعم بالنعم التى تدخل تحت كسبهم وغيرها فهو أعم من الرحمن على هذا ولهذا صح إطلاقه على غيره تعالى.
أو الرحمن ذو الرحمة العامة في الدنيا على جميع الخلق والرحيم ذو الرحمة الخاصة بالمؤمنين في الآخرة أو الرحمن المنعم بجلائل النعم كمية وكيفية والرحيم المنعم بدقائقها كمية وكيفية وأخر عن الرحمن لاختصاص الرحمن به تعالى وأما معنى تركيبها فاعلم أنها نقلت من الخبر إلى الإنشاء في لإنشاء التبرك لأنه يحصل عند النطق بها واما اعرابها فالمجرور متعلق بمحذوف والمختار كونه فعلا ويقدر مؤخرا ليدل على الحصر والرد على الكفار في ابتدائهم بأسماء آلهتهم خاصا كأولف هنا لا عاما كأبدأ والعمل المشروع فيه يعين العامل المحذوف فكل فاعل يمر أي يقدر في ضميره عاملا مناسبا لما شرع فيه من أكل أو قراءة مثلا، وقيل المجرور خبر مبتدء محذوف واسم الجلالة مضاف إليه وليست إضافته بيانية لأن المقصود من الأول الأسماء ومن الثاني الذات ولذا وصف بما بعده على طريق النعت أو البيان أو البدل وقيل الأول بدل من الجلالة والرحيم نعت للرحمن. وأما سبب الابتداء بها فالاقتداء بالقرآن العظيم وسنة نبيه الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم وقد أجمع علماء كل أمة أن الله افتتح كل كتاب بها وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يبدأ بها في رسائله وكان أولا يكتب باسمك اللهم حتى نزلت باسم الله مجريها فكتب بسم الله فلما نزل قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن كتب بسم الله الرحمن فلما نزلت بجملتها في سورة النمل كتبها.
وفي الحديث: "كل امر ذي بال لا يبدأ فيه ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أقطع" وفي رواية "أبتر"، وفي رواية "أجذم" أي ناقص البركة وإن تم حسا، وأما حكمها فتجب مرة في العمر وتسن في الأكل والشرب وتندب في سوى ذلك مما تشرع فيه وتكره في المحرم والمكروه وقيل تحرم في
1 / 5
المحرم، وذكر غير واحد أنها تجب في الذكاة، وقال الأمير: ان الواجب في الذكاة مطلق ذكر اسم الله تعالى ومما تشرع فيه: الشعر المحتوي على علم أو وعظ أو مدحه ﷺ.
فائدة:
نظم بعضهم ما يج مرة في العمر من الكلام فقال:
(هاك جميع ما من القول يجب ... في العمر مرة وما زاد استحب)
(بسملة حمدلة والهيلله ... استغفر الله كذا والحوقله)
(والحكم في التسبيح والتكبير ... كذا وتعويذ بذي التقدير)
(ثم الصلاة معها السلام ... على الذي اقتدى به الأنام)
وأما فضلها فصحح الحاكم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "من قرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتب الله له بكل حرف أربعة آلاف حسنة محى عنه أربعة آلاف سيئة ورفع له أربعة آلاف درجة". وقال: "من قال بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم صرف الله عنه سبعين بابا من البلاء أدناها الهم والغم واللمم". وقال: "ستر ما بينكم وبين الجن أن تقولوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ". وقال: "خير الناس وخير من مشى على الأرض المعلمون كلما خلق الدين جددوه أعطوهم ولا تستأجروهم فإن المعلم إذا قال للمعلم قل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فقالها كتب الله للصبي ولوالديه وللمعلم براءة من النار".
وأما قرآنيتها فمذهبنا أنها ليست من القرآن وإنما هي رقية تنزل مع كل نبي وتتفع معه إلا نبينا محمدا ﷺ بقيت رحمة لأمته. ومذهب الشافعي أنها آية ن الفاتحة فمن تركها بطلت صلاته. وقيل آية من كل سورة وقيل بعض آية ن كل سورة وقيل آية في الفاتحة وجزء آية في غيرها وقيل بالعكس وقيل آية فذة. ومحل الخلاف في غير التى في "النمل" وأما هي فلا خلاف أنها من القرآن.
وأما كتابتها فعن معاوية أنه ﷺ قال: "ألق الدواة
1 / 6
وحرف القلم وأقم الباء وفرق السين ولا تعور الميم وحسن الله ومد الرحمن وجود الرحيم وضع قلمك على أذنك اليسرى فإنه أذكر لك" اهـ يقال لاق الدواة ثلاثيا كباع وألاقها رباعيا أصلحها فلاقت هي أي صلحت والمراد أن يلزق مدادها على صوفة ونحوها، وتحريف القلم جعل أحد شقيه أطول من الأخر قال بعضهم الأقصر هو الأيسر وهو الذى يلي الكاغد، وإقامة الباء جعلها غير منعطفة، وتفريق السين إبعادها من الميم أو تفريق رؤوسها، ومعني لا تعور الميم اتركها مفتوحة، ومعنى حسن الله، اكتبها بخط حسن وقلم حسن ومداد حسن، ومد الرحمن أن يمد بين الميم والنون، وتجويد الرحيم كتابتها كتابة جيدة. والباء ترسم قدر نصف الألف فالقدر الذى جرى عرفك في كتابة الألف اجعل الباء نصفه وحروفها الرسمية تسعة عشر عدد الزبانية فمن ذكرها نجا منهم.
(الحمد لله الذى بأحمدا ... هدى إلى أقوم نهج من هدى)
قوله الحمد لله مبتدأ وخبره، والذى نعت لله وهو موصول وصلته قوله هدى، ومن مفعوله، وبأحمدا يتعلق بهدى، وكذا إلى أقوم. ونهج بالتنوين مضاف إليه ما قبله ومعناه أن الوصف بكل كمال ثابت ومستحق لله تعالى الذى هدى أي أرشد من أراد هدايته إلى أقوم الطريق وهي طريق الإسلام بسبب نبينا أحمد صلى الله تعلى عليه وسلم. والنهج الطريق الواضح وهذا المعنى أخذه من قوله تعالى: ﴿وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم﴾ وقوله تعالى: ﴿إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم﴾. قال صاحب الأنوار: الهداية دلالة بلطف ولذلك تستعمل في الخير. وقوله تعالى: ﴿فاهدوهم إلى صراط الجحيم﴾ وارد على التهكم، وهداية الله تعالى تتنوع أنواعا: الأول إفاضة القوى التى يتمكن بها المرء من الاهتداء إلى مصالحه كالعقل والحواس، والثاني نصب الدلائل الفارقة بين الحق والباطل وإليه أشار تعالى حيث قال: ﴿وهديناه النجدين﴾ وقال: ﴿فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى﴾، والثالث الهداية بإرسال الرسل ﴿إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم﴾، ﴿وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم﴾. والمستقيم المستوي يعنى طريق الخير أو
1 / 7
الإسلام، والرابع كشف السرائر على القلوب وإراءة الأشياء كما هي بالوحي أو الإلهام. وهذا يختص به الأنبياء والأولياء وإياه عنى بقوله: ﴿أولئك الذين هدى الله فبهديهم اقتده﴾ وقوله: ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا﴾ نقله الزرقاني في شرح المواهب.
فائدة:
لم يتسم أحد بأحمد قبله، ﷺ قال ابن حجر: والمشهور أن أول من سمي به بعده، ﷺ، والد الخليل بن أحمد لكن زعم الواقدي أنه كان لجعفر بن أبي طالب ابن اسمه أحمد وحكى ابن فتحون في ذيل الاستيعاب ان اسم أبي حفص بن المغيرة الصحابي أحمد، ويقال في والد أبي السفر إن اسمه أحمد. قال الترمذي: أبو السفر هو سعيد بن محمد ويقال ابن أحمد، اهـ من الزرقاني في موضع آخر.
والحمد لغة هو الوصف بالجميل على الجميل الاختياري أو القديم، والوصف ذكر الصفة منسوبة الى المتصف بها فلا يكون إلا بالكلام، وبالجميل مخرج للوصف بالقبيح بذم وبما ليس جميلا ولا قبيحا كزيد تميمي غذا قصد مجرد الإعلام بنسبه، وعلى الجميل مخرج للوصف بالجميل لأجل قبيح كقولك للبخيل ما أجوده في مقام التهكم ومجموع الإختياري أو القديم مخرج للوصف برشاقة الخد. والحمد عرفا الثناء باللسان أو القلب أو غيرهما من الأركان بسبب ما أسدى إلى الحامد فالأول أخص موردا لأنه لا يكون إلا بالكلام وأعم متعلقا لأنه يكون في مقابلة نعمة وغيرها، والثاني أعم موردا لحصوله بالكلام وغيره وأخص متعلقا إذ لا يكون إلا في مقابلة نعمة فبينهما عموم وخصوص من وجه. (حمدا جديدا دائم البقاء)
قوله حمدا منصوب بفعل محذوف أي أحمده حمدا، ولا يصح أن يعمل فيه قوله الحمد لأن المصدر لا يخبر عنه إلا بعد تمام معمولاته. وقوله جديدا أي طارئا بعد الحمد الأول مع أنه دائم البقاء والظاهر أن الحمد
1 / 8
الأول حمد منه لله تعالى لأنه يستحق الحمد لذاته والثاني حمد له لإنعامه فلا يتكرر مع الأول كما يرشد له قوله: (مكافيا) أي مساويا، (ترادف) أي تتابع، (الآلاء) أي النعم. فكلما تجددت لى نعمة منه تعالى تجدد مني حمد له تعالى. واعلم أن مقابلة الحمد لجميع النعم يعجز عنها الخلق غاية العجز لأن التوفيق للحمد نعمة جليلة تقتضي حمدا وهلم جرا .. قال:
(لك الحمد مولانا على كل نعمة ... ومن جملة النعماء قولي لك الحمد)
(فلا حمد إلا أن تمن بنعمة ... تعاليت لا يقوى على حمدك العبد)
تنبيه:
اختلف في تعيين الفاضل من الحمد، فقيل: الحمد لله بجميع محامده كلها ما علمت منها وما لم أعلم على جميع نعمه كلها ما علمت منها وما لم أعلم، وقيل: اللهم لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وقيل: الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده. قال الشيخ يوسف بن عمر وينبني على ذلك مسالة فقهية فيمن حلف ليحمدن الله تعالى بأفضل محامده، فمن أراد أن يخرج من الخلاف فليحمد بجميعها، اهـ نقله الحطاب.
وأتى الناظم ﵀ بالحمدلة بعد البسملة اقتداء بالقرآن العظيم وعملا بقوله، ﷺ: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم" أو قال: "أبتر" أو قال: "أجدع" أو قال: "أقطع" أي ناقص الشرف.
(ثم الصلاة والسلام تترا ... على أجل المرسلين قدرا)
أردف الحمد بالصلاة والسلام على من وصلت النعم المحمود عليها بواسطته، ﷺ، امتثالا لقوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما﴾ وعملا بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: "كل أمر ذي بال لا يبدأ بذكر الله ثم بالصلاة علي فهو أقطع". والصلاة من الله تعالى انعامه، ومن العبد طلبه منه تعالى كانت على
1 / 9
نبي أو غيره، وكل ما ذكروه فيها يرجع إلى هذا، قاله في "نور البصر". وهي وإن كان معناها طلب الرحمة التى هي الانعام فيها معنى زائد عليه وهو التعظيم ولذلك اختلفوا في جواز الدعاء له ﷺ بالرحمة وإن كان الراجح جوازه. والسلام من الله تعالى انعامه بالسلامة، ومن العبد طلب ذلك منه تعالى قاله في "نور البصر" أيضا. والصلاة مبتدء والسلام عطف عليه وخبره المجرور بعده وتترا حال أي متتابعة فإن كانت ألفها للتأنيث فهي حال من الصلاة وإن كانت منونة، والألف فيها كالألف في زيدا من رأيت زيدا، فهي حال من السلام أو من كل منهما. وهذا كقوله تعالى: ﴿أرسلنا رسلنا تترا﴾ قال الخازن أي مترادفين يتبع بعضهم بعضا، وقال في "الضياء" تترا بلا تنوين للجمهور وبه لابن كثير وأبي عمرو أي متتابعين والتاء بدل من واو لأنه من المواترة وهي المتابعة بين الأشياء اهـ. وقال ابن جزي تترا مصدر وهو موضوع موضع الحال أي متواترين والتواتر التتابع اهـ.
وقال في القاموس وجاؤوا تترا وينون وأصله وترا أي متتابعين وواتره مواترة ووتارا تابع أو لا تكون المواترة بين الأشياء إلا إذا وقعت بينهما فترة وإلا فهي مداركة ومواصفة اهـ.
وقوله على أجل المرسلين قدرا أي أفضلهم منزلة عند الله تعالى. ولا شك أنه، ﷺ، أفضل من جميع الرسل والملائكة وجميع الخلق اجماعا ولا يدخل في الخلاف الجاري في التفضيل بين الأنبياء والملائكة. قال السراج البلقيني: ولا تظن بأحد من أيمة المسلمين أنه يتوقف في أفضليته، ﷺ، على جميع الملائكة وسائر الأنبياء ومن زعم أن هذا ليس مما كلفنا به فزعمه باطل بل هذا من مسائل أصول الدين الواجبة الاعتقاد على كل مكلف اهـ. نقله محمد الأيسي في شرحه للهمزية في البيت الأول. وكون هذا عقيدة نحوه للهيثمي عن الزركشي وغيره. وقال السنوسي في شرح الجزائري: أفضليته ﷺ على جميع المخلوقات تكاد أن تكون مما علم من الدين ضرورة وهو ﷺ خارج عن الخلاف في
1 / 10
التفضيل بين الأنبياء والملائكة اهـ.
(وآله)، عطف على أجل، وآله الصحيح في مذهبنا أنهم بنو هاشم قيل وبنو المطلب وهو مذهب الشافعي، وقيل ما خرج من لؤي آل له، وهو قول أصبغ، وقيل ما خرج من غالب وقيل آله: أتباعه. قال الزرقاني في شرح المواهب: وفي انهم بنو هاشم أو والمطلب أو عترته وأهل بيته أو بنو غالب أو أتقياء أمته واختير في مقام الدعاء وأيد بأنه إذا اطلق شمل الصحب والتابعين لهم بإحسان أقوال اهـ منه.
(وصحبه) اسم جمع صاحب، والصاحب في الأصل الملازم وفي العرف إذا أضيف له ﷺ كل من لقيه مؤمنا به وإن لم يلازمه لإسلام أبيه ومن ارتد منهم والعياذ بالله تعالى ثم أسلم عاد له اسم الصحابي على المرجح ولابد من كون اللقاء قبل الوفاة فيخرج من لقبه بعدها كأبي ذؤيب ولا يدخل الأنبياء الذين اجتمع بهم ليلة الإسراء ولا الملائكة لأن المراد الاجتماع على الوجه المتعارف.
(ومن سلك سبيلهم) أي ذهب واتبع طريقهم، وسلك يتعدى بنفسه وقد يتعدى بالهمزة وعداه بعضهم بالباء، والسبيل والطريق والصراط ألفاظ مترادفة كلها تذكر وتؤنث.
(ما دار) أي تقلب (نجم في فلك) والفلك جسم لطيف مستدير الشكل مشتمل على أجرام صقيلة نورانية تتحرك بتحركه دائما وتلك الأجرام هي الكواكب، والقمر في الفلك الذي يلينا وهو السماء الدنيا، والفلك الثاني السماء الثانية وهو العطارد والثالث وهو السماء الثالثة للزهرة كرطبة والرابع للشمس والخامس للمريخ وهو نجم الحمرة ويقال له كوكب الدم وكوكب النار للدلالة على ذلك في زعمهم والفلك السادس وهو السماء السادسة للمشتري والسابع لزحل اهـ.
وكل ما يظهر من المنازل والكواكب في الفلك الثامن وهو فوق السماء السابعة بألف عام كما قال بعضهم وأصغرها أكبر من الأرض بمائتين وعشرين مرة كما في بعض شراح الرسالة، عند قوله ولا ينظر
1 / 11
فى النجوم إلا ما يستدل به على القبلة نقله ف شرح المقنع. ولبعضهم بيت نقله الحفني في شرح الجامع الصغير في ترتيب الدراري في الأفلاك وهو:
(زحل اشترى مريخه من شمسه ... فتزاهرت لعطار الأقمار)
ويسمى زحل كيوان والمقاتل والشيخ ويسمى المشتري البرجيس ويسمى عطارد بالكاتب وفي طوالع البيضاوي ممزوجا ببعض كلام الشيخ زكريا والأفلاك تسعة محيط بعضها ببعض الأول منها الفلك الأعظم وهو بلسان أهل الشرع العرش المجيد وهو الجسم المحيط بسائر الأجسام ويسمى الفلك الأطلس لكونه غير مكوكب وتحت الفلك الأعظم فلك الثوابت وسميت بذلك لبطء حركتها ثم بعده سبعة أفلاك: فلك زحل على الترتيب المار إلى أن وصل إلى فلك القمر وهو سماء الدنيا، اهـ.
وقال العضد في المواقف ممزوجا ببعض كلام غيره المقصد الأول أن الحكماء زعموا أن الأفلاك تسعة: فلك الأفلاك وهو المسمى عندهم بالفلك الأطلسي لأنه غير مكوكب والمسمى بالعرش المجيد في لسان الشرع وتحته فلك الثوابت وهو الكرسي ثم فلك زحل إلى أن وصل إلى فلك القمر، قال وهو سماء الدنيا. اهـ.
وفي الطوالع والمواقف أن الأفلاك شفافة لا لون لها إذ لو كانت ملونة لحجبت الأبصار عن رؤيتها ورؤية ما وراءها لأن كل ملون كذلك واللازم باطل ولم ير شيء من الكواكب فكذلك الملزوم اهـ ومقتضاهما أن الأفلاك السبعة هي السماوات وفي كلام بعضهم أنها أجسام لاصقة بالسماوات والله أعلم.
وقال الزرقاني في شرح المواهب: ذهبت طائفة من أهل الكلام إلى أن العرش فلك مستدير من جميع جوانبه محيط بالعالم من كل جهة وربما سموه الفلك التاسع والفلك الأطلس قاله ابن كثير وليس يجيد لأنه قد ثبت في الشرع ان له قوائم تحمله الملائكة والفلك لا قوائم له وأيضا فالعرش في اللغة سرير الملك وليس فلكا والقرآن إنما نزل بلغة العرب
1 / 12
فهو سرير تحمله الملائكة كالقبة على العالم وهو سقف المخلوقات اهـ.
تنبيهان:
الأول: قال في المواهب اللدنية: قال الحليمي المقصود بالصلاة على النبي ﷺ التقرب إلى الله تعالى وقضاء بعض حق النبي ﷺ علينا وتبعه ابن عبد السلام فقال ليست صلاتنا على النبي ﷺ شفاعة له فإن مثلنا لا يشفع لمثله لكن الله تعالى أمرنا بمكافأة من أحسن إلينا فإن عجزنا عنها كافيناه بالدعاء، فأرشدنا الله لما علم من عجزنا عن مكافأة نبينا إلى الصلاة عليه ونحوه للشيخ المرجاني وقال ابن العربي: فائدة الصلاة عليه ترجع إلى المصلي عليه لدلالة ذلك على نصوص العقيدة وإظهار المحبة والاحترام للواسطة الكريمة ﷺ اهـ منه. ونقله العارف بالله أبو زيد الفاسي في حاشيته على كيمياء السعادة.
الثاني: سئل الإمام السنوسي عن قول الفقهاء ان الصلاة على النبي ﷺ مقبولة قطعا هل هو صحيح أم لا؟ فأجاب: بأنه رأى ذلك منصوصا للإمام الشاطبي، قال وهو مشكل إذ لو قطع بقبولها لقطع للمصلي عليه بحسن الخاتمة، ثم أجاب بأن معنى القطع بالقبول أنه إذا ختم له بحسن الخاتمة وجد حسناتها مقبولة حتما بخلاف سائر الحسنات لا يوثق بقبوله ولو مات صاحبه على الإيمان ويحتمل أن قبولها إذا صدرت من صاحبها على وجه محبته له ﵇ فيقطع بانتفاعه بها في الآخرة، ولو في تخفيف العذاب إذا قضي عليه به. ولو على وجه الخلود لعظم موضع محبة أشرف الخلق. ألا ترى أن تخفيف العذاب عن أبي لهب يوم الاثنين لعتقه من بشرته بولادته ﵊ اهـ.
وبحث اللمطي في هذا الجواب بأنه احتمال عقلي لا دليل عليه، لأن النصوص مصرحة بإحباط عمل الكافر. قال وأما أبو لهب فخرج بالنص فلا يقاس عليه.
1 / 13
(وبعد) ظرف زمان بنى لشبهة بحرف الجواب، كنعم في الاستغناء به عما بعده وعامله محذوف، أي وأقول بعد البسملة والحمدلة والصلاة على النبي ﷺ تنبه (فاعلم) أيها المخاطب أي تحقق؛ (ان خير) أي أفضل، (ما اقتفى) من العلوم أي اتبعه وتعلمه أو علمه وألف فيه؛ (ذو) أي صاحب؛ (همة) هي قوة الانبعاث في الشيء وطلبه بالصدق بقطع الشواغل عما سواه؛ (سيرة) خبر أن وهو مضاف لقوله (خير مقتفي) بصيغة اسم مفعول أي متبع وهو نبينا محمد ﷺ؛ والسيرة بكسر السين هيأة السير وجمعها سير أي طريقته وهيأته وحالته ثم خصت بحاله في غزواته ونحوها نقله الشيخ محمد بن عبد الباقي في شرح المواهب ولا يخفى عظيم فضل الاهتمام بسيرته ﷺ لأن شرف كل علم بحسب شرف معلومه وهذا العلم هو الكفيل ببيان أحواله ﷺ العلية وأطواره الشريفة من لدن كان في بطن أمه إلى انتقاله إلى درا كرامته ولحوقه بالرفيق الأعلى ﷺ تسليما. (وها أنا) ها حرف تنبيه وأنا مبتدأ وخبره قوله (أذكر) أي أبين ويكثر استعمال ها التنبيه مع ضمير رفع منفصل بشرط أن يكون مرفوعا بالإبتداء بخلاف ما قام إلا أنا فلا تدخل على أنا ويشرط أن يخبر عنه باسم إشارة نحوها أنتم هؤلاء، وشذ قوله:
أبا حكم ها أنت خصم مجادل
قاله الدماميني واستعملها الناظم بدون اسم إشارة (في هذا الرجز) أحد البحور المعروفة يعنى نظمه هذا (من ذاك) أي من علم السيرة النبوية (ما) مفعول أذكر أي الذى (فيه) لمن حفظه وشرحه (سداد) بكسر السين وفتحها أي غنى وكفاية (من عوز) أي احتياج وعدم يعنى انه جمع في هذا النظم من علم السيرة ما يغني من تعلمه ويكفيه حتى لا يحتاج إلى غيره قال في المصباح السداد بالكسر ما تسد به القارورة وغيرها واختلف في سداد من عيش وسداد من عوز لما يرمق به العيش وتسد به الخلة فقال ابن السكيت والفارابي وتبعه الجوهري بالفتح
1 / 14
والكسر واقتصر الأكثر على الكسر منهم ابن قتيبة وثعلب والأزهري لأنه مستعار من سداد القارورة. اهـ من شرح الزرقاني للمواهب بلفظه. وفي القاموس وسداد من عوز وعيش لما يسد به الخلة قد يفتح أو يجر وإذا تأملته علمت أن قول مولاي إبراهيم في شرحه هو بكسر السين لا بالفتح مخالف لما مر وذكر في شرحه هنا أن المامون قال يوما بحضرة النضر بن شميل انه ﷺ قال: "ان الرجل إذا تزوج المرأة لدينها وجمالها كان فيه سداد من عوز" بفتح السين، فقال النضر بكسر السين، فقال له المامون أو تلحنني يا نضر؟ قال لا ولكن لحن هشيم الذى حدثك. فأجازه المامون بجائزة سنية وقال النضر سبحان الله كسرت سين أعطاني الله عليها كذا وكذا ..
(لمبتغي التحصيل من أولي الهدى)
المجرور متعلق بقوله سداد والمبتغى الطالب والتحصيل تمييز ما أراد حصوله ومعرفته وأولى الهدى أصحابه والهدى التوفيق، يعنى أنه يبين في هذا النظم من علم السيرة النبوية ما فيه الكفاية لمن يطلب معرفة ما يريد حصوله من أصحاب التوفيق حتى لا يحتاج إلى غير هذا النظم لكثرة ما جمع من مسائل هذا الفن إذ قد حضل له من هذا النظم ما يسد خلته ويغنيه من احتياجه. وفي القاموس العوز بالتحريك الحاجة عوز الشيء كفرح لم يوجد والرجل افتقر كأعوز.
(عسى بنفعهم به أن أرشدا) هذا في المعنى بيان للسبب الحامل له على النظم فأفاد أنه إنما نظمه لأجل رجائه أن يرشد أي يوفق بسبب نفعه للناس بنشر العلم لكثرة ثواب من يعلم الناس الخير والنفع إيصال الخير ودفع الضر وأن أرشدا خبر عسى وبنفعهم معمول أرشدا وقدم على أن لأنه مجرور يتسع فيه ما لا يتسع في غيره كقوله:
كان جزائي بالعصا أن أجلدا
وفي القاموس رشد كنصر وفرح اهتدى وأرشده الله، والرشد الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه اهـ.
(سميته) أي هذا النظم أي وضعت له هذا الاسم (بقرة الأبصار) جمع
1 / 15
بصر يقال قرت عينه تقر بالكسر والفتح قرة بالضم وقرورا أي سكنت وثبتت لأنها رأت ما كانت متشوفة إليه وأقر الله عينه، واسمها طابق مسماها، فإن من حصلها وفهم معناها تم مرامه وشفي غليله لكثرة ما حصل له من علم السير وسكن بصره فلم يتشوف إلى غيره (في سيرة المشفع المختار) أي طريقته وأحواله والمشفع من قبلت شفاعته والشفاعة لغة الضم ومنه الشفع ضد الوتر لأنه ضم واحد لآخر وكذا الشفعة لأنها ضم أحد الشريكين نصيب صاحبه إلى نصيبه هو والشفاعة ضمك للغير في جاهك قاله القرطبي في المفهم في شرح مسلم، والجاه الشرف ورفعة القدر، والمختار المفضل على جميع الخلائق يعنى بهذا نبينا وحبيبنا وقرة أعيننا وملاذنا ووسيلتنا إلى ربنا محمدا ﷺ وشرف وكرم ومجد وعظم ولاشك أنه المنفرد بالشفاعة العظمى في الموقف الهائل حين ضاق بالخلائق الخناق واتهم البرآء أنفسهم وكشف عن ساق نسأل الله تعالى بمنه أن يميتنا على ملته ومحبته وأن يحشرنا في زمرته نحن وأحبتنا بجاهه العظيم فقد قال عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم: "توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم" (مرتبا) حال من فاعل أذكر (له) أي لهذا الرجز (على الأبواب) جمع باب وهو في اللغة فرجة في ساتر يتوصل بها من داخل إلى خارج وبالعكس حقيقة في الذوات كباب الدار ومجازا في المعاني كما هنا فقوله بيان نسبة إلخ .. هو الباب الذى يتوصل منه إلى معرفة نسبه، ﷺ، التى هي وراء الساتر الحائل دون معرفته والساتر هو الجهل فمن دخل من هذا الباب توصف إلى ما وراء ذلك الساتر، ورتب الناظم ﵀ مسائل السيرة النبوية على أحواله، ﷺ، فذكر كل حال في باب معبرا عن الباب بالبيان لأن ذلك أيسر لمن أراد الوقوف على مسألة منه فإنه إذا كانت أبوابه مرتبة مذكورا كل نوع منها خاص في باب بإنفراده سهل طلب تلك المسألة على طالبها إذ لا يبحث عنها إلا في باب واحد بخلاف ما إذا كانت أنواع مسائله كلها مذكورة في باب واحد من غير ترتيب فإنه يعسر على الطالب الوقوف على تلك المسألة
1 / 16
التى يريد الوقوف عليها إذ لا يدري في أي موضع من الكتاب كما أشار له بقوله: (مقربا) حال أيضا ومفعوله قوله، (مقاصد الطلاب) والمقاصد جمع مقصد بكسر الصاد كما قاله الزرقاني على المواهب وهو الأمر الذي يقصد ولاطلاب جمع طالب يعنى أنه رتبه على أبواب فذكر كل نوع خاص في باب بعد باب آخر حال كونه مقربا أي مسهلا ما يقصده طلاب الوقوف على كل مسألة بانفرادها إذ لا يطلب إلا في باب نوعها الخاص بها، ولما ذكر أنه يذكر في هذا الرجز ما يسد خلة المحتاج إلى معرفة هذا العلم وأنه يرتبه على أبواب متعددة ليسهل طلبه على طالبه وكان مقصده ذلك لا قدرة له على اتمامه إلا بعون الله تعالى تبرأ من حوله وقوته تواضعا لله تعالى فقال سائلا منه تعالى أن يعينه على ذلك:
(ومن ممد الكون في انعامه ... استوهب العون على اتمامه)
المجرور معمول لقوله استوهب وقدمه لإفادة الحصر والامداد من معانيه الإعطاء ﴿أمدكم بأنعام وبنين﴾ ويعدى لمفعول ثان بالباء والناظم عداه بفي وعليه، ففي بمعنى الباء، ومن معانيه الإمهال وهو اللائق بفي. والله تعالى أعلم والكون المكون فهو يعم جميع الحوادث، والعون التقوية على الأمر ومعنى البيت عليه أنه يسأل العون على اتمام هذا الرجز على وفق مراده من الله تعالى لا من سواه فهو الذى امهل جميع الخلائق في انعامه أي أخرهم ولم يعاجلهم بالعقوبة مع كثرة الكفر والعصيان في إنسهم وجنهم وهذا استعطاف منه لله تعالى ليحصل له مراده، وممد اسم فاعل من أمده رباعيا ومعنى أستوهب العون أطلب منه أن يهبني أي يعطيني العون الله تعالى وفي هذا المعنى قال بعضهم:
(إذا كان عون الله للمرء خادما ... تهيأ له من كل صعب مراده)
(وإن لم يكن عون من الله للفتى ... فأول ما يجني عليه اجتهاده)
1 / 17
(والنفع للراوي وللمروي ... عنه بجاه المصطفى النبي)
قوله والنفع بالنصب عطف على العون، أي ومن الله تعالى أسأل النفع لكل من روى شيئا من علم السيرة أي نقله ولكل مروري أي منقول عنه ممن تقدم أو تأخر فيدخل فيه الناظم ومن نقل هو عنه ومن نقل عن الناظم هذا النظم المحتوي على السيرة الغراء وهو دعاء عام بعد خاص وهو قوله أستوهب العون على اتمامه. وبدأ بنفسه لأنه ﷺ كان إذا دعى بدأ بنفسه، وقال تعالى حكاية عن نوح: ﴿رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات﴾ وفي الخبر: "الدعاء إذا عم نفع وإذا خص ارتفع" وتوسل في هذا المطلب بجاه أشرف الخلق ﷺ تسليما، والنفع إيصال الخير ودفع الضر والجاه الشرف ورفعه القدر، والمصطفى المخلص من الكدر، ولفظ النبي على وجهين في اللغة: مهموز وغير مهموز، فأما المهموز فيصح أنه بمعنى مفعل بصيغة اسم المفعول لأنه منبأ أي مخبر ويصح أنه من نبا بمعنى ارتفع ففي القاموس نبا الشيء يعنى بالهمزة بمعنى ارتفع ويصح أنه مأخوذ من النبيء بالهمز على وزنه وهو الطريق الواضح لأنه طريق إلى الله تعالى وأما غير المهموز فيصح أن أصله الهمز وترك الهمز وترك الهمز تسهيلا ويصح أن يكون واويا فيحتمل معنيين أحدهما أنه من النبوة وهي الارتفاع والثاني أنه من النبى على وزنه وهو الطريق أيضا قاله المحقق اليوسي في حواشي الكبرى (عليه) الضمير للنبي ﷺ (أزكى) أي أكثر وأفضل (صلوات البارئ) أي رحماته المقترنة بالتعظيم والإجلال والباري الخالق لجميع المخلوقات من برأ الله الخلق خلقهم (وآله وصحبه) تقدم قريبا تفسيرهما (الأبرار) أهل الصدق والطاعة والإحسان الذين اختارهم الله تعالى لصحبة خير خلقه ﷺ، وفي الحديث: "إن الله اختار أصحابي على جميع العالمين سوى النبيئين والمرسلين واختار لى منهم أربعة أبا بكر وعمر وعثمان وعليا فجعلهم خير أصحابي وفي أصحابي
1 / 18
كلهم خير"، وفي الحديث: "مثل أصحابي مثل الملح في الطعام لا يصلح الطعام إلا به" وفيه: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" ذكرها في الشفا.
تنبيهان:
الأول: قال في الشفا عامة أهل العلم متفقون على جواز الصلاة غير النبي ﷺ قال شارحه ابن سلطان أي من سائر الأنبياء بل هي مستحبة لما روى البيهقي والخطيب مرفوعا صلو على أنبياء الله ورسله فإن الله بعثهم كما بعثني فيستحقون الصلاة كما استحقها اهـ وفي الشرح بعد هذا ما يفيد أنه لا خلاف في جواز الصلاة على غير الأنبياء تبعا وفي الشفا ان الذي ذهب إليه المحققو ما قاله مالك وسفيان وروي عن ابن عباس واختاره غير واحد من الفقهاء والمتكلمين أنه لا يصلى على غير الأنبياء قال شارحه المذكور أي افرادا وإنما تجوز اتباعا اهـ.
الثاني: أتى الناظم بالصلاة عليه ﷺ عقب الدعاء لأن ذلك أرجى لإجباته ففي الحديث: "كل دعاء محجوب دون السماء فإذا جاءت الصلاة علي صعد الدعاء"، وعن عمر بن الخطاب ﵁ الدعاء والصلاة معلق بين السماء والأرض لا يصعد الى الله منه شيء حتى يصلى على النبي ﷺ؛ وعن علي كرم الله تعالى وجهه عن النبي ﷺ بمعناه وقال وعلى آل محمد قاله في الشفا، وقوله الصلاة أي المفروضة والنافلة وقوله معلق أي كل منهما وقوله إلى الله أي محل قبوله أو مكان عرشه وقوله منه أي كل منهما وقوله إلى الله أي محل قبوله أو مكان عرشه وقوله منه أي مما ذكر قاله ابن سلطان. ولما فرغ من خطبة نظمه شرع في ذكر نسب هذه الدرة الشريفة والذات المطهرة المنفيفة لينجز ما بذكره وعد ويتمم من مرامه ما قصد فقال:
(بيان نسبة النبي المصطفي ... صلى عليه ربنا وشرفا)
قوله بيان خبر مبتدء محذوف والنسب محركة والنسبة بالكسر
1 / 19