وهكذا تقولب الحب في حياتنا في هذا القالب المضحك، فالزوجة التي لا تطعم زوجها بيدها، ولا تطيع كل سخافاته، ولا تأتي له بالحذاء أو النعل، ولا تطبخ له كل ما تهفو إليه نفسه، تصبح عند الأزواج الذين شاهدوا هذه الأعمال أو قرءوها، امرأة لا تعاشر، وهي في عرفهم تكرههم ولا تحبهم. ومن الزوجات من صدقت هذه الصورة، وحاولت أن تنفذها في أيام زواجها الأولى، ولكن قليلا ما تستطيع أن تظل على حالها هذا، ثم تعود إلى طبيعة البشر. وهكذا تنقلب حياة الزوج إلى جحيم وليس هذا منه بعجيب؛ فقد رسمت له الأعمال التي رآها الجنة بهذه المعالم المضحكة، فحين يصطدم بغيرها يصبح من الطبيعي أن يرى حياته جحيما، فنقص أي معلم من معالم هذه الجنة الفنية هو عنده جحيم. وويل للزوجين إذا كانا تحابا قبل الزواج؛ فإن كلا منهما سيتوقع من الآخر أن يقتل نفسه وهو سعيد؛ ليقدم لحبه كل ما يمكن أن يخطر ببال هذا الحب، حتى إذا تم الزواج وعاد كل من الزوجين إلى طبيعة البشر، انكشفت الحقيقة الرهيبة أن الرجل إنسان بشر، وأن المرأة إنسانة بشر، وتصطرع الحياة على أنغام نفير الحروب، بعد أن كانت ساجية بين المحبين على أنغام موسيقى الملائكة.
وفي أتون هذه الأوهام، تحطم كثير من حب كان صادقا، ولكنه كان مجنونا، ودمرت زيجات كان يمكن أن يفوح منها عبير يانع عن أيام مخضلة بندى الحنان والمودة، ولكنها جهلت الواقع، ولم تستطع الأيام أن تنقلب عندها إلى أحلام وأوهام ورؤى.
ولكن أسامة كان محصنا ضد الأوهام، فلو أن الحياة سارت بأبيه رخاء كلها، ولو أنه ترك لأمه وحدها لواجه، في كل متجه من حياته، ذلك الحلم الباسم المستبشر الذي ينقلب إلى واقع كشر متجهم ذي أنياب ونصال ومدى.
لقد صاحبت نمو أسامة تلك الأزمة التي تعرض لها أبوه، ووعى أباه وهو يركب الموتوسيكل السيدكار، وهو ما يزال يذكر أمه وهي تعتذر عن عدم قبول الدعوات؛ حتى لا تصبح مضطرة أن تردها بمثلها، ورأى بيته والطعام فيه معدود بقدر الأشخاص، بعد أن كان دائما موفورا لا يحصيه حجما ولا عددا، حتى لقد كان الخدم يدعون من يشاءون من خدم الجيران، ورأى أمه تمكث السنة بأكملها لا تدخل بيتها خياطة، ورأى أباه لا يفكر في شراء قماش جديد لنفسه سنوات، ولكنه أيضا يذكر أن ملابسه هو دائما كانت تتجدد، فلم يعد على مظهره إشارة من ضيق يد، وأدرك كيف كان أبواه يجنبانه دائما أن يحس بما يمران به، وحسب الجانبان أن ابنهما لم يشعر بشيء، وحنا هو عليهما فلم يشعرهما أنه أحس بشيء.
ومرت بهم هذه الأيام النكدة الماجدة، واستطاع أسامة بضربة حظ أفلس فيها أبوه أن يصبح هو من أغنى الناس نفسا، واستطاع أن يعرف أن الحياة التي تعطي تستطيع أن تمنع، وأن الإنسان إذا لم يعرف من الحياة حالتيها، صار فيها هشا هينا جاهلا، أو أحمق تصرعه أي ريح من رياح الحياة.
ورياح الرخاء والغنى والدعة والهناء تحمل من طواياها نفس الأخطار التي تحملها رياح الفقر والحاجة، والعوز والشقاء.
وإذا كان الإنسان يحتاج أن يكون قويا ليواجه الحياة، وهي تطحن وتفترس بمخالب الفقر، فهو محتاج أن يكون أكثر قوة؛ ليواجه الحياة وهي تبتلع وتمحو من الإنسان إنسانيته، حين تفرش الذهب والماس تحت الأقدام.
استطاعت هذه الفترة النكدة أن تجعل من أسامة إنسانا يعرف تقلبات الحياة؛ الأمر الذي لم يستطع المسكين يحيى أن يعرفه، فلو كان يحيى قويا في لقاء الغنى، لما انهدمت به الحياة، ولما تصدعت جوانب نفسه، ولما خلت الحياة عنده من كل معنى للحياة.
في هذه الأيام النكدة التي شهدها قصر راشد باشا، كانت أسرة فهمي عبد الحميد من الأسرات النادرة التي تأتي للقصر أغلب أيام الأسبوع، وتوطدت علائق الصداقة بين خديجة وبين نعمات زوجة فهمي. وفي فناء القصر لعبت جميلة مع أسامة، كانت تصغره بعام وبعض عام، ولكنه لم يكن رآها قبل أن تصبح أمها صديقة لأمه.
لم يكن حبا ذلك الذي نما بينهما وإنما كان ألفة، وكان يأنس إليها، وكان يخيل له أنها تأنس إليه. ولم يكن يدري يومذاك شيئا عن الصلات التي تجمع بين أبيها وأبيه، وما كان يستطيع أن يعي هذه الصلات، ولا أن يفهمها. وكيف لمثل من كان في سنه أن يفهم هذه الحرب، وهذا العداء، ثم هذا الحب وذلك الإيثار؟ وكيف يستطيع أن يعي في براءته الإنسان يسفل إلى هذه الخسة، ثم يعلو هو نفسه إلى هذه السموة؟
अज्ञात पृष्ठ