الفصل الثامن
انصبت أخبار القطن على فهمي عبد الحميد ترادفها الدهشة والعجب، ولعل بعض الندم ألم به. وسأله الناس، فتظاهر بأنه مظلوم وإن لم يبد سببا. خشي أن يختلق سببا فيحل به عقاب آخر وخشي أن يقول الصدق فيحتقره الناس، لقد أدرك أن راشد قد اصطنع ما ليس من خلقه ليرد عليه تصرفه. لقد انتهب هو أموال راشد آمنا، إلا أن راشد لن يتخذ نفس الطريق ليسترد أمواله.
لم يستطع فهمي عبد الحميد أن يذهب إلى راشد بعد الحادث بفترة قصيرة، وإنما آثر أن يترك الأيام تنسي الناس ما حدث، وآثر أن يشعر راشد أنه انتقم فلا يجاريه في الحديث. حتى إذا مر من الوقت ما أراد فهمي أن يمر ذهب إلى راشد في بيته في مصر؛ فقد حرص ألا يرى رجال راشد ورجاله ذله وانكساره، خاصة بعد أن عرف ما كان من زيارة المدير ورجال الإدارة لبيت راشد بالبلدة.
وفي القاهرة: لم أتوقع هذا! - لأني عشت عمري كله أكرمك وأكرم جوارك. - فلماذا لم تكرم خطئي؟ - أنا لا أستطيع أن أكرم سفالتك؛ لا إكرام عندي للسفالة. - كلنا في الهوى سوا يا سعادة الباشا. - كذبت. - حين تستحل صلة غير شريفة بصديق قريب لك تسمي هذا خلقا؟ - أنا غير مستعد أن أدافع عن نفسي أمامك. - ولقد حميتك أن تدافع عن نفسك أمام زكريا باشا. - لو كنت أعطيتني الورقة دون استغلالها لجاز لك أن تقول هذا. - وما البأس أن أستغلها وأنا في فقري هذا؟ - لقد وقفت إلى جانبك في فقرك، وأنا لم أطالبك. - فرصة لاحت لي. - فرصة قذرة. - ألا يجوز لي وأنا ابن البورصة أن أستغل ضربة حظ؟ - لقد صنعت أنت هذه الضربة واشتريتها من خادم لي. - كيف عرفت؟ - الأمر لا يحتاج إلى ذكاء، ولو كنت ذكيا حقا لقدرت ذكاء الآخرين. - لكل منا أن يبحث عن مصالحه أينما وجدت. - ولكن يجب علينا أن نكون على شيء من الخلق. - يا سعادة الباشا، إننا نلعب على مائدة واحدة. - ربما أكون قد أخطأت ولكنني أعرف أنني كنت مخطئا وقد تبت. إنني منذ تزوجت لم أخن زوجتي. - ولا خنت صديقا لك. - رددت خيانة أحدهم ولم أخنه. - يا سعادة الباشا لقد خنتك في مالك وخنت أنت صديقك في عرضه؛ فلا أعتقد أنك الشخص المناسب للحديث عن الشرف. - أنت خنتني في مالي وفي إكرامي لك. - لم تذهب بعيدا عما ذهبت إليه. - أما أنا فقد تبت. - الله وحده يعلم ما في القلوب. - ولكننا نحن البشر نعرف الظاهر من الأعمال. - ظاهر الأعمال أنك استوليت على قطني بغير حق. - أليس لي حق عندك؟ - أمام القانون لا حق لك. - لو كان القانون يعطيني حقي ما لجأت إلى تحطيمه. - وترى هذا عملا شريفا؟ - ألم تقترح أنت ألا نتكلم عن الشرف؟ - هذا حقك. وماذا تنوي أن تفعل؟ - أما أنا فقد فعلت. - يخيل إلي أن عملك لم ينته. - لن أسمح لك بزراعة أرضك حتى أسترد مالي الذي عندك. - أكتب لك كمبيالة جديدة. - معنى الكمبيالة أنني أقبل تسليفك وأنا لا أقبل. في هذه المرة لا بد أن أسترد أموالي نقودا مثل الذي أعطيتها لك. - ولكن .. ولكن هذا مستحيل. - لماذا؟ لقد غطيت خسارتك بالمبلغ الذي أعطيته لك، ثم كسبت من أسهم الشركة الخديوية مبلغ عشرين ألف جنيه، وكسبت من صفقة اتحاد البنوك ثلاثين ألف جنيه. لو لم أكن أعرف أنك تستطيع رد أموالي لبحثت عن طريقة أخرى لاستردادها. - تعرف عني كل شيء. - لقد قلت الآن إننا نلعب على مائدة واحدة. - نخصم ثمن القطن وأعطيك الباقي لك. - أي قطن؟ - راشد بك! - باشا إذا سمحت! - راشد باشا، أتنوي ...؟ - لقد نويت. - وهل هذا معقول؟ - وهل ما فعلته معقول؟ - إن لي أولادا، هذا حرام عليك!
وهل لا بد أن يكون لي أولاد حتى أنال حقي؟ وعلى كل حال يا سيدي اطمئن، فإن ابني في الطريق.
فمن أجل خاطره إذن يا سعادة الباشا ارحمني! أعرف أنك قادر، ولكنني أعرف أيضا أنك تعفو إذا قدرت. - بشرط واحد. - لقد أحضرت معي المبلغ. - اسمع يا فهمي، سأقبل المبلغ الذي أحضرته على أن ننسى كل شيء حدث بيننا في هذه الفترة. - هذا شرط أبحث أنا عن تحقيقه إذا رفضت أنت. - وهو كذلك، هات المبلغ. - شكرا يا سعادة الباشا، ألف شكر.
الفصل التاسع
جاء المولود الأول لراشد باشا، وقد حلا له أن يسميه اسما عربيا عريقا؛ فسماه أسامة. وحاولت هانم أفندي أن تعترض لتخلد اسم أبيها نيازي، ولكنها وجدت من ابنها إصرارا. وقد صاحب مجيء أسامة فرح كبير في الأسرة، استبشرت خديجة، واستبشرت به هانم أفندي، ولم يجد راشد باشا بأسا أن يستبشر به أيضا، فقد تحدد يوم زواج شهيرة من ابن خالتها سامي حسنين. وكان اليوم محددا بعد ميلاد أسامة بعشرة أيام، وقد تصادف أن تم تحديد الموعد والميلاد في يوم واحد.
وفي المساء، وبعد أن استطاعت خديجة أن تسمر مع المهنئين وهي في سرير ولادتها، قالت شهيرة: والله لا أتزوج حتى تستطيعي أنت حضور فرحي. - هل جننت يا شهيرة؟ - أكون مجنونة لو فعلت غير هذا.
وهكذا تجدد تحديد الموعد على يد الطبيب الذي أشرف على ميلاد أسامة، فالأطباء في ذلك الحين كانوا يشرفون على الولادة ولا يقومون بها؛ فإنه لا ينبغي للسيدات أن يلدن بمشهد من رجل حتى ولو كان طبيبا. فكان الطبيب يحضر الولادة جالسا مع الرجال، وكانت الداية التي يرشحها الطبيب هي التي تقوم بعملية الولادة نفسها، فإذا حدث خلل يستدعي تدخل الطبيب فإنه حينئذ يتولى بنفسه العمل مباشرة. فقد كان ذلك الجيل لا يؤمن أن الوقاية خير من العلاج، ما دامت هذه الوقاية ستحطم عرفا عريقا كانكشاف الحريم على غير الزوج. وقد كان راشد جديرا أن يحطم هذا العرف لولا أن الطبيب طمأنه أن الولادة ستكون طبيعية، وأنه لا يوجد ما تخشى عواقبه. لم يكن راشد من هؤلاء الذين يحبون أن يحطموا التقاليد لمجرد تحطيمها، وإنما كان يحطمها إذا تعارضت مع منطق الأمور ومعقوليتها، وإن قضاءه شهر العسل في أوروبا والطريقة التي أظهر بها زوجته على باريس، لتدل على أنه لا ينتمي لهذا الجيل الذي يسلكه فيه زمانه ومولده وأسرته.
अज्ञात पृष्ठ