شمدص يعرف أكثر مما يظهر، لا يدري أحد كم من المال معه، ولكن ذكاءه وحرصه كفيلان بأن يكون معه أكثر مما يري. ساذج لا يحب التصنع، فحديثه وثيابه، وكل شيء فيه طبيعي. يعجب بالناجح؛ لهذا يحس في نفسه شيئا من العطف على فرج الله، خلق ليكون رجلا في جمع، ويكره أن يكون كتفه أعلى من أكتاف الجمهور. مظهره الشخصي؟ قصير، عريض الشفة العليا، ضخم السفلى، قوي الجسم، غير أنه لشدة ما نزل به من متاعب يخرس عن سردها؛ شاخ وهو في الخامسة والأربعين، مجعد الجبين، مقوس السلسلة الفقرية عند الكتفين. هو اللبناني الوحيد في مهاجر الدنيا، الذي لا يدعي أمام الإفرنج أنه من «بيروت»، وأن عائلته ذات أملاك واسعة في الوطن القديم، وأن رئيس الجمهورية ابن عمه، وأخواله وزراء، وأخاه «مارشال سوريا»، وأن المجلس النيابي اللبناني يعقد جلساته في مقعد أبيه، وأن أجداده باريسيون، توطنوا سوريا زمن الحروب الصليبية.
سئل شمدص ما هي فلسفته في الحياة؟ فأجاب: «كنت أغني عتابا» إذا شمس البغل «زهران»، وأغني عتابا إذا عثر «زهران»، وأغني عتابا إذا أوصلت حمل الفخار إلى المدينة سالما؛ ففلسفة الحياة هي أن تغني «عتابا» دائما. شمدص من المهاجرين الذين يرجعون إلى بلادهم بعد عشرين سنة هجرة، وليس في حديثهم ولا طريقة تفكيرهم أنهم ابتعدوا عن موطنهم أكثر من عشر دقائق.
الشمادصة هم هيكل عظام الأمم، وفلاسفتها الصامتون.
سارة
قالت لي سارة - وقد قرأت دورها في «نخب العدو»: أهذا كل ما تعرف عن قلوب العذارى، يا محترم؟! أتحجبني عن الجمهور طيلة فصلك الأول، ثم تبدأ الغرام بالزواج، وتنطق شفتي بغزل أتزلف به إلى فتاي، وتحرمني حتى قبلة من زوجي أو حبيبي، وتقيم من نفسك داية، فتولدني بين نزول ستار وارتفاع ستار؟! ألم تجد ضمة ورد تحملها حبيبي، فيطرحها على قدمي، وتطوي ركبتيه فيركع أمامي، ويتهدد بالانتحار؟ لماذا لم تخلق لي «نذلا» يريد إغوائي، و«بطلا» يقحم النار من أجلي؟ وما لي أحس بالعبارات المغصوصة تملأ فمي، والرسائل العليا أشعرها، ولا أتكلم بها؟ أتدعي معرفة لغة العرب، وتعجز عن بيت غزل، أو عبارة ناعمة تترسل بها إلي؟ أين كانت جنيتك يوم مثلت أمامك؟ أممكن أن تكون والذين تغزلوا «بليلى» من أمة واحدة؟ قلت: إن بينك وبين الذين تغزلوا بليلى أودية وجبالا ودهورا من ليال مظلمة، ولئن اتفق فالتقيت بقافلتهم، فستجفل جمالهم من دخان بنزين سيارتك التي تمتطين، وستسدين أنفسك عن رائحة إبلهم، سلي ليلى تخبرك كيف عركوا شفتيها، وجففوا بتبذلهم ريقها، وشوهوا خلقها. لقد شاخت ليلى في صباها من رائحة البارود وآلام منظر الدماء وجثث العاشقين. إنها تكاد تجن من تقريع الضمير؛ إذ يذكرها بتلك السهام التي مزقت بها القلوب. لقد تعبت من النظرة، فالابتسامة، فالسلام، فالكلام، فالقتال، فالزواج، أو الانتحار. أما أنت فقد ظهرت إلى الناس وعشيقك مسروج، أليس الزواج قبلة الفتيات؟ تخور قواه، فتجعلين منه مقاتلا، ويمرض فتواسينه، وتبغضك وتبغضه أمك فتراضينها، وتلبسك أثوابا عصرية وخصالا طبيعية، وتظهرك على المسرح، بحيث لا تخجل فتاة من فتياتنا تمثيل دورك على المسرح، فماذا بعد هذا الذي تبغين؟ أما طفلك، فرويدك حتى يشتد ساعده، فسأرقص له النساء في الشوارع، وأقيم له التماثيل في الساحات، وأفرش باللآلئ طريقه، وسيقول الشعراء فيه من الشعر أكثر مما نظموا «بليلى». إنك لم تعلمي أي رجل أنجبت، حينما ولدت بين ارتفاع ستار، ونزول ستار، طفلك «فوزي».
6
قالت: هو ذا إهانة جديدة، فإغراؤك إياي بمستقبل ولدي دليل على أنك لم تنصفني، وها أنت تكفر عن تقصيرك بإغداق النعم علي ببني، وسكتت وسكت، وتلاقت العيون فضحكنا فاهمين.
بل ستبقين يا سارة لغزا، فليس خالقك شاعرا يسكنك الجنة التي يريد، ولا مصورا يعلق إطارك على الحائط الذي يروق له، خلقت لتختالي على مسرح، فأنت بحكم حرفتك مقصورة الأزياء على ما يروق نظارتك، وأخاف عليك إن أنا كشفت نقابك الكثيف أن يرجمك أناس ويعبدك أناس، ألا فلتكن كلماتك مخنوقة، فإن الذين يفهمون يسمعونها، وإن كنت عنها صامتة، والذين أصم الله أسماعهم، فلن يعوا رسالتك بل يستشيطوا، لتكن نفسك مغلفة بالظلام، يتخيلها كل إنسان كما يريد ويشتهي، وما أحسست «بشرقيتي» مثل هذه الساعة، فها إن داري تحفل بأم، وثكلى، وطبيب، وجمع من تجار، ومغامرين، وقرويين، ومهاجرين، وقلبي لا يضطرب إلا عليك. إن الفتيات نقمة الآباء، فاخرسي ولا تستفزيني. وخرست، وخرست، وتطلعت إلى دخان سيكارتها، فهمت الكلمات أن تنفجر من بين شفتي، لولا أن خارت في تلك اللحظة قواي؛ إذ تحققت أن «سارة» التي أردتها لغزا على الناس ارتدت لغزا علي، وما عزائي في هذه البلية إلا أني وجدت في «سارة» الشرط الأول في أنوثة النساء، ألا وهو «اللغز». إذن فهي امرأة ، ولو جاءت غير ما صور الفنانون.
ظطام
يلثغ بالسين، والصاد، والزاي، في الثالثة عشرة من عمره؛ العمر الذي يحلم به الصبي الأوروبي بلبس البنطلون الطويل، واستعمال موسى الحلاقة. أما ظطام، فيحلم ببارودة موزر، وبفرصة يجندل بها أحدا من بيت الحمصي. شديد القوة والبأس، ساذج، همسه صياح، وسيرة حياته عراك وضرب أحجار، وصفعات تلهب رقبته من عمه أبي مرعي، ويا ظطام، اسق الحمار، وأطعم الحمار، واحمل التبن من البيدر للقبو، فالحمار وعمه مرعي توأما مصائب، يلبسهما كما يلبس أذنيه.
अज्ञात पृष्ठ