البدهيات في القرآن الكريم
البدهيات في القرآن الكريم
प्रकाशक
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
संस्करण संख्या
السنة ٢٧ العددان ١٠٣ و١٠٤-١٤١٦ / ١٤١٧هـ/١٩٨٦
प्रकाशन वर्ष
١٩٨٧م
शैलियों
لبدهيات في القرآن الكريم
د. فهد بن عبد الرحمن بن سليمان الرومي أستاذ مشارك ورئيس قسم الدراسات القرآنية
كلية المعلمين - الرياض -
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:
فقد كان الناس في جهالة جهلاء وضلالة عمياء فأنزل الله تعالى هذا القرآن وأخرجهم به من الظلمات إلى النور وصاروا بعد أن كانوا في أدنى درجات الجاهلية خير أمة أخرجت للناس.
آمنوا بالقرآن واتبعوه وساروا على نهجه وانقادوا لحكمه بعد أن أدركوا ساعتها إعجاز الذي لا يمكن أن يأتي بمثله بشر.
واقتضت حكمة الله تعالى أن يكون هذا الكتاب خاتم الكتب فكان إعجازه مصاحبًا له عند كل أمة، ومع كل جيل وفي كل قرن.
فنيت أُمَمٌ وذهبت أجيال، والقرآن هو هو مازال إعجازه متجددًا ومازال عطاؤه مستمرًا يعلن أنه صالح لكل زمان ومكان.
وتعددت وجوه إعجازه وتنوعت يدرك منها الناس في كل عصر وجوها وتغيب عنهم وجوه.
حتى ما كان يعتقد أنه قد استُوفي وأخذ حَقَّه من الدراسة والبحث وكاد أن يغلق بابه لا يلبث الناس أن يروا أنهم لازالوا في أول درجاته.
خذوا مثلا الإِعجاز البلاغي في القرآن الكريم أدركه القوم الذين نزل فيهم وتذوقوه، وأولاه مَنْ بعدهم عناية أكبر بالدراسة ثم جاءت قرون تالية ظهر فيه أئمة البلاغة وأرباب الفصاحة وأَوْلَوا القرآن عنايتهم، كيف لا وهو مثلها الأعلى في البلاغة والفصاحة والبيان فدرسوا وبينوه ووقفوا عند صور البلاغة، وأساليب
1 / 11
البيان، وقوف شحيحٍ ضاع في الترب خاتمه حتى ظننا أنه لم يبق شيء لها يدرسوه.
وفي القرآن آيات قريبة المعنى ظاهرة الدلالة، بل إن وضوح معناها وظهوره كان لدرجة أنْ لا يخفى على أحد بل إن المتأمل ليقف متسائلا، عن الحكمة في ذكرها على هذه الدرجة من الوضوح، وآيات من هذا النوع تذكر قضية لا يختلف فيها اثنان بل هي أمرٌ بَدَهَيّ يدركه الإِنسان من فوره.
فهذه آيات تذكر معلومةً لا تخفى أو أثرًا ظاهرًا لا يحتاج إلى تقرِير أو بيان، ونجزم أنه لابد لذلك من حكمة، ولابد له ومن فائدة، وإلا كان حشوا يتنزه عنه كلامُ البلغاء فضلًا عن كلام الرحمن القران الكريم.
وقد تناول المفسرون وعلماء البلاغة آيات هذا النوع آحادا في كتبهم ولم يدرسوها مجتمعة إلا إشارات سريعة كأن يشير أحدهم إلى آيتين أو ثلاث تشبه الآية التي يدرسها وهو من النادر أيضا.
وقد اجتمع لدي مجموعة من هذا النوع من الآيات التي رأيت أنّ دلالتها على المقصود أمرًا بدهيّا، فنظرت فيها وفي كلام أهل التفسير والبلاغة عنها، وحاولت تحديد أنواعها، وأقسامها، وضرب الأمثلة لكل نوع منها وذكر أقوال المفسرين في بيان الحكمة فيها ووجه بلاغتها وهي على كلٍ خطوة شي طريق طويل وجديد.
طويل لدرجة أن تصلح بعض أجزائه رسائل للدراسات العليا، وجديد إذ أن أقوال العلماء فيه شذرات متفرقة.
وهذا جهدي، ومبلغ طاقتي وأسأل الله أن يجعل عملي خالصا لوجهه إنه سميع مجيب، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
فهد بن عبد الرحمن الرومي
صبيحة يوم السبت ٨/٧/١٤١٥هـ
1 / 12
المراد بالبدهيّات:
البداهة أول كل شيء، وما يفجأ من الأمر، والبديهة: المعرفة يجدها الإِنسان في نفسه من غير إعمالٍ للفكر ولا علمٍ بسببها.
والبديهة قضية اعترفَ بها ولا يحتاج في تأييدها إلى قضايا أبسط منها مثل أنصاف الأشياء المتساوية متساوية ١.
وقد عَدَّ ابن حزم رحمه الله تعالى من معارف النفس ما أدركت بحواسها الخمس ثم عَدَّ الإدراك السادس علمها بالبديهيات ومَثَّلَ لذلك بعلمها أن الجزء أَقل من الكُلَّ، وأنَ الضِّدين لا يجتمعان، وأنه لا يكون فعل إلا لفاعل، وغير ذلك، ثم وصفها بأنها أوائل العقل التي لا يختلف فيها عقل.. وليس يدري أحد كيف وقع العلمُ بها.. وأنها ضرورات أوقعها الله في النفس، ولا سبيل إلى الاستدلال البتة إلا من هذه المقدمات، ولا يصح شيء إلا بالرد إليها، فما شهدت له مقدمة من هذه المقدمات بالصحة فهو صحيح متيقن وما لم تشهد له بالصحة فهو باطل ساقط إلا أن الرجوع إليها قد يكون من قرب ومن بعد، فما كان من قرب فهو أظهر إلى كل نفس وأمكن للفهم، وكلما بعدت المقدمات المذكورة صعب العمل في الاستدلال حتى يقع في ذلك الغلط إلا للفَهِم القوي الفَهْم والتمييز٢.
_________
١ المعجم الوسيط ج١ ص ٤٤.
٢ الفصل في الملل والأهواء والنحل: ابن حزم، ج١ ص (٥-٧) بتصرّف.
ولمزيد تفصيل في مذهب ابن حزم في ذلك انظر مقال (العقل والحقيقة) للأستاذ أبي عبد الرّحمن ابن عقيل، مجلّة الفيصل العدد ٢١٥ص ٤٨-٥٠.
1 / 13
وقال الجرجاني: "البديهي: هو الذي لا يتوقف حصوله على نظر وكسب، سواء احتاج إلى شيء آخر من حدسٍ أو تجربة أو غير ذلك أو لم يحتج، فيرادف الضروري. وقد يراد به ما لا يحتاج توجه العقل إلى شيء أصلًا فيكون أخص من الضروري كتصور الحرارة والبرودة، وكالتصديق بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان "١، وقيل البدهي هو الذي يفرض نفسه فرضًا على العقل ولا يترك له أدنى مجال للشك٢.
وينبغي أن نُفَرِّقَ هنا بين البدهيات والمسَلَّمَات، فقد عَرَّفَ الجرجاني المُسَلَّمَات بأنها " (قسم من المقدمات الظنية) وهي قضايا تُسَلَّمُ من الخصم ويبنى عليها الكلام لدفعه سواء كان مسلمة بين الخصمين أو بين أهل العلم كتسليم الفقهاء مسائل أصول الفقه " ٣.
ويبدو أن العلاقة بين البدهيات والمُسَلَّمَات علاقة عموم وخصوص، فكل بدهية مُسَلَّمَة وليست كل مُسَلَّمَة بدهية فالبدهيات أخص من المُسَلَّمَات.
ومن أمثلة المُسَلَّمَات الاحتجاج على الخصم بما لا يجد بُدًَّا من التسليم به فحين احتج إبراهيم على المَلِك بأنَّ الربَّ هو الذي يُحيي ويُميت، كابَرَ وأَنكر التسليم بذلك فغالط وادعى أنه يُحيي ويُميت فَرَدَّ عليه إبراهيم ﵇ بقضية مُسَلَّمَة لا يستطيع معها المكابرة ﴿فَإِنَّ الله يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾ ٤، فلم يستطع الملك إنكار هذه القَضية ﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَر﴾ ٥.
_________
١ التعريفات للجرجاني: ص٥٣.
٢ معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية: جلال الدين سعيد، ص٧٥.
٣ التعريفات: الجرجاني، ص ٢٤١.
٤ سورة البقرة: من الآية ٢٥٨.
٥ سورة البقرة: من الآية ٢٥٨.
1 / 14
ومن أمثلة ذلك الاحتجاج بالمبدأ وهو مُسَلَّمٌ لإثبات المعاد على من ينكره ﴿قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ ١.
ومثل هذا المسائل والقضايا وإن كانت مُسَلَّمَة إلا أنها تحتاج إلى نَظَرٍ وكَسْبِ ولا يجدُها الإِنسان في نفسه من غير إعمالٍ للفكر ولا عِلْمٍ بسببها مما هو خاَص بالبدهيات.
ولعله يظهر بهذا النوعُ الذي نريد دراسته هنا من القضايا التي تناولها القرآن الكريم وهي القضايا التي يستغرب التالي للقرآن والمتدبرُ لمعانيه النَصَّ عليها في القرآن مع أنَّ حصولها لا يتوقف على نظر وكَسْب ولا يختلف فيها عقل، فقوله تعالى: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَة﴾ ٢. بعد قوله: ﴿فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾، قضية بدهية لا يحتاج إدراكُها بعد تَوجّه العقل إلى شيء أصلا.
وكذا قوله تعالى: ﴿وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْه﴾ ٣، فإنَّ ذِكْرَ طيران الطير بجناحيه مما يدعو إلى السؤال عن السِّرِّ في النص على ذلك مع أنه من البَدَهيّ أنَّ الطير لا يطير إلا بجناحيه فيكفي في إدراك ذلك مجرد ذكره دون ذكر آلة طيرانه فهذا لا يحتاج إلى أكثر من توجه العقل.
والبدهيات – فيما أحسب - تنقسم من حيث مصدر البداهة إلى قسمين:
أولهما: ما جاءت بداهته من حيث أنَّ النص الثاني نتيجة بدهية للنص الأول مثل: ﴿فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ ٤، حيث قال بعدها: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَة﴾ ٥، وهي نتيجة حسابية لا تحتاج إلى أكثر من
_________
١ سورة يس الآيتين ٧٨- ٧٩.
٢ سورة البقرة: آية ١٩٦.
٣ سورة الأنعام آية ٣٨.
٤ سورة البقرة: آية ١٩٦.
٥ سورة البقرة: آية ١٩٦
1 / 15
تَوَجّه العقل ويستند إدراكها إلى النصر الأول مع التوجه العقلي الأولي لإدراكها.
ثانيهما: ما جاءت بداهته من التوجه العقلي الأَوَّلِيّ دون استناد إلى نصٍ سابقٍ كمقدمة له، مثل: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ﴾ (المؤمنون:١٥)، فإنَّ إدراك هذا الأمرَ البدهي معلوم لا يحتاج إلى أكثر من توجه العقل تَوَجّهًا أَوَلِيًَّا حتى ولو لم يسبقه نصر يقرره أو يؤدي إليه بالضرورة.
ونستطيع أن نذكر بعد هذا أنًا نريد بالبدهيات في القرآن الآيات التي يذكر فيها لازم ما سبقه من كلام أو آلته أو نتيجة حسابية لعددين لا يحتاج جمعُهما لغير توجه العقل توجها أوليًَّا.
وقد يعتقد كثير من الناس أنَّ البدهيات بهذا المعنى لم ترد في القرآن إلا قليلًا والحق أنها وردت شي كثير من الآيات يمر عليها كثير من التالين للقرآن من غير أن يكون في إدراك معناها جسأة١ توقفهم- ولو هنية- للتأمل والتفكر فيمرون عليها سريعا وكأن قوة ظهور معناها عامل على سرعة تجاورها، وحصان حق هذه الآيات أن نقف عندها طويلا، لا لاستظهار معناها هذا قد كفيناه، وإنَّما للتدبر والتفكر في سِرِّ إظهار معناها هذا الظهور وحكمةِ ذلك.
ولكثير من المفسرين وقفات عند مثل هذه الآيات طويلة عند بعضهم، وقصيرة عند آخرين وهم حين يتناولونها فإنَّمَا يتناولونها آحادًا من غير مقارنة بينها أو دراسة لموضوعها، ونَجدُ أنَّ مثل هذه الوقفات تظهر عند المهتمين في تفاسيرهم بالبلاغة واللغة، ولهذا فإنه ينبغي أن نبين صلة البدهيات بعلم البلاغة.
_________
١ جسأ: جسئا وجسوءا وجسأة: يبس وصلب وخشن. (المعجم الوسيط ج١ ص ١٢٢) .
١ مفتاح العلوم للسكاكي، ص ١٩٦.
1 / 16
صلة البدهيات بالبلاغة
مدخل
...
صلة البدهيات بالبلاغة
نشأ علم البلاغة كغيره من علوم اللغة العربية لخدمة القرآن الكريم وإظهار معانيه وإبراز أساليبه ولذا كان أغلب الأمثلة والشواهد التي يستدل بها علماء البلاغة من القرآن الكريم، ولا عجب في ذلك إذ أنهم يريدون ضرب الأمثال الظاهرة، والشواهد الواضحة، والدلائل القاطعة، على ما يريدون إثباته من صور البلاغة، وفي القران الكريم ما يطلبون وفوق ما يطلبون.
وقد عَرَّفَ السَّكَّاكي البلاغةَ بقوله: "هي بلوغ المتكلم في تأدية المعاني حَدًّا له اختصاص بتوفيِة خواص التركيب حَقّها، وإيراد التشبيه والمجاز والكناية على وجهها"١.
وعرفها القزويني بقوله: " وأما بلاغة الكلام فهي مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته " ٢.
ونقل الجاحظ تعريفا لأحدهم فقال: "وقال بعضهم: - وهو من أحسن ما اجتبيناه ودَوَّنَاه - لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظَه، ولفظُه معناه، فلا يكون لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك"٣.
وإذا كان هذا هو تعريف البلاغة فإنا نجد المسائل البدهية في الآيات القرآنية من أدعى الآيات لإِظفار وجه مطابقتها لمقتضى الحال إذ قد يبدو لبعض التالين أنَّ ما قَرَّرَتْهُ لا جديدَ فيه، بل هو بدهي لا ينْكَرُ، وظاهر لا يخفى، فأين هذا ومطابقته لمقتضى الحال، وحين يتصدى البلاغيّون لمثل
_________
١ الإيضاح العضدي، ص ٧
٢ البيان والتبيين: الجاحظ، ج١ ص ٧٥.
1 / 17
هذا فإنه يكشفون وجوها من أعلى درجات البلاغة، وأجل ما تقتضيه مراعاة حال المخاطب، وُيظهرون حِكْمةَ ورود الآية على هذا الوجه، وأنه ليس إلا ضرب من التفنن في الأساليب البلاغية، وأخذ بها من جميع أطرافها.
ثم نجد أن البدهيات تدخل في أبواب عديدة من مباحث البلاغة كالإِطناب، والتوكيد، والتكميل، والتتميم، وغيرها، وليس في وسعنا تتبع هذه المباحث هنا واستقصاؤها وإنما نشير إلى مبحثين منها من أهمها وأوسعها أعني مَبْحَثَيّ الإِطناب والتأكيد.
الإِطناب: والإِطناب مصدر أطنب في كلامه إطنابًا إذا بالغ فيه وطَوَّل ذيوله لإِفادة المعاني. واشتقاقه من قولهم: أطنب بالمكان إذا أطال مقامه فيه، وفرس مطنب إذا طال متنه، ومن أجل ذلك سُمِّي حبل الخيمة طنبًا لطوله، وهو نقيض الإيجاز في الكلام ١. والعلاقة بين الإِطناب والبلاغة وثيقة بل عرفوا الإِطناب بأنه "البلاغة في المنطق والوصف مدحًا كان أو ذمًا، وأطنب في الكلام: بالغ فيه"٢. بل عرّفوا البلاغة بأنها: " الإِيجاز والإِطناب" ٣ وإنما جمعوا بينهما وهما نقيضان لاختلاف المقامات فما يصلح في مقام لا يصلح في الآخر، ولهذا قال العسكري: "القول القصد أن الإِيجاز والإِطناب يُحتاج إليهما في جميع الكلام وكل نوع منه، ولكل واحد منهما موضع، فالحاجة إلى الإِيجاز في موضعه كالحاجة إلى الإطناب في مكانه، فمن أزال التدبير في ذلك عن جهته، _________ ١ الطراز: يحي بن حمزة العلوي، ج٢ ص ٢٣٠. ٢ لسان العرب: ابن منظور: ج١ ص ٥٦٢ مادة (طنب) . ٣ الإتقان: السيوطي، ج٢ ص ٥٣.
الإِطناب: والإِطناب مصدر أطنب في كلامه إطنابًا إذا بالغ فيه وطَوَّل ذيوله لإِفادة المعاني. واشتقاقه من قولهم: أطنب بالمكان إذا أطال مقامه فيه، وفرس مطنب إذا طال متنه، ومن أجل ذلك سُمِّي حبل الخيمة طنبًا لطوله، وهو نقيض الإيجاز في الكلام ١. والعلاقة بين الإِطناب والبلاغة وثيقة بل عرفوا الإِطناب بأنه "البلاغة في المنطق والوصف مدحًا كان أو ذمًا، وأطنب في الكلام: بالغ فيه"٢. بل عرّفوا البلاغة بأنها: " الإِيجاز والإِطناب" ٣ وإنما جمعوا بينهما وهما نقيضان لاختلاف المقامات فما يصلح في مقام لا يصلح في الآخر، ولهذا قال العسكري: "القول القصد أن الإِيجاز والإِطناب يُحتاج إليهما في جميع الكلام وكل نوع منه، ولكل واحد منهما موضع، فالحاجة إلى الإِيجاز في موضعه كالحاجة إلى الإطناب في مكانه، فمن أزال التدبير في ذلك عن جهته، _________ ١ الطراز: يحي بن حمزة العلوي، ج٢ ص ٢٣٠. ٢ لسان العرب: ابن منظور: ج١ ص ٥٦٢ مادة (طنب) . ٣ الإتقان: السيوطي، ج٢ ص ٥٣.
1 / 18
واستعمل الإِطناب في موضع الإِيجاز، واستعمل الإِيجاز في موضع الإِطناب أخطأ.
كما روي عن جعفر بن يحي أنه قال مع عجبه بالإِيجاز: "متى كان الإِيجاز أبلغ كان الإِكثار عِيًّا، ومتى كانت الكناية في موضع الإِكثار كان الإِيجاز تقصيرًا".
وأمر يحي بن خالد بن برمك اثنين أن يكتبا في معنى واحد، فأطال أحدهما، واختصر الآخر فقال للمختصر- وقد نظر في كتابه -: "ما أرى موضع مزيد"، وقال للمطيل: "ما أرى موضع نقصان".
وقال غيره: "البلاغة الإيجاز في غير عجز، والإِطناب في غير خطل"١.
فإذا عرفت الإِطنابَ ومكانته من البلاغة فينبغي أن تعرف الفرق بينه وبين التطويل والتكرير والترادف، فقد عرّفوا الإِطناب بأنه "زيادة اللفظ على المعنى لفائدة جديدة من غير ترديد"٢ فقولنا:"زيادة اللفظ على المعنى " عام في الإِطناب والتطويل والتكرير والترادف.
وقولنا: " لفائدة" يخرج عنه التطويل فإنه لغير فائدة وهذا هو الذي عليه الأكثر من علماء البلاغة، والإطناب صفة محمودة في البلاغة بخلاف التطويل فإنه صفة مذمومة في الكلام٣.
وقولنا: (جديدة) تخرج عنه الألفاظ المترادفة فإنها زيادة في اللفظ على المعنى لفائدة لغوية ولكنها ليست جديدة، وقولنا: "من غير ترديد" يخرج عنه
_________
١ الصناعتين: لأبي هلال العسكري، صر ١٩٦.
٢ الطراز: العلوي، ج٢ ص ٢٣٠.
٣ الطراز العلوي،ج٢ ص ٢٣٢، والفوائد المشوق: ص ١٥٩.
1 / 19
التكرير فإنه دلالة على المعنى مرددا"١. وليس كل التكرار مذمومًا فقد فرَّق الخطابي بين المحمود منه والمذموم فقال:
"وأما ما عابوه من التكرار، فإن تكرار الكلام على ضربين:
أحدهما: مذموم: وهو ما كان مُستغنىً عنه غير مستفاد به زيادة معنى لم يستفيدوه بالكلام الأول لأنه حينئذ يكون فضلا من القول ولغوًا، وليس في القرآن شيء من هذا النوع.
والضرب الآخر: ما كان بخلاف هذه الصفة ... وإنما يُحتاج إليه ويحسن استعماله في الأمور المهمة التي قد تعظم العناية بها، ويُخاف بتركه وقوعُ الغلط والنسيان فيها، والاستهانة بقدرها، وقد يقول الرجل لصاحبه في الحث والتحريض على العمل: "عجل عجل، وإرم إرم"، كما يكتب في الأمور المهمة على ظهور الكتب "مهم مهم مهم" ونحوها من الأمور"٢.
وإذا عرفنا الفرق بين الإِطناب والتطويل والتكرير والترادف، فإنه ينبغي أن نعرف أنَّ الإِطناب ينقسم إلى قسمين:
الأول: ما يكون متعلقًا بالجملة الواحدة من الكلام وهو نوعان:
١- ما يَرِدُ من الإطناب علىِ جهة الحقيقة بأن يكون معنى اللفظ الزائد هو معنى المذكور، ويكون مغايرا له.
ومن أمثلة هذا النوع قولنا: "رأيته بعيني"، "وقبضته بيديَ"، "ووطئته بقدمي"، "وذقته بلساني"، إلى غير ذلك من تعليق هذه الأفعال بما ذكر من الأدوات.
وقد يظن ظان أن تعليق هذه الأفعال بهذه الآلات إنما هو لغو لا حاجة إليه فإن تلك الأفعال (الرؤية، القبض، الوطء، الذوق) لا تُفعل إلا بهذه الآلات
_________
١ الطراز: العلوي ج٢ ص ٢٣٠، والمثل السائر: ابن الأثير، ج٢ ص١٢٨.
٢ بيان إعجاز القرآن: الخطابي ص٤٧-٤٨.
1 / 20
(العين، اليد، القدم، اللسان) وليس الأمر كما يظن الظان، بل هذا إنما يقال في كل شيء يعظم مَنَالُه ويَعزُّ الوصولُ إليه أو يصعب تصديقه، أو يشتد إنكاره، فيؤتى بهذه الأدوات على جهة الإِطناب دلالة على نيله، أو لتأكيد وقوعه، كما لو أنكر المخاطب قولًا نسبته إليه فقلتَ: "لقد قلته بلسانك وسمعته منك بأذني"، مع أن القول لا يكون إلا باللسان وأن السماع لا يكون إلا بالأذن، فإن أحدًا لا يُنكر من قولك، بل يدرك أنك ذكرت ما ذكرت لعِلَّة مقبولة.
وعلى هذا النحو ورد قولُه تعالى: ﴿ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُم﴾ (الأحزاب: من الآية٤) ١، لأن هذه الآية إنما وردت في شأن جعل الزوجة الحلال بمنزلة الأم.
الحرام في الظهار وفي جعل الأدعياء أبناء فأعظم الله الرَّدً والإِنكار في أن تكون الزوجة أمًّا والمملوك ابنًا وأنَ مثل هذا يكون محالا٢.
٢- ما يرد من الإِطناب في الجملة الواحدة على جهة المجاز وهذا كقوله تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ (الحج: من الآية٤٦) ٣. إذ من المعلوم أنَّ القلوبَ لا تكون إلا في الصدور، إلا أنه لِمَا عُلِمَ وتحقق أنَّ العمى على جهة الحقيقة إنما يكون في البصر وأن استعماله في القلوب إنما يكون على جهة التجوز بالتشبيه، فلما أريد ما هو على خلاف المتعارض من نسبة العمى إلى القلوب ونفيه عن الأبصار لا جَرَمَ احتاج الأمر فيه إلى زيادة تصوير وتعريف ليتقرر أنَّ مكان العمى هو القلوب لا الأبصار٤.
الثاني: الإطناب الذي يكون في الجمل المتعددة وهو أربعة أنواع هي:
_________
١ سورة الأحزاب: الآية ٤.
٢ انظر الطِراز: العلوي، ج٢ ص ٢٣٥ - ٢٣٦.
٣ سورة الحج: الآية ٤٦.
٤ الطِراز: العلوي، ج٢ ص ٢٣٧.
1 / 21
١- أن يذكر الشيء فيُؤتى فيه بمَعَانٍ مُتداخلة، إلا أن كل معنى يختص بخصيصة ليست للآخر كقول أبي تمام:
مِنْ مِنَّةٍ مشهورةٍ وصنيعةٍ
بكرٍ وإحسانٍ أَغَرَّ مُحَجَّل١
فالمِنَّة والصنيعة والإِحسان أمور متقاربة وليس ذلك من قبيل التكرير لأنها إنما تكون تكريرًا لو اقتصر على ذكرها مُطلقة من غير صفة كأن يقول: "منة وصنيعة وإحسان" ولكنه وَصفَ كلَّ واحدة منها بصفة تخالف صفة الآخر فلا جرم أخرجها ذلك عن حكم التكرير.
٢- النفي والإِثبات: " وهو أن يُذكر الشيء على سبيل النفي، ثم يذكر على سبيل الإِثبات أو بالعكس من ذلك، ولابد من أن يكون في أحدهما زيادة فائدة ليست في الآخر يؤكد ذلك المعنى المقصود وإلا كان تكريرا وذلك كقوله تعالى: ﴿لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَالله عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ، إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾ (التوبة:٤٤- ٤٥) ٢.
فالآية الثانية كالآية الأولى إلا في النفي والإِثبات، فإن الأولى من جهة الإِثبات والثانية من جهة النفي، فلا مخالفة بينهما إلا فيما ذكرناه خلا أن الثانية اختصت بمزيد فائدة وهي قوله: ﴿وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾ ... ولولا هذه الفائدة لكان ذلك تكريرًا ولم يكن من باب الإطناب.
_________
١ديوان أبي تمام: ص٢٠٦.
٢ سورة التوبة: الآيتين ٤٤- ٥ ٤.
1 / 22
٣- أن يذكر المعنى الواحد تمامًا لا يحتاج إلى زيادة ثم يُضرب له مثال من التشبيه كقول البحتري يصف امرأة: ١
ذات حسن لو استزادت من
الحسن إليه لما أصابت مزيدا
فهي كالشمس بهجة والقضيب
الَّلْدن قدَّا والريم طرفا وجيد ا
فالبيت الأول كان كافيا وتماما في إفادة المدح غير أنَّ في البيت الثاني تشبيها أفاد تَصَوُّرا وتخيلا لا يحصل من المدح المطلق وهذا الضرب له موقع بديع في الإِطناب.
٤- الاستقصاء في ذِكْرِ أوصاف الشيء للمدح أو الذم ونحوهما كقول بعضهم:
لأعلى الورى قدرا وأوفر هم حجى
وأرشدهم رأيا وأسمحهم يدا ٢
فهذه أقسام الإِطناب في الجملة الواحدة وفي الجمل المتعددة، وله أساليب متنوعة لا نطيل بتفصيلها ولا نقصر عن إيجازها فمنها:
١) الإِطناب بالاعتراض.
٢) الإِطناب بالإيضاح.
٣) الإِطناب بالإِيغال.
٤) الإِطناب بالبسط.
٥) الإِطناب بالتتميم.
٦) الإِطناب بالتذييل.
_________
١ ديوان البحتري: ج١ ص ٥٩١.
٢ أقسام الإِطناب في الجمل المتعددة نقلتها عن كتاب الطراز: للعلوي، ج٢ ص ٢٣٨-٢٤٤. وانظر الفوائد المشوق: ص ١٥٧-١٥٩. ومعجم المصطلحات البلاغية وتطورها د. أحمد مطلوب، ج١ ص ٢٢٥-٢٢٦.
1 / 23
٧) الإِطناب بالتكميل.
٨) الإِطناب بالتكرير.
٩) الإِطناب بالتوشيع.
١٠) الإطناب بذكر الخاص.
١١) الإِطناب بالزيادة.
وبهذا ندرك منزلة الإِطناب في علم البلاغة ومكانته الكبيرة وأنه محيطها الأكبر الحائز على نصيب أكبر من مباحثها، وأن مباحث أخرى ليست إلا من فروعه وإن طالت، ولذا أطنبتُ في الحديث عنه وما أطلت وما ذاك إلا لأنه وثيق الصلة ببحثنا أو إن شئت فقل: إن بحثنا وثيق الصلة به، ذلكم أن المعاني البدهية كما أشرت في تعريفها هي لازم ما سبقها من كلام أو آلته التي لا يكون إلا بها فتبدوا لأول وهلة إن لم تكن تطويلا فهي إطنابا، ينبغي تعليل اختياره، وتوضيح حكمته، وبيان معناه.
التأكيد: وهو تمكين الشيء في النفس وتقوية أمره. وفائدته: إزالةُ الشكوك وإماطة الشبهات عَمَّا أنت بصدده ١. وأنواعه كثيرة٢ ويهمنا منها التوكيد الصناعي وهو أربعة أقسام: أحدها: التوكيد المعنوي بالنفس والعين وكل وجميع وعَامَّة وكِلا وكِلتا٣. الثاني: التأكيد اللفظي وهو تكرار اللفظ الأول، إما بمرادفه كقوله تعالى: _________ ١ الطراز العلوي، ج٢ ص١٧٦. ٢ ذكر الزركشي في البرهان ثمانية وعشرين قسما للتوكيد وفصل القول فيها من ص ٣٨٤ ج٢ إلى ص ١٠١ ج٣. ٣ أوضح المسالك: ابن هشام، ج ٣ ص ٣٢٧ – ٣٢٨.
التأكيد: وهو تمكين الشيء في النفس وتقوية أمره. وفائدته: إزالةُ الشكوك وإماطة الشبهات عَمَّا أنت بصدده ١. وأنواعه كثيرة٢ ويهمنا منها التوكيد الصناعي وهو أربعة أقسام: أحدها: التوكيد المعنوي بالنفس والعين وكل وجميع وعَامَّة وكِلا وكِلتا٣. الثاني: التأكيد اللفظي وهو تكرار اللفظ الأول، إما بمرادفه كقوله تعالى: _________ ١ الطراز العلوي، ج٢ ص١٧٦. ٢ ذكر الزركشي في البرهان ثمانية وعشرين قسما للتوكيد وفصل القول فيها من ص ٣٨٤ ج٢ إلى ص ١٠١ ج٣. ٣ أوضح المسالك: ابن هشام، ج ٣ ص ٣٢٧ – ٣٢٨.
1 / 24
﴿ضَيِّقًا حَرِجًا﴾ ١ على قراءة كسر الراء٢ و﴿وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾ ٣، وإما بلفظه، ويكون التكرار للاسم والفعل والحرف والجملة، فالاسم مثل: ﴿قَوَارِير قَوَارِير﴾ ٤، والفعل: ﴿فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا﴾ ٥، واسم الفعل نحو: ﴿هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ﴾ ٦، والحرف نحو: ﴿فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ ٧، والجملة نحو: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، َإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ ٨،٩.
الثالث: تأكيد الفعل بمصدره وهو عِوَض من تكرار الفعل مرتين، وفائدته: رفعُ تَوَهُّم المجاز في الفعل بخلاف التوكيد السابق فإنه لرفع توهم المجاز في المسند إليه١٠.
ويكون تأكيد الفعل بمصدره نحو: ﴿وَكَلَّمَ الله مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ ١١ وتارة
_________
١ سورة الأنعام الآية ١٢٥.
٢ وهي قراءة نافع وأبى بكر وقرأ الباقون بفتح الراء (التذكرة في القراءات: ابن غلبون، ج٢ ص ٤١٠ والكشف عن وجوه القراءات السبع لأبي مكي ابن أبي طالب، ج١ ص٤٥٠) .
٣ سورة فاطر: الآية ٢٧.
٤ سورة الإنسان الآيتين ١٥-١٦.
٥ سورة الطارق الآية ١٧.
٦ سورة المؤمنين الآية ٣٦.
٧ سورة هود الآية ١٠٨.
٨ سورة الانشراح الآية ٥-٦.
٩ الإتقان: للسيوطي، ج٢ ص ٦٦.
١٠ المرجع السابق.
١١ سورة النساء الآية ١٦٤.
1 / 25
يكون تأكيده بمصدر فعلٍ آخر نحو: ﴿وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا﴾ ١ إذا المصدر تبتلا، والتبتيل مصدر بَتَّل٢، وتارة يكون التأكيد بمرادفه كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا﴾ ٣، فإن الجهار أَحَدُ نوعيّ الدعاء٤، ويحتمل أن يكون منه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ﴾ ٥. ومثل هذه الآية في التصريح بالمصدر مع ظهوره فيما قبله قوله تعالى: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَن﴾ ٦وقوله: ﴿فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ﴾ ٧ وقوله: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ﴾ ٨،٩.
الرابع:١٠ الحال المُؤكِّدة لعاملِها وهي الآتية لتأكيد الفعل وسميت مُؤكِّدة لأنها تُعلم قبل ذكرها فيكون ذكرها توكيدًا، لأنها معلومة من ذكر صاحبها كقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ ١١ فالحياة معلومة من ذكر البعث، وكقوله تعالى: ﴿وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ ١٢. فالإِفساد معلم من مجرد ذكر العثو وهو أشد الإِفساد١٣ وكقوله تعالى: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ ١٤ فعدم
_________
١ سورة المزّمّل: الآية ٨.
٢ الإتقان السيوطي ج٢ ص٦٦.
٣ سورة نوح: الآية ٨.
٤ البرهان للزركشي ج٢ ص٣٩٤.
٥ سورة البقرة: الآية ٢٨٢.
٦ سورة آل عمران: الآية ٣٧.
٧ سورة التوبة الآية ١١١.
٨ سورة المعارج: الآية الأولى.
٩ البرهان للزركشي ج٢ ص ٣٩٨- ٣٩٩.
١٠ البرهان: للزركشي ج٢ ص ٤٠٢. والإتقان للسيوطي ج٢ ص ٦٦.
١١ سورة مريم: الآية ٣٣.
١٢ سورة العنكبوت: الآية ٧٦.
١٣ المعجم الوسيط: ج٢ ص ٥٩٠ - مادة (عثا) .
١٤ سورة ق: الآية ٣١.
1 / 26
البعد معلوم من (أزلفت) إذ معنى زَلَفَ: دنا وتقدم ١.
وبعد عرض- أحسبه سريعًا- للإِطناب والتأكيد تظهر لنا الصلة الوثيقة بالبدهيات ومن ثَمَّ صلةُ هذه الأخيرة بالبلاغة.
_________
١ المعجم الوسيط: ج١ ص ٣٩٩ مادة (زلف) .
أنواع البدهيات مدخل ... أنواع البدهيات: أشرت في تعريف البدهيات إلى انقسامها من حيث المصدر إلى قسمين ونحن هنا لا نقصد هذا المعنى وإنما نقصد أنواعها من حِيثُ هي بَدَهِيَّة. ولا أدعي أنَّ هذا التقسيم حاصرٌ إذ هو ليس إلا محض اجتهاد ممن قَصُرَ باعُه في قضية تحتاج إلى جلاء وبيان، وتمعنٍ وتفكرٍ، واستقصاءٍ وشمولٍ، فَلَعليِّ أذكر ما توصلتُ إليه وإن قَلَّ. بعد استقراء أو شبه استقراء أرى أنَّ البدهيات تنقسم إلى أنه ثلاثة: الأول: بدهية حسابية. الثاني: بدهية لغوية. الثالث: بدهية عادية. وسأتناول هذه الأنواع الثلاثة مُعَرِّفًا ومُمَثِّلًا لكل نوع بإذن الله تعالى. _________ ١ المعجم الوسيط: ج١ ص ٣٩٩ مادة (زلف) .
أولا: البدهية الحسابية: وتنقسم إلى قسمين: - القسم الأول: فذلكة٢ عددين مذكورين تفصيلا يُدركُ العقلُ مجموعَهما من فوره ولا يحتاج إلى ذكرِ مجموعهما. وفي القرآن من هذا النوع آيتان: _________ ٢ فدْلَك الحِسَابَ: أنهاه وفرغ منه، وهي منحوته من قوله: - إذا أجمل حسابه - فذلك كذا وكذا (الفذلكة) مُجْمل ما فُصِّل وخلاصته. (المعجم الوسيط ج٢ ص ٦٨٥) .
أنواع البدهيات مدخل ... أنواع البدهيات: أشرت في تعريف البدهيات إلى انقسامها من حيث المصدر إلى قسمين ونحن هنا لا نقصد هذا المعنى وإنما نقصد أنواعها من حِيثُ هي بَدَهِيَّة. ولا أدعي أنَّ هذا التقسيم حاصرٌ إذ هو ليس إلا محض اجتهاد ممن قَصُرَ باعُه في قضية تحتاج إلى جلاء وبيان، وتمعنٍ وتفكرٍ، واستقصاءٍ وشمولٍ، فَلَعليِّ أذكر ما توصلتُ إليه وإن قَلَّ. بعد استقراء أو شبه استقراء أرى أنَّ البدهيات تنقسم إلى أنه ثلاثة: الأول: بدهية حسابية. الثاني: بدهية لغوية. الثالث: بدهية عادية. وسأتناول هذه الأنواع الثلاثة مُعَرِّفًا ومُمَثِّلًا لكل نوع بإذن الله تعالى. _________ ١ المعجم الوسيط: ج١ ص ٣٩٩ مادة (زلف) .
أولا: البدهية الحسابية: وتنقسم إلى قسمين: - القسم الأول: فذلكة٢ عددين مذكورين تفصيلا يُدركُ العقلُ مجموعَهما من فوره ولا يحتاج إلى ذكرِ مجموعهما. وفي القرآن من هذا النوع آيتان: _________ ٢ فدْلَك الحِسَابَ: أنهاه وفرغ منه، وهي منحوته من قوله: - إذا أجمل حسابه - فذلك كذا وكذا (الفذلكة) مُجْمل ما فُصِّل وخلاصته. (المعجم الوسيط ج٢ ص ٦٨٥) .
1 / 27
الآية الأولى: قوله تعالى: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ ١، فقوله تعالى: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ جمع للثلاثة والسبعة وهي نتيجة يدركها العقل لأول وهلة من غير أن يحتاج إلى أن تجمع له ليُسْرِها وشُرْبِها إلى الذهن.
وقد يُسأل عن الحِكْمَةِ في إظهارها مع ظهورها؟ وللعلماء في بيان هذه الحكمة أقوال كثيرة فاضت قرائحهم في جلائها وتنافسوا في إبرازها والمصيب فيهم وإنْ اختلفوا غيرُ واحد، بل قد يكون الصواب حليفهم جميعا فإن الآية الواحدة قد تجمع وجوهًا بلاغية مختلفة، لأن الأوجه البلاغية لا تتزاحم. ولن نستوعب الأقوال كلها فلنتقصر على أبرزها فمنها:
١- جوابُ الزمخشري "فإن قلت: فما فائدة الفذلكة؟ قلتُ: الواو قد تجيء للإِباحة نحو قولك "جالس الحسنَ وابنَ سيرين"، ألا ترى أنه لو جالسهما جميعا أو واحدًا منهما كان ممتثلا، ففُذلِكَت نفيًا لتوهم الإِباحة" ٢.
وتعقبه أبو حيان في تفسيره فقال: "وفيه نظر؛ لأنه لا تتوهم الإِباحة هنا، لأن السياق إنما هو سياق إيجاب وهو ينافي الإِباحة ولا ينافي التخيير لأن التخيير قد يكون في الواجبات" ٣.
٢- ونقله أبو حيان في تفسيره عن أبي الحسن علي بن أحمد الباذش ووصفه بأنه أحسن الأقاويل فقال " أتى بعشرة توطيةً للخبر بعدها لا أنها هي الخبر المستقل به فائدة الإِسناد فجيء بها للتوكيد كما تقول: "زيد رجل
_________
١ سورة البقرة: الآية ١٢١.
٢ الكشّاف: الزمخشري، ج١ ص ١٢١.
٣ البحر المحيط: أبو حسان، ج٢ ص٨٠.
1 / 28
صالح "١ أي أنَّ إتيانك بلفظ (رجل) للتوصل بها إلى وصفه بالصالح وكذا جاءت كلمة (عشرة) توطئة لوصف الثلاثة والسبعة بالكمال.
٣- ونقل الزمخشري٢ وأبو حيان٣ عن ابن عرفه قوله "مذهب العرب إذا ذكروا عددين أن يجملوهما "وحَسَّنَ الزمخشري هذا القول وقال: "وفائدة الفذلكة في كل حساب أن يُعلَم العدد جملة كما علم تفصيلا ليُحاط به من جهتين فيتأكد العلم، وفي أمثال العرب: "عِلْمَان خير من علم"٤، قال أبو حيان: "قال ابن عرفة: وإنما تفعل ذلك العرب لقلة معرفتهم بالحساب" ثم استشهد أبو حيان لهذا بشواهد من أشعار العرب كقول الأعشى:
ثلاثة بالغداة فهي حسبي
وسِتّ حين يد ركني العشاء
فذلك تسعة في اليوم ريّيّ
وشرب المرءِ فوق الريِّ داء
وقال الفرزدق:
ثلاث واثنتان وهن خمس
وسادسة تميل إلى شمام
قلتُ: ولا يزال هذا هو السائد عند العرب وغيرهم في ذِكْر الأَعداد في الحساب فإنهم يذكرون الأرقام مفردة ثم يكتبونها مجموعة بالأَرقام ويُتْبعُون ذلكَ كتابةَ مجموعها بالحروف ثم يؤكدون الجمع بقولهم: (فقط) أو (لا غير) ويفعل هذا أَعرف الناس بالحساب، ولذا فلا وجه لقول ابن عرفة ﵀ الآنف الذكر أنَّ العرب تفعله لقلة معرفتهم بالحساب.
_________
١ المرجع السابق ج٢ ص ٧٩- ٨٠.
٢ الكشّاف: الزمخشري، ج١ ص ١٢.
٣ البحر المحيط: أبو حيان ج٢ ص ٧٩.
٤ البحر المحيط: أبو حيان، ج٢ ص ٧٩- ٨٠.
1 / 29
٤- قول الزجاج: "جَمَعَ العددين لجواز أن يُظَنّ أنَّ عليه ثلاثة أو سبعة، لأن الواو قد تقوم مقام (أو) ومنه: ﴿مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ﴾ ١، فأزال احتمال التخيير"، قال أبو حيان: "وهو الذي لم يذكر ابن عطية إلا إياه وهو قولٌ جارٍ على مذهب أهل الكوفة لا على مذهب البصريين لأن الواو لا تكون بمعنى أو"٢.
٥- أنه ذكر العَشْرَة لئلا يتوهم أنَّ الثلاثة داخلة في السبعة فرفع ما قد يهجس في النفس من أن المتمتع إنَّما عليه صوم سبعة أيام لا أكثر، ثلاثة منها في الحج وُيكمل سبعا إذا رجع٣. وذلك كقوله تعالى: ﴿خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْن﴾ ٤. فإنها داخلة في الأربعة أيام بعدها ﴿وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ﴾ ٥.
٦- وقيل هو تقديمٌ وتأخيرٌ تقديرُه: "فتلك عشرة: ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجعتم" عزا هذا القول إلى أبي العباس المبرد، قال أبو حيان٦: "ولا يصح مثل هذا القول عنه، وننزه القرآن عن مثله". وقال الزركشي: "وهذا وإن كان خلاف الأصل لكن الإِشكال ألجأنا إليه"٧.
قلت: ولا يصح القول أنَّ الإِشكال يُلجؤنا إلى مثل هذا، إذ أن لذلك وجوها كثيرة أسلم منه وأصح فلا ضرورة للجوء إليه، ولا إشكال يُحوجنا إليه.
٧- وقيل: ذكر العشرة لئلا يتوهّم أنَّ العدد سبعة لا يُراد بها العدد نفسه، بل الكثرة، فقد روى أبو عمرو بن العلاء وابن الأعرابي عن العرب: "سَبَّع الله لك الأجرَ" أي أكثر ذلك، يريدون التضعيف وقال الأزهري في قوله تعالى: ﴿إِن
_________
ْ١سورة النساء: الآية ٣.
٢ البحر المحيط: أبو حيان، ج٢ ص٨٠، وانظر المحرر الوجيز: أبو عطية، ج٢ ص ١٦١-١٦٢.
٣ البرهان. الزركشي، ج٢ ص٤٨٠. والبحر المحيط: أبو حيان، ج٢ ص ٨٠.
٤ سورة فصلت. الآيتين ٩- ١٠.
٥ سورة فصلت. الآيتين ٩- ١٠.
٦ البحر المحيط: ج٢ ص ٨٠.
٧ البرهان: الزركشي، ج٢ ص ٤٨٠.
1 / 30