ضيق الأعلى غير محكم الإزرار واسع الأسفل طويل الذيل، كأن لابسته من ذوات الأذناب، تثير في مشيتها الجراثيم وتضايق الرئتين والخياشيم، ومن قبعة مترامية الأطراف مدججة بالدبابيس مثقلة بالطيور وريشها والغصون وأزهارها وثمارها مدبجة بالأربطة الحريرية، ومن أناشيط (ينابيع) في أجزاء (الفستان) يضيع في ربطها وحلها الزمن سدى، فضلا عن تعدد الملابس لتعدد الأغراض؛ فحلة للصباح وأخرى للمساء وثالثة للخروج وأخرى للرقص وغيرها للاستقبال وهلم جرا، إن الزمن الذي يضيع كل يوم في اللبس والخلع لو صرف في عمل نافع لأتى بالفائدة وأراح من العناء، على أن لنساء الإفرنج حسنة واحدة في ملابسهن مفقودة عندنا، وهي البساطة عند الخروج للنزهة أو لقضاء شغل، فتلبس المرأة ثوبا قصيرا كي لا يعوقها عن المشي، أما نحن فنرتدي أحسن طرفنا في الخارج ونطيل في الذيول نجرها، على أن الأوروبيات أحق منا بالافتتان في الأزياء وشدة التأنق فيها لأنهن بارزات، أما نحن فأكثر ما يرانا جدران المنازل وإن خرجنا فتحت الإزار أو في العربات. وإذن، فلا لزوم لاتباع (المودة) بشغف زائد؛ لأنها تفقر وتضايق، وإن كان للغنيات حق التمتع بصرف مالهن، ولو فيما لا يجدي الإنسانية كالأزياء، فليس للمتوسطات حق إفقار بعولتهن أو آبائهن جريا وراء المودة المتقلبة.
تخرج بعض نسائنا عن حدود الأدب والشرع متفانيات في اتباع (المودة)، ولكن هناك فرقا كبيرا بين (المودة) والخلاعة، فإن لبست المرأة آخر الأزياء في بيتها فما عليها في ذلك من حرج، ولكن إذا أظهرت زينتها للمارة وظلت تتلكأ وتتسكع وتداعب وتضحك فتلك هي الخلاعة الشائنة، ولم تجئ في مجلات الأزياء (كالبرنتان واللوفر) وغيرهما، ففي أي كتاب قرأتها؟!
لاحظت شيئا غريبا في الفتيات؛ وهو أن الفتاة التي تتبرج وتتأنق مغالية في إظهار محاسنها وغناها تريد بذلك أن يعجب بها الخاطبون والخاطبات، هي التي تتأخر دائما في الزواج، وإن تزوجت فبرجل أقل مما كان ينتظر لمثلها، وهو عقاب طبيعي للمتبرجات؛ لأن الرجل مهما أعجبه شكل الخليعة وكلامها فهو لا يود أن يقتنيها لنفسه اعتقادا أن ما أعجبه منها ظاهر لغيره أيضا، ولو فطنت الفتيات إلى أن أول شرط يشترطه الرجل في امرأته خاصة هو الحشمة والترفع عن التبرج لما تأخرن لحظة عن الإقلاع عما زعمنه يقربهن في أعين الراغبين في الزواج، وهو في الحقيقة يبعدهن وينفر الرجال منهن، لست بذلك أدعو النساء إلى التقشف أو البعد عن الزينة، فليس لي أن أحرم ما حلل الله؛ ولأن في الزينة للمرأة بعض السعادة ولزوجها كذلك، ولكن غرضي الاعتدال في الزينة إلى عدم الخروج عن المعروف.
الدور الرابع: الخطبة والزواج
تتعجل الفتيات كثيرا في انتظار هذا الدور ولو علمن مصاعبه ومتاعبه لما تعجلنه، وأظن ما يشوقهن إليه هو الزخارف والحلي الجديدة وما يقام للعروس من معالم الزينة وما يتقاطر عليها من التهانئ والهدايا، ولكنهن لا يدرين التبعة العظيمة التي تتحملها المرأة بزواجها، وما قد يصيبها من الآلام النفسية في عيشتها الجديدة، وشتان بين الفتاة تنام ملء عينيها ولا تسأل إلا عن نفسها ويسعى أبوها وأهلها في إرضائها وجلب ما تشتهيه من ملابس وغيرها، وبين الزوجة تنتظر بعلها إلى ما بعد نصف الليل وتبكر قبل بزوغ الشمس لتجهيز طعامه وتنظيم ملابسه، وتظل يومها تشتغل في بيتها أو تلاحظ الخدم وعليها أن ترضيه وترضيهم وتخطب ود أهله وتقوم بتربية أولاده، وهي بين كثرة العمل وتنوع التبعة تحاسب حسابا عسيرا على أقل هفوة، وربما وجدت منه سكيرا فظا أحمق، وأدهى من ذلك أن يتحفها بضرة شرعية أو غير شرعية تأتي على ما بقي من رونق جمالها وسعادتها.
لا وسيلة للزواج عندنا إلا الخطبة، ولكن بأعين الأهل والجيران والخاطبات اللاتي قد تحسن في أعينهن من لا تحسن في عين الخاطب لاختلاف الأذواق والمشارب، فيتزوج الرجل على مجرد أوصاف رويت له، فيصور منها شكلا في مخيلته قد لا يطابق العروس الحقيقية أصلا لسوء تعبير الخاطبات وتحريفهن المقصود لغايات، وكذلك الفتاة لا تكاد تعلم عن خطيبها إلا اسمه وماله المبالغ في تقديره لترغيبها هي وأهلها، فإذا حان وقت المقابلة يكاد العروسان يصابان بالبكم والغشيان لفرط دهشة أحدهما من الآخر، وبعد المعاشرة قليلا قد يتفقان وقد لا يتفقان، وهل هذه المخاطرة في الحقيقة إلا نتيجة اعتقادنا المقلوب في القضاء والقدر؟! نعم؛ إن القضاء والقدر لا تجدي مغالبتهما، ولكن لا يصح اتخاذهما وسيلة للإهمال في جلب المنفعة أو درء الضرر، فإن هذه المسألة مسألة اختيار محض، للعقل أن يحكم فيها وحده، فإذا أحسن الاختيار حسنت عاقبته وإن قصر أو أهمل ساءت العقبى، على أن إسفار النساء عن وجوههن لم تجمع الأئمة على تحريمه فضلا عن أنهم كلهم يجوزونه عند الخطبة تحاشيا من وقوع الاختلاف ودعوى الغش فيما بعد.
أما الإفرنج فخشية أن يصابوا بما أصيب به أغلب أهل الشرق من الخطبة العمياء وما يترتب عليها من الشقاء المستمر أجمعوا على وجوب أن يتراءى العروسان قبل الخطبة مرارا ويتقابلا تكرارا، ولكنهم أفرطوا في الأمر كما فرطنا نحن فيه و«كلا طرفي كل الأمور ذميم.» لم يكتفوا بأن يرى الخطيب خطيبته عدة مرات، بل شرطوا أن يكون الزواج بعد الرضى أو الميل المتبادل بينهما؛ ولأجل أن يملكوا قلب الخاطب قبل أن يعرف من هو! يحرضون بناتهم على غشيان المتنزهات والمراقص ومجتمعات الفتيان لعل الواحدة منهن تخلب فتى من الذين هناك بالاتفاق، وقد تذهب المقابلة بعد المقابلة سدى فتتعرض لغيره ويتعرض لغيرها إلى أن تجد بعد طول مدة التخير فتى يكاشفها بعزم الاقتران، فتظن أنها وجدت ضالتها المنشودة، فتعلن أهلها ويتردد الخطيب عليها في البيت وغير البيت وربما تمضي على ذلك الشهور والسنون، ثم يغض الفتى عن الفتاة بدعوى أن الاختبار لم يؤد إلى المرام وأن القلوب لم تأتلف، وإذا كان أصل الفكرة وجوب الاختبار الطويل فيما يتعلق بالأخلاق والتأكد من الحالة الصحية كان العدول بعد الاختبار أمرا غير مستقبح، وإنما يكون الاستقباح بعد الإعلان القطعي وهو لبس الخاتم عندهم، ولا شك أن التساهل إلى هذا الحد فيه ما فيه من العيوب القبيحة مما لا يخفى على الناقد البصير.
والحق أن هذه المسألة من المعضلات الاجتماعية، فلا الاسترسال في الاختبار بمأمون العواقب ولا الاحتجاب المطلق عن الخاطب بمفيد، بل ربما كان مؤخرا للفتاة عن الزواج في الأوان المناسب، وربما كان في الحي الواحد فتيان وفتيات كل منهم يبغي الزواج ولا يعلم الفتيان بوجود الفتيات لاحتجابهن الاحتجاب الشديد ولعدم التعارف بين البيوت، ولا خلاص من هذه العقيدة إلا باتباع سنة السلف من العرب في صدر الإسلام من مباشرة الفتاة خدمة الضيوف، ومقابلة زائري أهلها لاستطلاع قصدهم، والخروج في القرى إن كانت بها للمساعدة في بعض الأعمال، ويجب على الفتيان في مثل هذه الحال أن لا يظهروا غرضهم أمام الفتيات، أو يتعرضوا لهن بالخطبة، فإن ذلك مغاير للذوق والأدب ومؤد لخجل الفتيات وانزوائهن وراء الحجب، وينبغي أن تعود الفتيات هذا الأمر من صغرهن حتى لا يستغربنه عند الكبر ويحسسن بشذوذه، وهذه الطريقة متبعة في القرى والبوادي المصرية، فحبذا لو اقتدى بهم غيرهم متى أمنت الفتنة وسلمت الأعراض وصلحت مقاصد الرجال في رؤية النساء، أما في العصور والأماكن التي خبثت فيها مقاصد الرجال وانحطت أغراضهم وشاهت آدابهم، فإن الحجاب للمرأة ليس إلا حصنا يصونها من عدوان الخبثاء المفسدين.
وفي الحالة التي لا بأس من الخروج فيها يشترط أن يكون خروج الفتاة مع أبيها أو أخيها أو أحد محارمها، وعلى كل حال فالشيء الذي لا بد من منعه هو انفراد الفتى بالفتاة المحادثة في غير ضرورة؛ لما في ذلك من مخالفة للشرع وإثارة التهم.
هذا ما يقال في الخطبة، أما الزواج فطريقتنا فيه مختلة أيضا، فالمرأة الغربية في بعض البلاد تدفع الصداق (الدوت)، وقد يكون من جراء ذلك بعض الظروف أن تصير الزوجة سيدة الرجل الآمرة الناهية، والمرأة الشرقية كانت لا تدفع شيئا ولكن يدفع الرجل الصداق فيأخذه أهلها لأنفسهم ولا يشترون لها منه شيئا، وبذلك يعتبر الرجل سيدها لا حق لها في معارضته، وهاتان الطريقتان بغير نظر إلى صلاحيتهما أو تفضيل إحداهما على الأخرى واضحتان في أن دافع الصداق هو المنفرد بالسيادة في البيت، أما طريقتنا الآن فهي معتلة؛ ولذلك فالسيادة متنازع عليها بين الزوجين المصريين، يدفع الرجل الصداق فتأتي المرأة بما يساوي ضعفه أو ضعفيه أو أكثر، تعنت بذلك أباها أو أخاها، وإذا كانت موسرة وتزوجها الرجل لمالها كان التنازع بينهما على الرياسة أمرا مقضيا لا محيص عنه، فهي بما لها من الثراء ترى نفسها سيدة المنزل ، وهو - بما منحه الله من الدرجة في الفضل وبما أنفقه من ماله عليها - يرى نفسه سيد المنزل، وهنالك يقع التنازع.
अज्ञात पृष्ठ