نحن نبادر بإرسال أولادنا للمدارس وهم صغار لا يدركون ماهية العلم ولا يألفون حجر حريتهم، فيضايقهم المعلمون بتدريسهم الممل غير الجذاب، ويلزمون أعضاءهم المخلوقة للحركة بالسكون التام، فيتربى في الطفل نفور من المدرسة والدرس، فتجبره أمه على الذهاب إلى المدرسة فيزيده الإجبار نفورا، وقد يكون خطؤنا في إرسال أولادنا صغارا جدا للمدرسة ومضايقة المعلمين لهم بأساليبهم العقيمة ما ينقص من استعداد الطفل لتلقي العلم ويفسد ملكاته، أما الطفل الغربي فهو أسعد حظا؛ إذ تعلمه أمه في البيت طرق الملاحظة والمشاهدة وتلقنه فوائد الأشياء والأسرار القريبة الإدراك لما يحيط به من نبات وحيوان ومطر وغيره، وتعلمه الإحسان والشفقة بما تفعله أمامه من ضروبهما، وكذلك تعلمه القراءة والكتابة الأولية بأسلوب شائق ولا ترسله للمدرسة إلا وفيه ميل إليها واستعداد لما سيلقى عليه بها، وقد جربت ضرر إرسال الأولاد للمدرسة صغارا في نفسي وفي إخوتي وفيمن شاهدته من التلميذات، فإني ظللت حوالي ثلاث سنين لا أفقه معنى للمدرسة، ولا أكاد أفهم الغرض من إرسالي إليها، وكذلك شاهدت أن النابغات من التلميذات هن اللاتي أرسلن للمدرسة في سن الثامنة أو العاشرة، أما المرسلات صغيرات فأكثرهن لم يستفدن شيئا غير ضعف البنية وخسارة ما أنفق عليهن، إذا لم يكن بد من إرسال الأطفال للمدرسة صغارا فيجب أن تجعل لهم فرقة مخصوصة كفرقة بستان الأطفال (الكندر جارتن) التي تجعل فيها الدروس مزيجا من التعلم والرياضة، ويراعى فيها مدارك الطفل، وتمرن حواسه وأعضاؤه بغير إجبار يخافه أو تكرار يمله، ولو كانت الأمهات معتنيات بأطفالهن تمام العناية فإن تلك الفرقة كان يجب أن تكون في كل بيت أنعم الله عليه بنعمة الأولاد.
للتربية عندنا إحدى طريقتين: إما القسوة أو التدليل وكلاهما مضر؛ فالقسوة ترهق الطفل وتعلمه الذل، والتدليل يطرح به في مهواة الغرور، فمن دلائل القسوة تخويفنا الأطفال وتصوير صور مخيفة لهم من الظلمة وملء أذهانهم بترهات لا أصل لها (كالبعبع والمزيرة ... إلخ) وضربهم عند مخالفتهم لنا، ومن تدليلنا إياهم أن نعلمهم الأنانية ونعطيهم ما يشتهون عند بكائهم بعد منعهم إياه قبل البكاء، فيتعلمون من ذلك أن الصياح ميسر العسير ومقرب البعيد فلا يتأخرون عن البكاء عند أي شيء نمنعه عنهم، وقد رأيت كثيرا أن طفلا ينصح لأخيه أو أخته الأصغر منه سنا بأن يبكي حتى يأخذ كيت وكيت مما كان منع عنه، أما الإفرنج فطريقتهم في تربية الأطفال خير من طريقتنا أضعافا؛ فيعاقبون الطفل الذي يبكي لطلب شيء بالحرمان منه فيعلم أن البكاء لا يجدي ويطلبه بالطرق المشروعة، وإن منع منه فلا يعود يتشبث به، ويستحضرون في المنزل ما تمس إليه حاجة الأولاد من الحلوى واللعب خوفا عليهم من قذارة ما في الأسواق واقتصادا للمال والزمن.
الدور الثالث: دور المراهقة
هذا هو الدور الذي تتجلى فيه صفات الفتاة حسنة كانت أو سيئة، وإن كانت الأخيرة فمن الصعب تغييرها، في هذا الدور يهتم الأهلون بإرسال أولادهم الذكور للمدرسة وإن كانوا يدخلونهم قبل ذلك الكتاتيب، ولا يهتمون كثيرا بتثقيف عقل الفتاة، على أنهم قد أخذوا يقلدون الغربيين أخيرا في تعليم الفتاة، ولكن لم يكن التقليد نافعا لنا ولا محكما في ذاته، فالفتاة الغربية تتعلم العلوم إلى أن تحصل منها على درجة عالية أو درجة محمودة، أما فتاتنا المصرية فلا تكاد تقرأ وتتعلم قشورا بسيطة من العلم حتى تستغني بها عن الاستمرار في الاستفادة، فهي لا تقلد الغربية في التعلم النافع وإنما تقلدها باستماتة في تعلم البيانو والرقص، ولا أدري لماذا أخذت البيوت الشرقية تبطل العود والقانون وتتعلم (البيانو) مع أن الأولين - فضلا عن كونهما شرقيين - ألطف صوتا وأشجى نغمة وأقل جلبة وأرخص ثمنا وأخف حملا، إن (البيانو) لازم جدا في الغرب لتحية الجموع في المراقص والكنائس؛ لأنه بنغماته العالية يسمع إلى مكان بعيد، أما في بيوت المسلمين حيث لا مراقص ولا كنائس، فلا أجده من الضرورة بالدرجة التي يتهافت عليها فتياتنا. نعم؛ إن تعلم الموسيقى من الكماليات الممدوحة، ويقولون إنها مهذبة للطبع مرققة للشعور، ولكن ألم يكن الأولى تعلمها على الآلات الشرقية التي لا ضوضاء لها؛ إذ هي بذلك أدعى للحشمة فلا يتعدى صوتها البيت الذي هي به؟!
لو سلمنا بضرورة تقليد الغربية في تعليم (البيانو) لوجب محاكاتها أيضا في تعلمه من حيث هو فن وإتقانه، لا أن تقتصر الفتاة على نقر لا تناسب بين نغماته حتى إن سليم الذوق مع عدم تلقيه دروسا في (البيانو) يمكنه نقد ذلك الضرب الذي لا قانون له على صماخ الأذن لا على (البيانو) فإن أذنه تنبو عنه لسماجته!
ماذا تقرأ الفتيات في سن المراهقة؟! لا يقرأن إلا الروايات الغرامية وهن في ذلك الوقت موضع لسورة الانفعالات النفسية؛ فيتأثرن بحوادث العشق والهرب وتنطبع في ذاكرتهن أشعار وجمل غرامية مما يقرأن، وتمر أمامهن صور تلك الحوادث كالصور المتحركة، فلا تعدم أن تلقى أثرا في عقولهن اللينة، إلا أن الآباء ملومون في هذه الحالة لعدم اختيارهم كتبا نافعة تقرأها فتياتهم، لماذا لا يختارون لهن مثل كتاب التربية الاستقلالية وفيه أمور نافعة جدا في تربية الأطفال ومعاملة الأزواج؟! أو مثل كتاب كليلة ودمنة؟! أو كتب تراجم المشهورين من رجال ونساء؟! فإن في قراءة سير المشاهير ما يبعث القارئ على أن يقتدي بهم، أو مثل كتب آداب اللغة وغيرها مما يلذ ويفيد في آن واحد، هذا إذا وجدت الفتاة من كتب الفلسفة والعلم ما يستعصي عليها فهمه أو تتضجر من الاستمرار على قراءته لجده الخالص وجفافه، ماذا تفعل الفتاة في سن الرابعة عشرة أو السادسة عشرة وهي ممتلئة الذهن بحوادث «روميو وجوليت» وألفاظ «فاتنتي وحبيبتي» إلخ؟! إنها تتمنى أن تسمع مثلها وتكون مرموقة بنفس تلك العين؛ لأن سنها - كما بينت - أخصب مراعي إبليس، هذا من جهة القراءة. أما الحرية، فإن الفتاة المصرية الأولى كانت محجورا عليها لدرجة الحبس، والفتاة الغربية لها مطلق الحرية أن تغدو وتروح وحدها وتسافر من بلد لآخر قاص بغير رقابة أهلها، وهذا من الخرق في الرأي، وأخاف أن تغرنا زخارفه فنعمل به؛ لأن كثيرات من فتياتنا المتعلمات يحسبن أن الدرجة التي وصلن إليها تكفي لإعطائهن مطلق الحرية يغدون ويرحن وحيدات، وإن حوادث الفتيات المحزنة كثيرة جدا في أوروبا؛ لأن الفتيات الطائشات يصدقن لصفاء نيتهن كل مدع لهن بالغرام، وتساعدهن حريتهن المطلقة على مسايرة الفتيان، ثم لا يلبث الرجال أن ينفضوا من حولهن، ويتركوهن بين اليأس والعار وهما أمران أحلاهما مر.
من رأيي أن تمنع الفتاة في سن المراهقة هذه من الاختلاط بالشبان، وحاشا أن أمس بكلامي هذا شرف الفتيات، وإنما أحب أن أنبه إلى شيء طبيعي والعاقل من اتعظ بغيره، ويكفي تجنبا لمثل هذا الاختلاط المعيب أن أهله أنفسهم هم أول العائبين له، والفتاة في هذه السن ككل إنسان تطلب الحرية ويجب أن تتروض وتخرج، وهذان لا أمنعهما عنها، وإنما أنصح للأمهات أن يرافقنهن وللآباء أن يراقبوهن مراقبة لا تتمكن بها من الوجود مع غير ذي رحم محرم.
ثم إذا ثبتت للوالدين مقدرتها على حسن السير وطهارة الذيل وقوة الإرادة فلا بأس من إباحة الحرية لها في زيارة صاحباتها، وأرى أن الحرية المطلقة والحجر المطلق كلاهما مضر؛ فكما أن الأولى تسهل سبل الفساد لمن تريدها، كذلك الثاني يخلق في الفتاة ميلا لأن ترى كل شيء ويعلمها طرق الغش والكذب؛ فيكون قد جنى أهلها جنايتين.
إن صلاح الفتاة مترتب دائما على تربيتها الأولى، فإن فسدت فقد يكون قليل من الحرية أفضل من الحجر المطلق؛ لأنه لا ينفع ولا تعدم الفتاة منفذا لأغراضها فتتعلم بذلك السرقة والخداع وقد تكون بعيدة عنهما من قبل.
أفضل طريقة لتربية البنات هي أن يرين قبل البلوغ كل شيء تصح مشاهدته، بمعنى أن البنت في نحو العاشرة يجب أن يريها والدها الصور المتحركة والتمثيل والألعاب المختلفة والحوانيت الكبيرة والمتنزهات والآثار، ويركبها السيارة ويريها الحفلات وغير ذلك، حتى تلم على قدر الإمكان بكل شيء حسن أو عجيب، فتستنير من جهة ولا تظل بلهاء ككثير من فتياتنا من جهة أخرى، وحتى تكون امتلأت نفسها من الصغر فلا تجد فيها فراغا فيما بعد لطلب المزيد من المشاهدات، فإذا عرضت لها الفسحة في حياتها المستقبلة فلا بأس بها وإن لم تعرض فلا تأسف كثيرا عليها.
अज्ञात पृष्ठ