4
من مجراه، ولا ينقص النيل بذلك، ويوجد أخصب الأرضين في نهاية أمره مع ذلك، وعلى ما يبدده النيل من أدق قواه في فتائه على ذلك الوجه تبصره مهولا في مصبه، وعلى ما يدل عليه طوله من سدس محيط الأرض تراه أبسط الأنهار شكلا، فهو يجري من الجنوب إلى الشمال توا محدثا عطفة وحداة فقط، وهو لم ينحرف غير أربعمائة كيلومتر من طوله البالغ ستة آلاف كيلومتر، ويقع مصبه ومنبعه على درجة واحدة من الطول تقريبا.
ويشتمل حوض النيل على أعظم بحيرة في نصف الكرة الأرضية الشرقي وعلى أعلى جبال قارته وأكبر مدنها، ويعمر ضفاف النيل أكثر طيور النصف الشمالي من الكرة الأرضية وجميع ما في الفردوس من حيوان ونبات يترجح بين نوامي الألب وغياض البلاد الحارة وغراس البطائح والغدران، وزرع السهوب والفيافي وأغنى ما في الدنيا من الأطيان، ويطعم وادي النيل مئات العروق ويقوت أناسي من الجبال والمناقع ومن العرب والنصارى ومن أكلة لحوم البشر ومن ذوي الطول والقصر، وما بين الناس من اصطراع في سبيل الثراء والسلطان وفي سبيل العادات والإيمان وفي سبيل هيمنة اللون يمكن تتبعه هنا لمدة ستة آلاف سنة خلت؛ أي لمدة أطول مما في أي مكان لتاريخ البشر.
ولكن أعجب ما وجدت في تلك الظاهرات التي تتجلى فيها قدرة الطبيعة وعمل مخلوقاتها وجهود الناس والزراعة والنبات والحيوان والأمم وتاريخها هو أنها ما كانت لتوجد لولا النهر، أو كانت توجد على خلاف ما هي عليه بغير النهر.
بدا النيل لي كائنا حيا يقوده قدر مرهوب نحو استعباد محتوم بعد ظهور نضير، ولاح النيل لي كعظماء الرجال فأردت أن أستنبط من طبيعته تسلسل حوادث حياته المقدر فأبنت كيف أن الوليد - وهو يتفلت من الغابة البكر - ينمو مصارعا ثم تفتر همته ويكاد ينفد ثم يخرج ظافرا، وكيف أن أخاه القصي المقحام يهرع إليه ليزلقا معا من خلال الصحراء ويصاولا الصخر، والنيل في تمام رجولته يقاتل الإنسان فيقهر ويروض ويوجب سعادة الآدميين، ولكن النيل قبل ختام جريته يسبب من المآسي أكثر مما في شبابه الوحيش.
ويكون تأثير البيئات في النيل شديدا في البداءة شدة تأثر الصبا والفتاء بالطبيعة والمحيط، فإذا مضى حين عملت مكافحته الإنسان عملها فيه وساقته، ويجاوز النيل دور البساطة الأولية في الكون إلى دور النور المعقد في التمدن الحديث فيبصر مبدأ قاهريه الأكبر في خطر، ويتعبه طمع الناس في المال فيقذف نفسه في البحر ليجدد ببعث خالد.
وفي الغالب تجد وثائق حياة كل نهر في المؤلفات العلمية أو في كتب السياحة حيث يسافر الكاتب مع القارئ، ويتضمن الوجه الوصفي الجديد الذي هدفت إليه طرازا آخر في جمع الوقائع، فقد أمسكت النهر في مراكز مجراه الحيوية الخمسة كما صنعت في تراجمي السابقة: أمسكت به في بحيرة ألبرت (مرتين) وفي بحيرة نو وفي الخرطوم وفي أسوان وفي القاهرة، وقد نويت وصف حياة، لا كتابة دليل، فلا أسيح مع القارئ على النهر، ولا أقص مغامراتي بل أقص مغامرات النيل، والنيل سائحا هو الذي يفتن مصيره أفئدتنا أجمعين.
ومن العبث أن يبحث في هذا السفر عن جغرافية كاملة لبقاع النيل الأربع أو عن تاريخ جامع لها، أو عن معلمة
5
للشعوب والحيوان والنبات، وتبصر في هذا السفر نبذا تقصر بلا انقطاع اجتنابا لعوق النهر عن جريه، وتبصر في هذا السفر إعراضا عن حياة كاشفي منبع النيل الروائية مع احتمال بيانها ذات يوم على انفراد.
अज्ञात पृष्ठ