والجواب قلنا ما المعنى بقولك الباري تعالى جواد بذاته وما معنى الجود فإن عندنا وعندكم الجود ليس صفة ذاتية زايدة على الذات بل هو صفة فعلية والصفات عندكم إما أن تكون سلوبا كالقديم والغنى فإن معنى القديم نفي الأولية ومعنى الغنى نفي الحاجة وأما أن تكون إضافات كالخالق والرازق على اصطلاحنا والمبدئ والعلة الأولى على اصطلاحكم وليس لله صفة وراء هذين المعنيين فالجود من قسم الإضافة لا من قسم السلب فلا فرق إذا بين معنى المبدئ وبين معنى الجود ومعناهما الفاعل الصانع فكأنكم قلتم صانع بذاته وهو محل النزاع ومصادرة على المطلوب الأول فإن الخصم يقول ليس فاعلا لذاته وفعله ليس قديما لم يزل وفيه وقع الخلاف غيرت العبارة من الفعل إلى الجود وجعلته دليل المسئلة وإذا كان معنى الجود راجع إلى الفعل والإيجاد فقوله مرة هو جواد ومرة غير جواد كقوله مرة فاعل ومرة غير فاعل وذلك أيضا محل النزاع فلم يجب أن يقال انه يوجب التغير.
وإنما حل الشبهة فيه من وجهين أحدهما أن الفعل إنما امتنع في الأزل لا لمعنى يرجع إلى الفاعل بل لمعنى راجع إلى نفس الفعل حيث لم يتصور وجوده فإن الفعل ما له أول والأزل ما لا أول له واجتماع ما لا أول له مع ما له أول محال فهو تعالى جواد حيث يتصور الجود ولا يستحيل الموجود أليس لو عين الشخص في زماننا فيقال يجب أن يوجد أزلا لأن الباري سبحانه جواد لذاته كان السؤال محالا لأن الموجود المعين استحال وجوده فيما لم يزل فاستحالة وجود الموجود هو المانع لفيض الوجود لا منعا يكون ذلك حملا أو زجرا بل هو ممتنع في ذاته وهكذا لو أوجد ما أوجده أولا أو أوجد جميع الموجودات معا من غير ترتيب واحد على واحد كل ذلك غير جايز عند الخصم ولم يقدح في كونه جوادا هذا كما يقدره المتكلم أن الباري سبحانه يوصف بالقدرة على ما يجوز وجوده وإما ما يستحيل وجوده فلا يقال الباري تعالى ليس قادرا عليه بل يقال المستحيل في ذاته غير مقدور فلا يتصور وجوده.
وهذا هو الجواب أيضا عن قولهم لو لم يكن صانعا فصار صانعا كان صانعا بالقوة فصار صانعا بالفعل وتغيرت ذاته.
فإنا نقول إنما لم يكن صانعا لم يزل لأن الصنع فيما لم يزل مستحيل الوجود وإذا استحال وجود الشيء في نفسه ولذاته لم يكن مقدورا فلا يكون مصنوعا قط وإذا استحال وجود الشيء لمعنى آخر كان جايزا في ذاته فإذا زال ذلك المعنى تحقق الجواز فصار مقدورا فيكون مصنوعا والصنع لم يزل إنما استحال لنفي أولية الأزل وإثبات أولية الصنع فكان الجمع بينهما محالا فإذا نفيت الأزلية تعينت الأولية فتحقق الجواز فصح المقدور فوجد المصنوع.
وكذلك الجواب عن الشبهة الثالثة أنه علة لذاته فإن معنى كونه علة أي مبدئ لوجود شيء وإنما الممتنع وجود المعلول مع العلة معية بالذات فإن ذلك يرفع العلية والمعلولية وكذلك نقول يستحيل وجود المعلول مع العلية معية بالزمان فإن ذلك يوجب كون العلة زمانية قابلة للتغير وذلك محال أيضا فيجب أن يتقدم في الوجود لأن وجود الباري سبحانه وجود لذاته غير مستفاد من غيره ووجود العالم مستفاد منه والمفيد أبدا يتقدم في الوجود.
أما الوجه الثاني في حل الشبهة أن نطالبهم أولا فنقول بما عرفتم أنه سبحانه يجب أن يكون جوادا لذاته قالوا لأن موجودا ما يفعل أكمل من موجود لا يفعل وإن تصدر عنه موجودات أشرف من أن لا تصدر.
قيل له لو عكس الأمر عليكم أن الموجود الذي لا يفعل أكمل فما جوابكم عنه إذ ليس هذا من القضايا الضرورية خصوصا في موجود يكون كماله بذاته لا بغيره وإنما يصدر عنه فعل لو صدر لا لغرض ولا ليكتسب به حمدا ولا أمرا ما يتعلق بالتناقل لعمري لو كان موجودان أحدهما كماله بذاته والآخر كماله من غيره شهد العقل بالضرورة أن الذي كماله بالذات أشرف من الذي كماله بغيره والموجود الذي لو لم يفعل فعلا كان ناقصا فليس بكامل الذات بل هو ناقص مستكمل من غيره فلم يصح أن يكون واجب الوجود لذاته.
وأما حل الشبهة الثانية نقول ما المعنى بقولكم إذا لم يكن صانعا فصار صانعا فقد تجدد أمر فنقول تجدد في ذات الصانع أمر أم تجدد أمر في غير ذاته والأول غير مسلم والثاني مسلم وهو محل النزاع.
पृष्ठ 17