وسواء كان الأمر متعلقا بطبيعة المسيحية الأولى، أم بالمسيحية التالية، فإن عقل الإنسان الحديث، في رأي نيتشه، لم يعد يتحمل مثل هذه التعاليم. «فلم تعد أذهاننا هي التي تدين المسيحية الآن، بل ذوقنا»!
15
وهو يرى في المسيحية أفكارا لا يكاد العقل الحديث يتصورها إذا تأملها بشيء من الموضوعية فيقول: «عندما نستمع في صباح الأحد إلى دقات الأجراس القديمة، فعندئذ نتساءل: أهذا ممكن! إن ذلك كله من أجل يهودي صلب منذ ألفي عام، كان يقول إنه ابن الله، وهو زعم يفتقر إلى البرهان؛ فلا جدال في أن العقيدة المسيحية هي بالنسبة إلى عصرنا أثر قديم نابع من الماضي السحيق. وربما كان إيماننا بهذا الزعم، في الوقت الذي نحرص فيه على الإتيان ببراهين دقيقة لكل رأي آخر، هو أقدم ما في هذا التراث. فلنتصور إلها ينجب أطفالا من زوجة فانية ... وخطايا ترجع إلى إله، ويحاسب عليها نفس الإله، وخوفا من عالم آخر يكون الموت هو المدخل إليه ... لكم يبدو لنا كل ذلك مخيفا، وكأنه شبح بعث من الماضي السحيق، أيصدق أحد أن شيئا كهذا لا يزال يصدق؟»
16
ولعلنا قد أوضحنا الآن تلك الحقيقة التي لا سبيل إلى الشك فيها، وهي أن العقائد، في كل صورها الشائعة، لا تلائم تفكير نيتشه على الإطلاق؛ غير أنه لم يقف عند حد الإنكار السلبي للعقائد دائما، بل أتى في الفترة الأخيرة من تفكيره الفلسفي، بما يمكننا أن نسميه عقيدته الخاصة؛ أعني فكرة العود الأبدي. ولسنا نود أن نحكم على هذه الفكرة مقدما، بل يكفينا أن نشير إلى أنها تفي بكل الشروط التي افتقرت إليها العقائد الشائعة في رأي نيتشه؛ فهي عبادة للأرض، وللإنسان في هذا العالم؛ وأهم من هذا كله أنها ترتكز على التصور اليوناني للعالم، وترجع في كثير من تفصيلاتها إلى تعاليم فلاسفة اليونان.
فكرة العود الأبدي
17
لفكرة العود الأبدي تاريخ طويل في الفلسفة، بل قبل الفلسفة، فأصولها ترجع إلى عهد الأديان القديمة التي قامت بها على أساس أسطوري لا يمت إلى العلم أو المنطق العقلي بصلة. واحتلت الفكرة أهمية كبيرة في الفلسفة اليونانية، فقد ظهرت لها بوادر في فلسفة أنكسمندر، حين قال بعدد لا متناه من العوالم، وإن كنا لا ندري إن كانت هذه العوالم تتعاقب أو تتواجد معا، غير أن مما يعزز الرأي القائل بأنها تتعاقب، اعتقاد أنكسمندر بالفناء الكوني؛ ومن هنا يمكن القول إنه قد عرف نوعا من التعاقب بين أحوال مختلفة للعالم، يقرب مما تقول به نظرية العود الأبدي، وإن لم نكن على ثقة من أن كل عالم ستتكرر فيه بدقة نفس حوادث العالم السابق كما تقول النظرية.
وازدادت الفكرة وضوحا عند هرقليطس؛ فالنار في رأيه، وهي عنصر الكون الأساسي، تلتهم العالم بين فترة وأخرى، فيعود العالم بعد ذلك عودا مماثلا لصورته السابقة، وذلك خلال «دورات معينة من الزمان».
كذلك قال أنبادقليس بتتابع أبدي لعوالم متتالية تكون ثم تفسد، وشهد له أفلاطون وأرسطو بأنه رأى العالم في حالة تغير دائم، يتم خلاله تبادل السيطرة بين قوتي الحب والكراهية، بحيث يكمل الكون دورته كلما عاد أحد هذين العنصرين إلى السيطرة الكاملة.
अज्ञात पृष्ठ