ولا جدال في ضوء ما ذكرنا أن العامل الشخصي كان له أثر كبير في آراء نيتشه هذه. فتقديره الكبير لشخصيات مثل لو سالومي وكوزيما فاجنر، يثبت أن رأيه الحقيقي في المرأة لم يكن دائما على هذا النحو من العنف، وإنما اتخذ هذا الطابع فيما بعد، حين أخفقت علاقاته بهؤلاء النساء. ويكفي أن ذلك الذي قال: «إن الزيجات التي تتم عن طريق الحب (أعني ما يسمى بزواج الحب) تتولد عن الخطأ أبا وعن الحاجة أما.»
14
يكفي أنه هو ذاته قد سعى إلى زواج مبني على الحب، وأخفق فيه!
وبجانب هذا العمل الشخصي، نلمس هنا أيضا أثر ذلك العامل الذي نبهنا إليه من قبل مرارا؛ وأعني به طغيان معلوماته الثقافية على روابطه الواقعية بالعالم المحيط به؛ فهو يعود دائما بذهنه إلى العصر اليوناني، ويجد مثله الأعلى في نظرة اليونانيين إلى المرأة، بل إنه يبرر الشذوذ الذي عرف عن اليونانيين تبريرا يجعل منه ظاهرة سليمة، فيقول إن ميل الرجال إلى التغزل في الشبان في العصر اليوناني إنما كان نتيجة ضرورية لطغيان روح الرجولة على اليونانيين، ويؤكد أن مهمة المرأة في العصر اليوناني كانت تقتصر على إنجاب أبناء ذوي أجسام قوية كآبائهم، مما أدى إلى حفظ شباب الحضارة اليونانية. «حضارة الرجولة»، أطول مدة ممكنة؛
15
فالخلط بين طبائع العصور يؤدي به إلى أن يقصر مهمة المرأة على إنجاب أبناء أقوياء فحسب، متجاهلا تماما كل التطورات التي مرت بها الإنسانية بين العصرين.
وأخيرا، فإن نفس الخطأ العلمي الذي لاحظناه من قبل، يتردد هنا مرة أخرى؛ فنيتشه يخلط بين الصفات الطبيعية والصفات الاجتماعية، وهو لم يحاول أن يفكر بعمق في علة هذا النقص الذي لاحظه على المرأة، واعتقد أنه صفة طبيعية فيها، ولم يطف بذهنه احتمال كون هذا النقص ناتجا عن عوامل اجتماعية معينة، لا عن ذلك الأصل غير العلمي؛ أعني التركيب الطبيعي. ولنضرب لفكرتنا هذه مثلا بصفة المحافظة، فهذه الصفة هي في حقيقتها نتيجة، لا سبب؛ أعني أنها نتيجة لأوضاع اجتماعية معينة حتمت على المرأة أن تكون محافظة. وليست سببا «طبيعيا» يحط من مكانتها الاجتماعية، ويكفي أن المرأة قد خضعت طويلا، وخلال مئات السنين، لسلطان طاغ من جانب الرجل، فمن الطبيعي أن يؤدي تراكم الضغط عليها عبر الأجيال المتوالية إلى أن يبعث فيها روح المحافظة، والخوف من كل خروج عن السلطة السائدة في المجتمع، حتى ليبدو ذلك بالنسبة إلى النظرة السطحية صفة طبيعية كامنة فيها؛ غير أنه لم يكن ينتظر من ذلك الذهن المدقق - ذهن نيتشه - أن يخدع بمثل هذه الصفة السطحية، ولا يردها إلى أصلها التاريخي والاجتماعي.
القومية والحرب
حاولت الدعاية النازية أن تصور نيتشه بأنه فيلسوف متعصب لقوميته إلى حد الدعوة إلى الحرب لحسم كل نزاع يقع بين وطنه وغيره من البلاد، ولضمان سيادة هذا الوطن وإثبات تفوق الجنس الذي ينتمي إليه على سائر الأجناس البشرية، فهل كانت تلك الدعاية تستند إلى أساس صحيح في تفكير نيتشه؟ لا شك في أنه قد ثبت اليوم نهائيا أن الصورة التي رسمها الألمان في عهد النازية لنيتشه كانت صورة مشوهة إلى حد بعيد، وأنهم حملوا نصوص نيتشه ما لا تحتمل. ولكن ليس معنى ذلك أن نيتشه كان داعية صريحا للسلام، أو أنه لم يحمل على الجنس السامي مطلقا، وكل ما في الأمر هو أنه لم يتفلسف على النحو الذي فهمه به فلاسفة النازية، ولم يدع إلى الحرب أو يحمل على السامية، لنفس الأغراض وعلى نفس الأسس التي قام عليها التفكير الألماني في تلك الفترة المظلمة من تاريخه.
أما عن معنى الوطنية عند نيتشه، فلا شك في أنه لم يكن ألمانيا متعصبا بالمعنى الذي عرف عن فلاسفة الإمبراطورية في عهد بسمارك، وفي الحربين الأخيرتين. فلم يكن نيتشه من أولئك الألمان الذين يزجون مدائحهم إلى العنصر الألماني، ويتغنون بامتياز شعبهم وعلوه على سائر شعوب الأرض، بل إنه كان في كثير من الأحيان يعيب على العنصر الألماني غموضه وصوفيته وافتقاره إلى الوضوح والدقة، ويمجد الثقافة الفرنسية، ويتأثر كثيرا بمفكريها، ويفضلهم عن مواطنيه من الألمان. ولقد كان مثله الأعلى هو أن يتجاوز حدود القومية الضيقة، وكان يفخر بذلك حتى أواخر أيام تفكيره الواعي، فيقول: «إن الأصل الذي أنحدر منه يمكنني من أن أمتد بنظرتي إلى ما وراء كل أفق محلي فحسب، ووطني فحسب. فليس من العسير علي أن أكون «أوروبيا طيبا».»
अज्ञात पृष्ठ