8
ومن هنا نراه يضع للتاريخ الأخلاقي للإنسانية تقسيما جديدا؛ ففي العصر اليوناني والروماني تسود أخلاق السادة، وتكون الغلبة للأقوياء، ثم تنتصر أخلاق العبيد على يد اليهودية والمسيحية، ويقهرون الأرستقراطية الرومانية، ويسود الضعفاء والمتخاذلون؛ فالتقابل الأخلاقي الرئيسي هو ذلك التقابل بين روما وجوديا.
9
وبينما كانت جوديا في نظر روما تعبيرا عن كل ما هو مضاد للطبيعة، فقد كانت روما في نظر جوديا موضوعا للحقد والحسد الذي يتملك الضعفاء إزاء الأقوياء.
10
وفي عصر النهضة الأوروبية تعود أخلاق السادة بالرجوع إلى المثل العليا اليونانية، ولكن تقهرها حركة الإصلاح الديني، وهي حركة شعبية أثارها الضعفاء والعوام. وتعود أخلاق السادة عند نبلاء القرنين السابع عشر والثامن عشر ليقهرهم العبيد مرة أخرى في عهد الثورة الفرنسية. وتظهر أخلاق السادة في الأفق على يد نابليون، ولكن سرعان ما تعود أخلاق العبيد بعده إلى الظهور. على أن كل هذه الفترات، التي تلت ظهور المسيحية، تتميز بأنها في أساسها فترات تسود أخلاق العبيد، وما ظهرت أخلاق السادة فيها إلا عرضا، لتختفي سريعا، تاركة وراءها التيار الأصلي الواهن يسير في ضعف وانحلال.
ولا أظننا في حاجة إلى أن ننقد تقسيم نيتشه هذا للأخلاق نقدا مسهبا. فهذا التقسيم إذا كان نتيجة استقراء تاريخي، فهو بلا شك تقسيم غير موفق؛ إذ إن تناوب السيادة بين الأقوياء والضعفاء لم يتم على الصورة التي رسمها نيتشه على الإطلاق؛ فالقوة تلك العصور التاريخية التي تناولها نيتشه، لم تكن قوة معنوية، بل قوة مادية؛ أعني أن الأقوياء في تلك العصور لم يكونوا هم أصحاب المشاعر الأخلاقية الرفيعة، الذين تفيض نفوسهم بالامتلاء المعنوي والفيض الحيوي، بل كانوا هم المسيطرين على زمام الأمور، عن طريق قوة السلاح أو قوة المال. ولنضرب لفكرتنا هذه مثلا واضحا؛ فنيتشه يعد من فترات أخلاق السادة، العصر اليوناني، وعصر نابليون؛ فمن هم الأقوياء المسيطرون في العصر اليوناني، إن لم يكونوا هم الفئة الأرستقراطية التي تسيطر بقوة السلاح والمال، والتي وصفها لنا أفلاطون في كثير من محاوراته وحلل مثلها ومبادئها، فإذا بها بعيدة كل البعد عن ذلك الترفع المعنوي الذي كان يعنيه نيتشه؟ ومن هو القوي المسيطر في عصر نابليون، إن لم يكن ذلك الفرد المستبد الذي يبني لنفسه مجدا شخصيا عن طريق الإرهاب والتعسف والتضحية بأرواح الأبرياء؟ الحق أن الاستخدام غير الدقيق لكلمة «القوة» يؤدي إلى الخلط بين القوة المعنوية والقوة المادية. وإذا كان نيتشه يقصد المعنى الأول في معظم الأحيان، فلا جدال في أن الأمثلة التي اختارها تعبر عن المعنى الثاني دائما، مما يدل على سيطرة هذا الخلط على تفكيره. وإذا كنا اليوم نعيب على كبار فلاسفة اليونان، مثل أفلاطون وأرسطو، أنهم قد تغاضوا عن مساوئ نظام الرق القائم في عصرهما، ذلك النظام الذي لم يحاول أحد منهما أن يحمل عليه، فماذا يكون موقفنا من نيتشه، الذي يمجد قوة الأقلية الأرستقراطية ويحمل على الأكثرية «الضعيفة»، التي ينبغي في رأيه أن تظل مستعبدة، مع أنه عاش في عصر تكشف فيه للجميع مصدر قوة الأقوياء وضعف الضعفاء، وعرف فيه الكل أن أرستقراطية العصور التي تحدث عنها لم تكن أرستقراطية معنوية أو أخلاقية، بل كانت القوة الغاشمة فيها هي العامل الوحيد لسيطرة الأقوياء وعبودية الضعفاء؟
الحق أن نيتشه لم يكن يتعمق بحث دلالة آرائه طالما بدت له هذه الآراء ملائمة لمزاجه الفكري الخاص. وتلك بلا شك من صفات المفكرين الرومانتكيين الذين تغلب عاطفتهم على عقلهم، ويتحكم هواهم في تكوين آرائهم أو في تشكيلها وإعطائها صبغة واتجاها خاصا. فهو يمجد القوة ويحمل على الضعف، وهذا أمر ليس لنا أن نعيبه عليه، ولكنه حين يهتدي إلى كلمة كهذه تلائم مزاجه الخاص، لا يجشم نفسه عناء البحث عن دلالاتها المختلفة، ومظاهرها المتباينة، بل يسعى وراءها أينما كانت، مع أنها في كثير من الأحيان تؤدي إلى نتيجة مضادة تماما لهدفه. وربما كانت النزعة إلى التعميم السريع والحكم العاطفي من أكبر عيوب تفكير نيتشه التي تتكشف لنا من خلال هذا المثل الذي عرضناه.
نقد الروح الأخلاقية
من خلال العرض السابق تبدت لنا اللاأخلاقية عند نيتشه على أنها تعبير عن ثورة على الأوضاع الأخلاقية القائمة، ومحاولة لقلب القيم الأخلاقية التي يخضع لها الناس في عصرنا؛ أي إن اللاأخلاقية هي من وحي الأخلاق، ما دام هدفها هو الكشف عن قصور المبادئ الأساسية للسلوك الإنساني في شكلها الحالي، ومحاولة إصلاح أخطاء هذه المبادئ أو استبدال غيرها بها، من أجل إنسانية أفضل.
अज्ञात पृष्ठ