K. Jaspers .
وعلى ذلك، فانتساب نيتشه إلى الوجودية أمر لا يمكن التسليم به من جميع الوجوه. وإذا كان المرء يجد لديه أفكارا تذكره بأفكار وجودية معينة، فإن التقارب بينهما لا يمكن أن يتم إلا من خلال تفسير خاص لآرائه، وقد يكون هذا التفسير متعسفا في كثير من الأحيان. •••
وهكذا تبين لنا أن تفكير نيتشه وإن كان يقترب من بعض المذاهب الفلسفية المعروفة، فإنه أيضا لا يخضع لواحد من هذه المذاهب خضوعا تاما، ولن تستطيع أن تجد بينهما اسما شاملا ينتظم كل نواحي تفكيره، بحيث تندرج تحته فلسفة نيتشه مع غيرها من الفلسفات.
ومع ذلك، فصعوبة الاهتداء إلى مذهب معين ينتسب إليه تفكير نيتشه، لا يعني كما قلنا من قبل أن هذا التفكير يفتقر إلى كل وحدة وتماسك؛ إذ إن وحدة الشخصية لا بد أن تبعث في أعمالها - أيا كان تشعبها - نوعا من الوحدة.
وإن نفس الروح التي سيطرت على بعض الباحثين، فأوهمتهم أنهم يمجدون نيتشه حين يصورون تفكيره بصورة التلقائية الوحشية التي لا تخضع للمنطق ولا تحرص على الاتساق، نفس هذه الروح هي ذاتها التي تحاول؛ إذ ما تبين لها استحالة اتصاف الشخصية الواحدة يمثل هذا التضارب الجنوني، أن تقسم تفكير نيتشه الفلسفي إلى فترات متميزة، لكل منها خصائصه التي تنفرد عن خصائص الفترات الأخرى، وكأنها بذلك تلجأ إلى آخر سهم في جعبتها؛ بحيث تقسم تفكيره إلى مراحل رئيسية منفصلة، بعد أن عجزت عن أن تؤكد الانفصال بين كل لحظات هذا التفكير. فلنختبر إذن هذا الزعم الأخير، ومن خلال نقدنا له سيتضح لنا العنصر المشترك في تفكير نيتشه ، فإن لم يكن من الممكن إخضاع هذا العنصر لواحد من المذاهب السابقة، فسوف يظل في وسعنا مع ذلك أن نضمن لفلسفة نيتشه وحدتها، بل أن نضمن لشخصيته تماسكها واتساقها.
العنصر المشترك بين مراحل تفكيره
الشائع أن يقسم تفكير نيتشه إلى مراحل ثلاث: (1)
مرحلة فنية رومانتيكية، تمتد من 1869 إلى 1876، وهي المرحلة التي كان نيتشه فيها واقعا تحت تأثير شوبنهور وفاجنر، وتنتهي بتخلصه منهما. (2)
مرحلة وضعية نقدية، وتمتد من 1876 إلى 1882، وفيها تميز تفكير نيتشه بالتأثر بالمنهج العلمي، بعد أن تخلص من المؤثرات الرومانتيكية السابقة، وتلك هي المرحلة التي حرص فيها نيتشه على أن يوجه أعنف نقد إلى مقومات الحياة الإنسانية في العصر الحديث. (3)
مرحلة صوفية خالصة، تبدأ من كتاب زرادشت في 1883، وتستمر حتى 1888، وفيها يتميز تفكير نيتشه بالاستقلال التام، ويسير في طريقه الخاص، ويتخذ أسلوبه شكل التدفق الصوفي، لا التحليل النقدي.
अज्ञात पृष्ठ