नीत्शे: एक बहुत ही संक्षिप्त परिचय
نيتشه: مقدمة قصيرة جدا
शैलियों
انقسم القراء منذ ذلك الحين إلى فريقين: فريق يجد إمتاعا في أسلوب الكتاب العاطفي والمحتوى الذي يستلزمه، وفريق يستجيب له بازدراء يعتريه الملل، وكلاهما يمكن تفهمه بسهولة. إنها زوبعة كتاب يخضع لتأثير أفكاره الحماسية الغريبة ورغبته في تناول أكبر عدد ممكن من الموضوعات في مساحة محدودة، ولكنه متنكر في صورة وصف تاريخي للسبب وراء استمرار المأساة الإغريقية لفترة وجيزة للغاية، ويوضح أنها بعثت مؤخرا في الأعمال الناضجة لريتشارد فاجنر. كان نيتشه من المعجبين المتعصبين لبعض أعمال فاجنر الدرامية منذ أن سمع موسيقى «تريستان وإيزولد»، التي عزفها هو وبعض الأصدقاء على البيانو وغناها تقريبا عندما كان في السادسة عشرة من عمره («هذا هو الإنسان»، الفصل الحادي عشر، ص6؛ ولكن انظر أيضا «الحب»، 1963). وقد قابل الموسيقار وخليلته آنذاك كوزيما، ابنة ليست، عام 1868، ليصبح صديقهما المقرب في عام 1869، ويزورهما مرارا خلال السنوات التي عاشاها في مدينة تريبشن المطلة على بحيرة لوسيرن. وما من شك في أن الموضوع برمته المطروح في كتاب «مولد المأساة» قد نوقش مرارا خلال تلك الزيارات، وأن فاجنر قد ساهم مساهمة جوهرية في تطوير بعض فرضياته المحورية (سيلك وستيرن، 1981: الفصل الثالث). ولكن الذهول اعتراه هو وكوزيما عندما استلما نسختهما من الكتاب. وأيا كان كم التأثير الذي أحدثه فاجنر، الذي كان يعشق التأمل شبه التاريخي، فقد وجد ما يكفي من الأفكار الجديدة في الكتاب التي جعلته يعتبر الكتاب وحيا له.
وعموما، فكثيرا ما تحسر قراء الكتاب المتعاطفون معه على تخصيص الأجزاء العشرة الأخيرة منه للترويج لفكرة أن فن فاجنر بمنزلة بعث للتراجيديا الإغريقية. ولم يبد هذا الادعاء بالنسبة إليهم سخيفا في حد ذاته فحسب، لكنهم شعروا أيضا أنه ينتقص من وحدة الثلثين الأولين من «مولد المأساة» ويصرف الانتباه عنهما. وكل هذا تقريبا يضيع الهدف من وراء المجهود المبذول في الكتاب، وما قضى نيتشه حياته محاولا عمله؛ لأن ما يستوجب أن يكون «مولد المأساة» هو بداية الفترة التي زاول فيها نيتشه الكتابة، بالنسبة إلى من يريدون أن يفهموا الوحدة الأساسية لاهتماماته، هو الطريقة التي يبدأ بها بمجموعة من الموضوعات التي تبدو بعيدة عن الزمن الحاضر، ولكنه يكشف تدريجيا عن أن اهتمامه الأساسي هو الثقافة، وظروفها المتواترة، والأعداء الذين يقفون في طريق نشرها.
يبدأ كتاب «مولد المأساة» بإيقاع سريع، ولا يتوقف زخم الحركة فيه أبدا. من المفيد قراءته لأول مرة بأقصى سرعة يستطيعها المرء، متجاهلا الأمور الغامضة والانحرافات الواضحة عن القضية المحورية (وهو مصطلح أستخدمه بمعنى شامل للغاية). تعتمد هذه القراءة الأولية بالتأكيد على قدر كبير من الثقة، ولكن إخضاعها للتدقيق النقدي منذ المرة الأولى سيثير الغضب والملل. من المهم استيعاب حس التدفق الذي يتسم به الكتاب، والذي يعتبر أيضا موضوعه الأساسي بدرجة ما. بعد كتابه «مقدمة إلى ريتشارد فاجنر» الذي تناول فيه كلا من «المشكلة الألمانية الخطيرة التي نتعامل معها» والإيمان الراسخ بأن «الفن هو المهمة الأسمى والنشاط الميتافيزيقي الحقيقي في هذه الحياة»، استهل نيتشه كتابه ببداية تليق بادعائه «إننا كنا سنفيد كثيرا علم الجمال إذا كنا قد نجحنا في أن ندرك فورا، وليس فقط من خلال التفكير المنطقي، أن الفن يستمد تطوره المستمر من ثنائية «الأبولوني والديونيسيوسي».» وهكذا، أوضح نيتشه عبر سطور قلائل أنه سيتحرك على ثلاث جبهات؛ الأولى: هي الأزمة المعاصرة في الثقافة الألمانية، والثانية: ادعاء جريء عن طبيعة الميتافيزيقا، والثالثة: اهتمام ب «علم الجمال». (بالنسبة إلى كلمة علم
Science ، يستخدم نيتشه كلمة
Wissenschaft ، التي تعني بالألمانية بحثا منهجيا، ولا يقصد بها المعنى المستخدم في اللغة الإنجليزية لكلمة
Science - لا بد من تذكر هذا على مدار أعماله، أو في واقع الأمر خلال أية مناقشة باللغة الألمانية.)
وسرعان ما ينتقل لتناول «التناقض» بين الأبولوني والديونيسيوسي، ولكن يجب ألا نفهم من هذا أنهما عدوان! فحسبما يتبين من شرحه، سرعان ما يتضح أن «هاتين النزعتين المختلفتين تماما تسيران جنبا إلى جنب، في تناقض صارخ عادة كل منهما مع الأخرى، وتحث إحداهما الأخرى على إنتاجات أكثر قوة»، إلى أن يبدو «أخيرا أنهما تنتجان عملا فنيا ديونيسيوسيا بقدر ما هو أبولونيا، وهذه مأساة إغريقية.» وهذا النوع من التناقض الذي يصير - رغم ذلك - مثمرا على نحو هائل مقارنة بأي شيء يمكن إنتاجه من خلال أي من الخصمين منفردا، هو سمة الفلسفة الألمانية في القرن التاسع عشر، بممثلها الرئيسي هيجل، الفيلسوف الذي كان نيتشه يعاديه عموما بشدة طوال حياته، وبلا شك يرجع ذلك جزئيا إلى ارتباط نيتشه بشوبنهاور الذي كانت كراهيته لهيجل معروفة. ولكن بالتعمق في المعارضة والتغلب عليها لا يحتاج نيتشه إلى أي من الأدوات الجدلية التي أعاق هيجل نفسه بها؛ لأنه يستطيع إعداد خطته بواسطة الصور المجازية والأمثلة، وهذا ما يفعله، على الرغم من أن الأمثلة كثيرا ما تستخدم على نحو متحيز.
تتمثل الفكرة في أن الفن الأبولوني هو فن المظهر، بل في الواقع «هو» المظهر. يستحضر نيتشه الأحلام ليثبت وجهة نظره بأن الفن الأبولوني في أبلغ صوره يتسم بوضوح استثنائي، مبينا على نحو جلي ما يرصده، ويضرب مثلا ب «مبدأ التفرد» الذي وصفه شوبنهاور بأنه الخطأ الرئيسي الذي نعاني منه معرفيا؛ فنحن ندرك العالم ونفهمه في صورة كيانات منفصلة، تضم أشخاصا منفصلين. وبصفتنا كائنات تملك أعضاء حسية وجهازا إدراكيا، فلا يمكننا تجاهل هذه الطريقة المعيبة على نحو هائل عند النظر إلى العالم؛ وهي الطريقة التي يرى شوبنهاور أنها مسئولة عن العديد من خيالاتنا وتجاربنا الأكثر إيلاما، على الرغم من أنه ليس من الواضح إن كان التغلب عليها سيجعل حياتنا أقل ترويعا أم لا.
استغل نيتشه في «مولد المأساة» الالتباسات التي يتسم بها فكر شوبنهاور - على الرغم من أنه ليس ثمة موضع يبين أنه كان أكثر إدراكا لها من شوبنهاور نفسه - لينتج «ميتافيزيقا الفنانين» الخاصة به، والمستقلة إلى حد ما، حسبما يشير بازدراء إلى منهجه في «محاولة في نقد الذات»، تلك المقدمة الرائعة التي كتبها للطبعة الثالثة من الكتاب عام 1886، وهو عام مراجعة الذات. كان يقصد بعبارة «ميتافيزيقا الفنانين» أنها من ناحية ميتافيزيقا مصممة خصيصى لتمنح الفن أهمية اعتبرها لاحقا منافية للمنطق؛ وأنها من ناحية أخرى استخدام للأساليب الفنية أو شبه الفنية لإنتاج آراء ميتافيزيقية، واختبارها من حيث قيمتها الجمالية وليس من حيث صحتها. يمكن النظر إلى «مولد المأساة» بوصفه كتابا جدليا متساميا، حسب منطق كانط. وينتج عن هذا عموما النمط التالي: (س) هي القضية، أو المعطيات، فما الذي ينقص القضية لتصبح هذه ال (س) ممكنة؟ تختلف معطيات نيتشه كثيرا عن المعطيات التي نجدها لدى أي فيلسوف آخر؛ إذ إنها تعطي الأولوية لتجربتنا الجمالية، التي عادة ما تأتي في ذيل قائمة الأولويات الفلسفية، هذا إذا تضمنتها من الأساس. وهو يستعين بالتجارب التي نعرفها عن الفن الأبولوني (النحت والرسم، وعلى رأسهما الملحمة) والفن الديونيسيوسي (الموسيقى والتراجيديا) كمعطيات له، ويسأل عن الكيفية التي يجب أن يكون عليها شكل العالم لكي نحظى بهذه التجارب. لقد رأينا أنه يقارن الفن الأبولوني بالأحلام؛ أما الفن الديونيسيوسي فإنه يضاهى - كدلالة أولية على طبيعته - بالنشوة؛ الطريقة المتدنية التي يعتقد أنه من خلالها يمكن التغلب على مبدأ التفرد، وفقدان الوضوح، واندماج الكيانات الفردية.
لماذا نحتاج إلى كليهما بعد أن نفهم أن أحدهما يجسد المظهر البراق، في حين يمكننا الثاني من مواجهة الواقع قدر ما نستطيع دون أن يدمرنا؟ لأن تركيبتنا تجعلنا ندخر حتما جرعات من الواقع للمناسبات الخاصة، كالاحتفالات مثلما أدرك اليونانيون (كان يجري التخطيط لمهرجان بايرويت الأول في الوقت الذي كان نيتشه يكتب فيه، على الرغم من أنه لم ينطلق حتى عام 1876). لكن الأمر أكثر تعقيدا من هذا؛ فلا مشكلة في المظاهر، ما دمنا ندرك أن هذه هي حقيقتها (سيظل هذا دائما موضوعا رئيسيا في أعمال نيتشه). كما رأينا، تعتبر الملحمة اليونانية صورة من الفن الأبولوني، وبالطبع تتمثل أبهى مظاهرها في «الإلياذة»، وهي عمل فني يمتعنا بوضوح أسلوبه وسلاسته. كان اليونانيون الذين عاشوها سعداء بأنهم صنعوا بأنفسهم قصصا عن عالم الآلهة التي تمتع أنفسها على حسابهم؛ وهي «الصورة الوحيدة المقنعة لإيمانهم بالعدالة الإلهية»، حسبما يقدم نيتشه تعليقه الخالد («مولد المأساة»، 3). وعند هذا المستوى تعمل المعادلة التي ظهرت مرتين في الطبعة الأولى، وتكررت على نحو مستساغ في «محاولة في نقد الذات»: «لا يمكن تبرير العالم إلا بكونه ظاهرة جمالية فقط» (وتتنوع الصيغ بعض الشيء). وبما أن الوجود في أبسط صوره بالنسبة إلى الإغريق المنتمين لعصر هوميروس لن يكون محتملا، فقد أظهروا غريزة فنية بطولية بتحويل حياة المعارك التي يعيشونها إلى عرض مسرحي. لهذا السبب كانوا يحتاجون إلى الآلهة؛ لا ليواسوا أنفسهم بفكرة وجود حياة أفضل فيما بعد، والتي كانت الحافز المعتاد لافتراض وجود عالم آخر، وإنما ليميزوا بين أي حياة يمكن أن يعيشوها والحيوات الخالدة للآلهة، الذين يحق لهم لمجرد كونهم خالدين أن يتسموا بالطيش والاستهتار مثلما يصورهم هوميروس على نحو صادم لنا. «إن كل من يقترب من هذه الآلهة الأولمبية وهو يحمل إيمانا غير إيمانها، ومتطلعا إلى الأخلاق السامية، بل حتى القداسة، والعلاقة الروحية الشفافة، والإحسان والرحمة، سرعان ما يجبر على هجرانها، مثبط الهمة وخائب الأمل» («مولد المأساة»، 3).
अज्ञात पृष्ठ