91

निदा हकीकत

نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر

शैलियों

177

ولا بد أن يأتي اليوم الذي نسأل فيه: أليست الإنارة أو الانفتاح الحر هو المقر الذي يجمع المكان الخالص والزمان بانبثاقاته الثلاثة وكل ما يوجد ويكون فيهما أو كل ما يفتقد الوجود والكينونة، لا بد أن يأتي هذا اليوم ونرد على سؤالنا بالإيجاب.

قلنا إن الميتافيزيقا قد نسيت الوجود وعاشت تاريخها غارقة في هذا النسيان، ونستطيع الآن أن نقول إنها نسيت الإنارة ولم تعرف عنها شيئا، صحيح أن التفلسف مرتبط بها على الدوام، وقد ظل الفكر اليوناني في انشغاله بأمر الوجود أو الحضور على اتصال بها، فأفلاطون يدرك الموجود من ناحية مظهره أو منظره (الأيدوس) ولم يفته أن يشير إلى النور، وبارمنيدز يذكر الأليثيا (اللا-تحجب) صراحة في قصيدته الفلسفية ويشبهها بكرة تامة الاستدارة تتساوى فيها البداية والنهاية، لم يستغن الفكر اليوناني إذن عن الإنارة، ولم تنقطع صلته بها، ولكنه لم يفكر فيها ولا فكر في الانفتاح الذي يظهر فيه كل موجود أو كل مفتقد للوجود، كذلك قصرت الفلسفة الحديثة في التفكير فيه، وقد آن الأوان لتجربة هذه الإنارة أو هذا الانفتاح، فهو الطريق الذي نتبعه في سؤالنا عن الموجود، سواء من ناحية وجوده أو حضوره، أو من ناحية بلوغه هذا الوجود والحضور، ولا بد من أن نفكر في الأليثيا، أو اللاتحجب، بوصفها هذه الإنارة التي تكفل الوجود والفكر وتؤمنهما وتضمن التفاعل بينهما، لقد طرح اليونان السؤال عن العلاقة بين الفكر والوجود، وظل هذا السؤال مطروحا على الميتافيزيقا عبر تاريخها الطويل، وها هو ذا هيدجر يفكر في هذه العلاقة من ناحية الأليثيا، وقد رأينا كيف كان الباعث المحرك على تفكيره هو السؤال عن الوجود والحقيقة، ونحن الآن نرى أن: «الأليثيا» هي مجال الوجود والحقيقة جميعا وعنصرهما الذي يعيشان ويتفاعلان في تياره، لقد لاح فجر الأليثيا وتردد صداها لأول مرة عند بارمنيدز، ثم نسيتها الميتافيزيقا حين تصورت أن وجود الموجود هو العلة الأولى أو السبب الأول، فراحت تبحث عن أسمى الموجودات على اختلاف صوره وأشكاله، وظلت بذلك أونطية (موجودية)-لاهوتية،

178

وها نحن أولاء نشهد التحول على يد هيدجر، ونرى كيف تحول هو أيضا في هذه المرحلة الأخيرة من تفكيره عن السؤال عن ازدواجية الوجود والحقيقة إلى السؤال عن الأليثيا التي تحملهما معا وتكفل لهما «الوقوف» في نورها، وهكذا تصبح الحقيقة بمعناها التقليدي الذي عرفناه - أي انطباق المعرفة على الشيء - ممكنة عن طريق الإنارة وحدها، كما تتحرك البداهة واليقين بكل أنواعه ومستوياته ويتم «التحقق» من الحقيقة نفسها في ضوء هذه الإنارة.

الإنارة إذن هي الأصل الذي نسيناه وأغفلناه حين انشغلنا بما يصدر عنه ، ولا يجوز لنا الآن أن نخلط بين الأليثيا والحقيقة أو نسوي بينهما؛ لأن الأولى هي التي تضمن وجود الثانية وتكفله لها، وكلما فكرنا في الحقيقة بمعنى التطابق أو اليقين وجب علينا أن نفكر في الإنارة التي تسبقهما وتكمن وراءهما، ولعل خير شهادة يقدمها هيدجر على أمانته ومراجعته الدائمة لخطواته على الطريق أنه عمد في هذه المرحلة من تفكيره إلى تصحيح بعض آرائه السابقة؛ فهو يعدل الآن عن ترجمة الأليثيا بالحقيقة، كما فعل في الوجود والزمان، كما ينتقد تعبير «حقيقة الوجود» الذي قدمه في محاضرته عن ماهية الحقيقة ورسالته عن النزعة الإنسانية، بل إنه ليراجع رأيه الذي ذهب إليه في دراسته عن «نظرية أفلاطون عن الحقيقة» وقال فيه إن تحول معنى «الأليثيا» من اللاتحجب إلى الصحة أو الصواب قد تم على يد أفلاطون، فهو يرى الآن أن «الأليثيا» قد فسرت مباشرة على معنى الصواب وبذلك غابت عن نظر أفلاطون، وكان أفلاطون ومن سبقه من مفكري اليونان قد فكروا - كما قدمنا - فيما تكفله الأليثيا أو الإنارة من ظهور الموجودات أو تحجبها، ولكنهم لم يفكروا في حقيقة الإنارة ذاتها، وكذلك يفعل الناس اليوم، يشغلون بالموجودات الحاضرة أمامهم ولا يعنون أنفسهم بالسؤال عن الوجود والحضور ولا عن الإنارة التي هي الأصل فيهما.

ما السبب في هذا؟ أهو أمر مقصود؟ أتكون غفلة من جانب البشر أم قدرا تاريخيا يتحكم فيهم؟ أيكون التحجب جزءا لا ينفصل عن اللاتحجب ؛ بحيث تنتمي الليثية (النسيان) «للأليثيا»؟ أيكون هذا في صميم ماهية الإنارة نفسها التي تكشف عن الوجود وتحجبه وتصونه وتحرره في آن واحد؟ أنحن قادرون حقا على الإجابة على هذه الأسئلة أم يقتصر جهدنا على البقاء في السؤال والإصرار على متابعة طريقه ومعاناة تجربته؟ هل أصبحنا على استعداد لتحمل مشقة السؤال أم لا زالت أنوار المدنية التقنية تخلب أبصارنا؟ هل نشعر أننا السائل والمسئول أم ننفض أيدينا من المسألة كلها زاعمين أنها محض خيال وتلاعب بالألفاظ؟

ربما كان تفكير هيدجر كله مجرد دعوة وتوجيه إلى السؤال، وربما كان هذا الكتاب كله مجرد إعداد له؛ ولهذا سيظل مجرد تمهيد ومحاولة، حسبها أنها تثير فكرك وتقنعك بألا تتشبث بصخرة المألوف، وأن تلقي بنفسك في تيار الدهشة، فإن نجحت في تحقيق هذه الغاية، كان هذا خير جزاء يقدمه القارئ للكاتب فيعزيه عن تعبه ومعاناته، ويغفر له قصوره أو تقصيره.

عبد الغفار مكاوي (5) لوحة بحياة هيدجر وأعماله

1889م

अज्ञात पृष्ठ