निदा हकीकत
نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر
शैलियों
ليس ما يقدمه المؤلف هنا عن الحقيقة على ضوء اللاحقيقة مجرد تكملة لما قدمه على ضوء الحرية، فنحن نصادف الآن فكرة جديدة لم ترد من قبل، تلك هي فكرة «التأثر» التي يضفي عليها الآن معنى جديدا غير معناها الذي عرفناه في كتاب الوجود والزمان حين جاءت في سياق تحليله لحالات التواجد والتأثر وكون الموجود الإنساني ملقى به في العالم (والكلمة الأصلية - كما ذكرنا - توحي بضبط الأوتار والتوفيق بينها لإخراج الصوت أو اللحن المرجو)، ولكن التأثر هنا لا شأن له بأحوال الحياة النفسية، وإنما يتصل بما سبق الحديث عنه في الفصل السابق عن التعرض للتخارج، إنه في النهاية أسلوب محدد من أساليب الوجود يؤثر علينا ويوجهنا ويتحكم فينا، كما يدخلنا في علاقة مع الموجود في مجموعه وكليته ويحول بيننا وبين الضياع في هذا الموجود الجزئي الخاص أو ذاك، ولكن ما هو هذا الموجود في مجموعه وكليته؟
ليس هذا الموجود الشامل مجرد «حاصل جمع» لكل ما يوجد، ولا يجوز أن نخلط بينه وبين «كل» الموجودات المعروفة في الواقع وفي لحظة معينة من لحظات التجربة اليومية أو العملية، إن الوجود الكلي الشامل هو الذي ينكشف لنا من خلال التأثر، وهو الذي يؤثر علينا ويحددنا إن بقى هو نفسه بغير تحديد
145
فنحن في مسلك الانفتاح على الموجود أو التعرض المتخارج «نتأثر» بالموجود في كليته ونستقر فيه، ولكن هذا التعرض والتأثر لا ينفصل كما رأينا عن «ترك-الموجود-يوجد»، أي لا ينفصل عن صميم الحرية، غير أن هذا الترك أو هذا المسلك الحر يؤدي بالإنسان إلى كشف الموجود الخاص المتعلق به كما يعمل في نفس الوقت على حجب الوجود بكليته، هكذا يلقي الموجود الخاص بالموجود الكلي العام في ضباب الاحتجاب، وكلما قويت علاقتنا بهذا الموجود الخاص، وازداد اهتمامنا به وانصرافنا إليه، تحجب الموجود الكلي واستحكم خفاؤه.
وليت الأمر يقف عند هذا؛ فنحن نميل مع الزمن إلى أن نخفي عن أنفسنا هذا الحجب نفسه، وتلك هي محنة الإنسان في هذا العصر الذي اتسع فيه علمه بالموجود الجزئي الخاص، وأصبح - أو كاد - يعيش في حالة نسيان للموجود في كليته، بل في حالة نسيان للنسيان!
وهذا هو الذي حدث أيضا في «الميتافيزيقا» الغربية على مدى تاريخها الطويل، صحيح أنها كانت تسأل عن الموجود بما هو موجود، وكانت في مراحل تطورها المختلفة تخلع عليه معاني مختلفة، ولكنها لم تحاول أبدا أن تفكر في التحجب أو تجعل «السر» موضوعا لها، ولهذا ظلت هائمة في ضلال الموجودات وبعيدة عن حقيقة الموجود ومعناه. •••
ويأتي الفصل السادس فيتناول تحجب الموجود الكلي وخفاءه، إن القضية الآن هي قضية اللاحقيقة الأصلية التي لا تنفصم عن الحقيقة، وقد نبه هيدجر في نهاية الفصل الرابع إلى هذه العلاقة الأساسية بين الحقيقة واللاحقيقة، وبين لنا أن من المستحيل السؤال عن إحداهما دون السؤال عن الأخرى.
لا شك أن الحس السليم أو الظن الشائع سيتعثر في فهم هذه الصفحات وسيتشبث بطريقته المباشرة في النظر إلى الأمور، فيبقى على السطح ويسقط في الحفر الطافحة بسوء الفهم! لأن ماهية الأشياء لا تزدهر أبدا على السطح، ولأن السر يكمن دائما في الأعماق، وعبثا تحاول النظرة السريعة - وهي أسيرة اللحظة المباشرة والواقع المباشر! - أن تبلغ إليه عن طريق الفكر اليومي المعتاد وما فطر عليه من تعجل وحساب، ونفور من كل ما نشتم منه رائحة الإشكال.
146
ومع هذا كله فإن التخلي عن التفكير الشائع لا يكفي وحده للولوج من باب التفكير الماهوي، وإنما هو مدخل ضروري وحسب، ويرجع هذا إلى أن الأفكار الحقة نادرة، فهي ليست من صنع الفكر وتأليفه، كما أنها لا ترقد في الأشياء رقدة الحجر على سطح الأرض أو الحصاة في عمق الماء، إن الإنسان يكون العديد من الأفكار، غير أن هذه الأفكار ليست هي الأفكار الأصيلة، فالأفكار الأصيلة تقدم للإنسان، توهب له، حين يضع نفسه في ذلك الانتباه الحقيقي الذي هو بمثابة نوع من التهيؤ لما هو خليق بالفكر.
अज्ञात पृष्ठ