निदा हकीकत
نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر
शैलियों
ويسأله الصحفي: إزاء الدولة التقنية المطلقة التي أكدت نفسها بالفعل أو هي بسبيلها إلى تأكيد نفسها (هل كان يتنبأ بالدور الأحادي الذي تقوم به أمريكا في الوقت الحاضر؟!) ماذا يبقى للفرد أن يفعل وهو يواجه هذا القهر؟ وهل في وسع الفلسفة أن تؤيده في اختياره وفعله، هل في وسعها أن تؤثر - كما فعلت على الدوام - بطريقتها غير المباشرة؟
ويرد الفيلسوف بأن الفلسفة لن تستطيع أن تغير أوضاع العالم الراهنة تغييرا مباشرا، ولا يسري هذا على الفلسفة وحدها، وإنما يصدق على كل تفكير ومسعى بشري، هنا لن يعيننا إلا الله، وكل ما علينا هو الاستعداد وتهيئة أنفسنا لكي ينقذنا من الهاوية التي نوشك على التردي فيها، والأمر يتوقف في النهاية على الوعي بأن الوجود يحتاج للإنسان لكي يتجلى له فيرعاه ويصونه ويشكله ويشكل حياته استجابة له، ذلك هو ما يمكن أن يساعد به الفكر «الآخر» بطريقته غير المباشرة في التأثير والتغيير، أما الفلسفة التقليدية فقد بلغت في رأيه نهايتها وأصبحت عاجزة عن أي تأثير؛ لأن العلوم المختلفة - وبالأخص السيبرنيطيقا - قد تولت عنها القيام بهذا الدور.
لم يبق إذا إلا الرجعة ل «فكر الوجود» - هذا المراوغ المتعدد المعاني الذي يجب ألا نفهمه على معنى الموجود أيا كانت طبيعة هذا الموجود - مثل هذا الفكر لا يملك إلا أن يسأل وينفتح ويتحاور ويطرح الأسئلة التي لم تطرح من قبل ولا تلائمها الإجابات السابقة، وإذا استطاع هذا الفكر أن يغير شيئا فهو التغيير غير المباشر الذي يتطلب السير المتأني على دروب الصبر والخشوع والانتظار والإعداد والاستعداد ... وإذا استطاع أخيرا أن يوقظ هذه «القيم»، بعيدا عن رتابة المواعظ وحذلقة المتفيهقين وفظاظة الغوغائيين، فهذا وحده يكفيه، ويتواصل الحديث عن التقنية الكوكبية، وعن عجز النازية، فضلا عن عجز النفعية أو البرجماتية الأمريكية، عن سبر ماهيتها، وعن احتمال أن يصل الروس أو الصينيون ذات يوم - بفضل ما لديهم من فكر تراثي عريق - إلى إتاحة تكوين العلاقة الحرة والأصيلة بين الإنسان وبين عالم التقنية.
ثم يتجه الفيلسوف على عجل إلى الكلام عن هلدرلين الذي يعتقد أنه هو الشاعر الذي يدل على المستقبل، ويحيا وينظم شعره على أمل الإنقاذ الذي سيأتي - في رأيه - من السماويين والأرضيين، والذي يهيب به غيره من الشعراء الأصلاء الذين «يؤسسون ما يبقى».
ويستطرد الحديث بعد ذلك عن هلدرلين ونيتشه فيذكر له المحاور الصحفي عبارة وردت في إحدى محاضراته عن نيتشه التي ألقاها بين سنتي 1935م، 1937م عن أن الصراع المعروف بين الديونيسي (أي التوهج الانفعالي والنشوة المقدسة) والأبوللوني (أي التوجه العاقل المنظم المستنير) كما عاشه كلا المفكرين الشاعرين قد وضع أمام الألمان علامة استفهام كبرى على الطريق لمعرفة حقيقتهم القدرية والاهتداء لماهيتهم و«قدرهم» التاريخي - فما هو رأي الفيلسوف في ذلك؟
ويجيب هيدجر بأنه على اقتناع تام بأن المكان الذي نشأ فيه العالم التقني الحديث هو نفسه المكان الذي يمكن أن تنبثق منه الرجعة (أو الهداية والإنقاذ) بحيث لا يمكن أن تأتي من بوذية الزن ولا من أي تجربة شرقية أخرى بالوجود، وتحقيق هذه الرجعة أو هذا التحول في التفكير يحتاج لاستيعاب التراث الأوروبي من جديد ومراجعته، فالفكر لا يتحول إلا بالفكر الذي يعرف أصله ومصيره، أي أن العالم التقني لا يحتاج لأن يستبعد أو ينفى؛ لأن ذلك محال، وإنما هو بحاجة لأن يرفع - بالمعنى الهيجلي للكلمة - إلى مستوى آخر أعلى وأكثر خصوبة، وإن لم يكن من الممكن أن يتم هذا الرفع بواسطة الإنسان وحده. - ولكن هل تسند للألمان دورا في هذا التحول؟ - أجل، بالمعنى الذي يبينه حديثي عن هلدرلين. - وهل يملك الألمان مقومات هذا التحول أو هذه الرجعة؟ - نعم، بفضل القرابة الوثيقة بين اللغة الألمانية واللغة والفكر اليوناني. ولعل الفرنسيين هم أقدر الأوروبيين على إتمام هذا التحول، هذا إذا تنحوا عن تراثهم العقلاني العظيم وبدءوا يفكرون تفكيرا ألمانيا.
14
وينتقل الصحفي إلى الأزمة الديموقراطية والبرلمانية التي كانت تمر بها ألمانيا في ذلك الوقت (من أواخر عام 1966م) ويسأل: هل ينتظر من الفيلسوف أن يشارك بالرأي أو أن يشير على الأقل بطريقة غير مباشرة إلى سبيل الخروج من الأزمة: هل هو نظام بديل أم إصلاح للنظام القائم؟ وعلى أي نحو يمكن أن يتم الإصلاح؟ ألا يصح أن ينتظر الرجل العادي من الفيلسوف أن يمده بأفكار تعينه على الحياة وسط العالم التقني الذي قهره وضيق عليه الخناق؟ ألا يكون الفيلسوف قد تخلى عن جزء ولو قليلا من مهمته وواجبات مهنته إن لم يتواصل مع الرجل العادي؟
ويقول الفيلسوف بعد صمت مفعم: بقدر ما أرى، ليس في إمكان مفكر واحد أن يتبصر بأحوال العالم في مجموعه بحيث يقدم تعليمات عملية، وبالأخص فيما يتعلق بإيجاد أساس للفكر نفسه - إننا نطالب الفكر الذي يأخذ نفسه مأخذا جادا بالنسبة للتراث الضخم الذي يحمله، نطالب هذا الفكر بما يفوق قدرته لو طالبناه بأن يقدم هنا نصائح أو تعاليم عملية.
لا يوجد خطاب سلطوي في مجال الفكر، والمعيار الوحيد للفكر مستمد من الموضوع الذي يفكر فيه، وهذا الموضوع نفسه هو أكثر الأمور مدعاة للشك والسؤال، ولتوضيح هذا ينبغي إلقاء الضوء على العلاقة بين الفلسفة والعلوم التي أدى نجاحها العلمي والتقني إلى جعل الفكر الفلسفي أمرا سطحيا لا ضرورة له، هذا هو الوضع الحرج الذي يجد فيه الفكر نفسه وينظر فيه إلى مهمته، يقابله نوع من الاستغراب أو الإشفاق - الذي تغذيه القوة المتنامية للعلوم - من عجز الفكر عن الإشارة برأي في القضايا العملية والسياسية.
अज्ञात पृष्ठ