ولبرهة خاطفة ظن درش أنه يحلم، ولكنه كان فعلا يحيط امرأة بذراعيه، وكان يغمض عينيه، وخاف لو تحركت المرأة أن تطير نوسة من خياله، فأمرها ألا تتحرك، بل غمغم بكلمات لا تكاد تسمع، وحبذا لو أطفأت النور.
ولم ير شيئا، فقد كان لا يزال مغمضا عينيه، فقط سمع تكة زر النور المعلق بجوار الفرش وهو يطفأ، وحتى بعد أن اطمأن إلى أن الظلمة قد سادت الحجرة لم يفتح عينيه. كان لا يريد أن يرى شيئا، فهو لا يرى إلا فراشه ونوسته، ولا يسمع إلا همساتها الرقيقة له، وأصوات بائعي الفول «الحراتي» حين ينادون عليه من بعيد في شارع ابن خلدون. •••
وتنفس الصعداء وهو يربط حذاءه ... كان قد ارتدى كل ملابسه ولم يبق إلا أن يمر بالمشط على شعره ويغادر الحجرة والبيت، وكل ما كان يفكر فيه في تلك اللحظة هو مشكلة وصوله إلى فندقه؛ فالساعة كانت قد جاوزت الخامسة، وكيف يستطيع في مثل تلك الساعة، ومن تلك الضاحية البعيدة أن يصل إلى قلب فيينا حيث فندق فيكتوريا، الذي ينزل فيه؟
وسألها، قالت: في آخر الشارع يوجد موقف للتاكسي.
ونظر إليها وهي تجيب، ولأول مرة أحس أنه ينظر لها بقوة وسيطرة، كان قد اجتاز الأزمة بتفوق، كان وجهها هادئا مستريحا يحفل بالاكتفاء والابتسامة الزائدة عن حدها قد اختفت تماما من ملامحه.
وكاد يؤنبها بينه وبين نفسه على هذا الإحساس، لولا أنه كان قد انتهى تماما منها ولم تعد تهمه في شيء.
وبعد أن مر بالمشط على شعره، وتحسس كالعادة علبة سجائره وسلسلة مفاتيحه واطمأن إلى أن كل شيء على ما يرام، لم يبق أمامه إلا أن يغادر البيت وتنتهي الليلة، خاصة وأنها كانت قد انتهت فعلا وبدأت أضواء الصباح النابتة الزرقاء تمتد إلى الحجرة مخترقة حجب الشيش والزجاج.
ولكنه لا يدري لم وقف محرجا يتردد بين الخروج والبقاء. لقد تم له - ولو بعد مآس كثيرة - كل ما أراده، فما الداعي لكل هذا التردد بين الذهاب والبقاء؟
وأي شيء يريده؟ هو نفسه لم يكن يدري ... ولكنه كان يحس بشيء يؤرقه. لا، لم تكن خيبة الأمل، ولم يكن كذلك تأنيب الضمير، كان بالتأكيد شيئا آخر.
لقد كان طول الوقت الذي مضى مع نوسة زوجته، كان معها بجسده وعقله وكل ذرة فيه. ولولا هذا لما استطاع أن يلعب دور الرجل، بل دور الأفريقي. وهذه المرأة الراقدة تجتر إحساسها بالشبع كانت تظن أنه معها. لا وحياتك لم أكن معك، أما أنت يا نوسة، فلو عرفت ما حدث لظننت أني قد أخللت بعهدي لك، هراء لم يحدث شيء من هذا، لقد كنت طول الوقت معك.
अज्ञात पृष्ठ